نتناول في هذه المقالة جانب من مسارات حركة الإصلاح المعرفي في الأمة, وهو المسار الخاص بالبحوث والدراسات التي ارتبطت بهذا الاتجاه الإصلاحي خلال القرن العشرين.
من الدراسات التي عالجت مضامين حركة الإصلاح المعرفية دراسة فهمي جدعان: أسس التقدم عند مفكري الإسلام,([1]) وهدفت هذه الدراسة إلى تقديم صورة لإسهامات المفكرين العرب المسلمين الحديثة عبر فترة زمنية تبلغ قرنا كاملا (1850 – 1950)، وذلك من خلال تحليل الإسهامات الفكرية التي قدمها هؤلاء المفكرون، والتي يعتبرها صاحب الدراسة “الأساس الصوري الأوًّل لمشروع يستهدف العالم العربي كله. وتنطلق الدراسة من اعتقاد بأن قطيعة كاملة مع الأصول لم تحدث في الفكر العربي الحديث إلا في دوائر محدودة جداً. وإن الطرح الصحيح لهذا الفكر يكمن في القول إن الهواجس الحديثة قد ظلت مطلة باستمرار، في القطاع الكبير من تجلياته..أما أولئك الذين أداروا ظهورهم للأصول وطرحوا مفهوم النهضة العربية على أسس مقطوعة الصلة بالأصول فلم تتوجه إليهم الدراسة، لأن الدراسة بالأساس تبحث في المنطلقات العربية للتقدم.
تناولت الدراسة أكثر من أربعين مفكراً عربياً مسلماً، بحثت في إسهاماتهم عن “أسس التقدم” ومنطلقاته ومبادئه تلك التي بدأت كما يذكر صاحب الدراسة “مع ابن خلدون لا مدافع نابليون. وقد طرحت هذه الأسس تحت عناوين: ميتافيزيقا التقدم، الحقيقة والتاريخ، الدخول في الأزمنة الحديثة، التوحيد المحرر، دروب الفعل، القيم، نظرة إلى الوراء، نظرة إلى الأمام.وقد توصلت الدراسة إلى عدة نتائج أهمها: أن التحول الحادث في مفهوم التوحيد الكلاسيكي قد انتهى, في الأعمال الحديثة, إلى صيغة دينامية حية. صريحة كفت فيها العقيدة على أن تكون مبادئ فلسفية، وأصبح الدين ذا وظيفة اجتماعية صريحة اتخذت أحياناً شكل الوظيفة السياسية الخالصة. كما أبرزت الدراسة أيضاً اتفاق المفكرين على أن العالم العربي لن يستطيع أن يتقدم إلا إذا وضع حداً لحالة “الفصام النكد” بين الدين والدولة أو الإسلام والدولة.
أما دراسة ماجدة مخلوف “الإصلاح والتجديد في تركيا”([2]) حاولت تتبع حركات الإصلاح في تركيا خلال القرنين الـ 19 – 20, وقد أكدت الدراسة أن المشكلة التي يعيشها المسلمون من القرن التاسع عشر الميلادي تكمن في محاولة الوصول إلى صيغة تحقق لهم المواءمة بين موروثهم الثقافي والحضاري، وبين الغرب بثقافته وحضارته. وتشير صاحبة الدراسة أنه في ضوء هذه الإشكالية، فإن تتبع محاولات الإصلاح ثم التجديد التي تمت في الدولة العثمانية بدءاً من القرن الثامن عشر حتى قيام الجمهورية التركية في الربع الأول من القرن العشرين تشير إلى أمرين ثابتين: الأول، أن محاولات الإصلاح، ثم التحديث، ثم تغيير الأساس أو التجديد في الدولة العثمانية، ثم الانسلاخ الكامل من جلدها، كلها نبعت من النخبة على أثر هزائم الدولة العثمانية العسكرية في حروبها مع القوة الأوروبية، أي أنها جاءت كرد فعل على الهزائم العسكرية ثم المعنوية. وكأن رد الفعل يتزايد بعد كل هزيمة عسكرية بشكل مضطرد يدفع بالدولة العثمانية من الأصالة إلى التغريب. والثاني: أن محاولات الإصلاح والتجديد كانت كلها عبارة عن تجاذب بين طرفين هما الإسلام والعلمانية.
ومن الدراسات التي انشغلت بمداخل الإصلاح ومنهجياته دراسة السيد عمر”مداخل الإصلاح في الأمة: جدالات الديني والسياسي”([3]). اهتمت هذه الدراسة بتحديد مداخل الإصلاح في مجالين أساسيين هما المجال الديني، والمجال السياسي. وقد صنفت مداخل الإصلاح إلى فئات ثلاث: مداخل الإصلاح التوحيدية، مداخل الإصلاح الوافدة، والتابعة، ومداخل الإصلاح المختلطة التي تجمع بين المدخلين الأولين. قسمت الدراسة مداخل الإصلاح التوحيدي إلى ستة مداخل هي: المدخل المقاصدي للإصلاح في الأمة، ومدخل التبنى المشروط للخيار الديمقراطي، ومدخل منهاجية إسلامية المعرفة، ومدخل منهج النظر للإصلاح، والمدخل الأصولي للإصلاح، ومدخل الكمنويلث الإسلامي للإصلاح.
أما مداخل الإصلاح الوافدة والتابعة فقد صُنفت في أربعة مداخل وهي : مدخل الأصوليات الغربية المعاصرة للإصلاح في الأمة، مدخل المفاصلة بين الدين الإسلامي والسياسي، مدخل اختزال الدين في البعد الروحي، مدخل تخليق هويات إقليمية مضادة للعروبة والإسلامية. والمداخل المختلطة للإصلاح قسمتها الدراسة إلى أربعة أقسام: مدخل الدستورية الإسلامية المضمون الغربية الوعاء، ومدخل تغيير طبيعية المؤسسة السياسية، ومدخل جدلية الإسلام الجامع، والمدخل الحركي للإصلاح في الأمة.
وقد اهتمت الدراسة ببيان المباني والأسس التي تقوم عليها المداخل المتضمنة داخل هذه الفئات الثلاث، وتحديد إشكالاتها ومقولاتها الأساسية وعوامل نشأتها وأبعادها في الفضاء الفكري.
وقد توصلت الدراسة إلى نتيجة رأت أنها أهم ما يمكن الخروج به من رسم هذه الخريطة الأولية لمداخل الإصلاح في الأمة وهي “أن الأنظمة الحاكمة والقوى السياسية بكافة توجهاتها بما فيها القوى الإسلامية قد نحت في مبادرتها للإصلاح باتجاه المبادرات الوافدة، أكثر من توجهها نحو مداخل الإصلاح التوحيدية، على الرغم من كل ما أوردته من انتقادات للمبادرات الوافدة. كما أن المدارس الفكرية لا تزال بحاجة إلى فك أسر المفاهيم الإسلامية وإعادة بنائها من الأرضية الإسلامية، من موقع المبادرة، وإعادة بناء الإدراك الإسلامي لعالم المفاهيم. وأكدت الدراسة على أن الإصلاح الحقيقي يستدعي في آن واحد: ضرورة الإبداع المصطلحي والاستقلال، والتفوق المصطلحي على الصعيدين الكيفي والكمي. وأهم مصطلح هو مصطلح الذات.
وهناك أدبيات أخرى اهتمت بمسيرة الإصلاح الإسلامي ومضامينه الفكرية والمعرفية، ومشاريعه وحركاته الاجتماعية والسياسية، مثل دراسة “الشهود الحضاري للأمة الإسلامية” لعبد المجيد النجار([4])، التي تضمنت دراسة حركات النهضة الإسلامية خلال قرنين وتصف القرن وذلك للبحث عن إجابة تساؤل: لماذا لم تبلغ تلك الحركات أهدافها ؟ وقد قسم دراسته إلى ثلاث أقسام، الأول: يتناول قضية فقه التحضر الإسلامي، والثاني، عوامل التحضر الإٍسلامي، والقسم الثالث مشاريع الإشهاد الحضاري, وكذلك دراسة أنور الزغبي([5]) “مسيرة المعرفة والمنهج في الفكر العربي الإسلامي” والتي حاولت تتبع المسألة المعرفية في مسيرة الفكر الإسلامي في أبعادها التاريخية، والعوامل التي أثرت فيها، من عصور الريادة وصولاً إلى سيرة التراجع والنكوص ثم سيرة الاستعادة واليقظة والنهضة مستعرضاً تيارات الفكر الإسلامي بدءاً من المتكلمين والفقهاء وصولاً بجهود اليقظة والإصلاح في العصر الحديث.
نخلص إلى أهم ما تضمنته أفكار ورؤى الإصلاح المعرفي في العالم الإسلامي خلال القرنين الماضيين من نتائج ويتمثل في الإشارة إلى عنصرين مثَّلا مدار النظرة المعرفية للإصلاح المعرفي وهما: الموقف من ” الغرب” ومشروعه الفكري، وذلك من خلال تقديم قراءة له تختلف عن القراءة الاستلابية التغريبية وأيضاً القراءة التخويفية، فكلتا القراءتان أوقعتا العقل المسلم في مآزق ومنزلقات وتشوهات لم يتعاف منها بعد. وقد انطلقت هذه القراءة من ” الوعي بالآخر” الذي هو أيضاً جزء من الوعي بالذات المدركة، وطرحت هذه الجهود تلك القراءة في ضوء عدة محددات هي: إدراك الفكر الغربي في ضوء سياقاته الفكرية والاجتماعية والتاريخية التي تجلى فيها نموذجه المعرفي، النظر إلى المنهج الغربي انطلاقاً من النهج التوحيدي الحضاري المقابل له والمتمايز لأطروحاته، ثم الخلوص إلى العناصر المعرفية ومضامينها الكلية (المفاهيم والقيم والتصورات ومناهج النظر والتفكير) التي تشكل النموذج المعرفي الغربي وتفنيدها في ضوء رؤية مرتكزة على نموذج متجاوز.
أما العنصر الثاني فهو “الدين” وهو المشترك الثاني في “الناظم الفكري” بين رواد حركة الإصلاح المعرفي، لا سيما ما يتعلق باعتباره سبيلاً ومصدراً لأي إصلاح مبتغى في الأمة ومصدر بنائها المعرفي الأول ووعاء تصوراته ومفاهيمه الأساسية، وفي هذا الإطار اتفقت المشاريع الإصلاحية التي طرحت في الأمة على عدة منطلقات أساسية في مسألة الإصلاح المعرفي وهي:
1- ضرورة العودة إلى الإسلام مصدراً لبناء النهضة المنشودة ومولداً ذاتياً للوعي، ومرجعاً لنموذجها المعرفي التوحيدى، مثل دعوات (العودة إلى الإسلام الأول)، و(العودة إلى فهم السلف الأول للدين)، و (العودة إلى الذات).
2- إحياء قنوات الاتصال والتفاعل- تلك التي انقطعت عبر قرون- بين المسلم ومنابع فكره الأصيلة ” الوحي” وتفعيلها, وذلك دون وسائط أو حصون كانت حاجزاً لمباشرة العقل المسلم وظائفه الحيوية في إطار الوحي.
3- التأكيد على إصلاح وإحياء علم الكلام وتجديد مباحثه بما يتناسب مع التحديات الفكرية والمعرفية المستجدة والتي تتصل بالنموذج المعرفي الغربي و محاولة فرض هيمنته على الثقافات والحضارات المعاصرة, بما يحقق الوعي الحضاري للذات المسلمة في تفاعلها مع الغرب ومشروعه الفكري.
وفي ضوء هذه المنطلقات يمكن استنباط مجموعة من “الأسس المعرفية” قدمتها هذه الجهود لاستعادة حيوية البناء المعرفي ومعالجة تشوهاته من خلال عدة محاور:
1- إعادة اكتشاف “النموذج المعرفي التوحيدي” وعناصره الأساسية: التصورات والمفاهيم وطرق التفكير.
2- محورية الذات في “الإصلاح المعرفي” و استعادة بنائها، وهو ما يتطلب طريقين: التخلية ثم التحلية, التخلية مما الصق بها من شوائب، والتحلية بالعناصر والتصورات الأساسية في منهجنا الحضاري.
3- إصلاح منهج النظر للوحي بما يُمًّكن من استعادة اللقاء المباشر بين العقل المسلم وبين الوحي.
4- تجديد منهج النظر في التراث, وتناوله بعيداً عن القداسة المفرطة أو الإهمال والترك الكامل.
5- تشغيل” العقل” المسلم وإحياء دوره في “الاجتهاد” كعامل أساس في بناء المنظومة الفكرية والقيمية التوحيدية وتشغيلها.
([1])جدعان, فهمي. أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث، بيروت المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1979.
([2])مخلوف, ماجدة. “الإصلاح والتجديد في تركيا في القرنين 13 – 14هـ / 19 – 20م”, مؤتمر اتجاهات التجديد والإصلاح في الفكر الإسلامي الحديث، الإسكندرية 19 – 21 يناير 2009 .
([3])عمر, السيد.” مداخل الإصلاح في الأمة : جدالات الديني والسياسي “, في: الإصلاح في الأمة بين الداخل والخارج, تقرير أمتي في العالم، القاهرة, مركز الحضارة للدراسات السياسية, 2006.
([4]) النجار, عبد المجيد عمر. الشهود الحضاري للأمة الإسلامية(ثلاثة أجزاء), القاهرة, دار الغرب الإسلامي,ط2 ,2006.
([5]) الزغبي,أنور. مسيرة المعرفة والمنهج في الفكر العربي الإسلامي, الأردن, المعهد العالمي للفكر الإسلامي,2007