بداية لا بد وأن نقرر أنه من الصعب على أي باحث في سياق هذا المصطلح الفضفاض “الإعلام الإسلامي” أن يخرج بتعريف واضح محل اتفاق بين من تناول هذا المصطلح بالتعريف والتحليل.
وهذه الصعوبة _بل والاستحالة_ منشؤها اختلاف منطق النظر إلى المصطلح ذاته، فبعضهم ينظر إليه من بعده التاريخي فيبدو وكأنه مفهوم تراثي قاصر على ممارسات تمت في عهد النبوة او عهد الخلافة الراشدة يقيسون عليها كل ما يصدر فيضيق أفق المصطلح لدرجة بعيدة، ويصبح قيمة كثر من كونه وسيلة لها قواعدها الاحترافية!
ومنهم من ينظر إليه من بعد جغرافي يجعله هو الإعلام الصادر عن دولة إسلامية التوجه أو كيان إسلامي، وهي نظرة خطيرة لأنها تنظر إلى المصدر دون الاخذ في الاعتبار أساليب هذا الإعلام ومضامينه وتوجهاته.. وبالتالي يحسب على التجربة ما ليس منها، ويتزيا بزي الإسلام من هو بعيد عنه!
ومنهم من ينظر إليه من بعده المهني التخصصي وهذه النظرة غالبا ما تحصر هذا النوع من الإعلام في ركن الفتاوى أو الصفحة الدينية، وبالتالي فهو نوع من العلمنة التي تجعل الدين مجرد طقس وشعيرة في مسجد، أو صفحة في جريدة وبرنامج في قناة!!
صعوبة تحديد المصطلح إذن نابعة من اختلاف زوايا النظر، لكن المصطلح على أية حال وباختصار وبلا أية حمولات زائدة على ألفاظه هو نوع من الإعلام يتبنى توجها إسلاميا في مضامينه وآليات وصوله للمتلقي.
وهنا تحديدا تكمن إحدى أزمات التعامل مع الإسلام كمنهج وشريعة تستعصي على حصرية الفهم أو حصرية التحدث باسمها، حيث لا يمكن مطلقا أن يزعم تيار أو كيان او حزب او جماعة أو حتى دولة أنها إسلامية دون غيرها بالنظر إلى اتساع مفهوم الإسلام كمنهج قادر على قيادة المجال العام بكل مفرداته.
وبناء عليه أيضا تتعدد الوسائل الإعلامية التي تطلق على نفسها “إسلامية” وبين كل واحدة منها وبين الاخريات ما بين السماء والأرض.. مضمونا وجوهرا، ومنهجا وأسلوبا، بل وآليات ووسائل.
إذن أين الازمة؟ هذا سؤال منطقي… الازمة برأيي هي ازمة احترافية مفتقدة لوصول الرسالة الإعلامية “الإسلامية” كما يدعيها كل مدندن بانه يقدم إعلاما إسلاميا.. أيا كان مضمونه وأيا كان جوهره، وأيا كان منهجه وأسلوبه وآلياته!
ومادمنا سنتحدث عن الاحترافية فينبغي بداية أن نؤكد على مجموعة من الملاحظات الهامة:
– غالبية الخطاب الصادر عن هذه الوسائل على اختلاف منطلقاتها الفكرية سنية او شيعية، وسطية او متطرفة بحسب رؤية الآخر لها_يمثل حالة من الجمود في مقولاته ولغته، ومصطلاحاته وتأويلاته، جمود نابع من احادية زاوية الرؤية والفهم والتعامل، وبالتالي تخندق كل فصيل حول وسائله، فانعكس ذلك على طريقة التفكير ولغة الخطاب في كل مكان في العالم العربي على وجه التحديد، والذي يعاني من تلك التشرذمات الفكرية.
– وضوح البعد السياسي في معالجات تلك الوسائل تبعا لاختلاف توجهها، وكأن الدين أصبح إحدى وسائل هذا الصراع السياسي المحموم، وبالتالي فقد زاد ذلك من حالة تأصيل العنف الخطابي والفكري، عنفا حمل مزيدا من الظلال على فهوم الشباب وكون بيئة خصبة لنمو التيارات العنيفة.
– اختلال ميزان الاولويات لدى كثير من تلك الوسائل، ففي الوقت الذي يعاني فيه سكان دولة ما من ازمات معينة فإن إعلامها الموسوم بانه إسلامي يحارب في ميدان آخر لا علاقة له بالمتلقي الذي هو حالة استهدافه الاساسية، ومن هنا تحدث حالة الانفضاض الجماهيري المنعكسة في ترتيبات نسب المشاهدة وغيرها.
– لعب بعض تلك الوسائل على البعد المذهبي “قنوات كالكوثر وأهل البيت مثلا”، مما يؤدي لحالة من الشحن التي تزيد من ازمات دول بعينها.
– عدم وضوح هدف فكري ناضج يتم العمل عليه من خلال أدوات احترافية توفر حالة نجاح لتلك الوسيلة _قناة او جريدة أو موقعا_، بحيث لا يوجد بها كوادر قادرة على صياغة رؤية ورسالة محددة يعمل الجميع على الوصول لها!!
– تداخل وتحكم رأس المال وممثليه _ دولا أو كيانات أو أفرادًا _ في تحديد الاطر العامة مما ينعكس على حالة الاداء والتنفيذ سلبا من حيث عدم تمتعهم بالتخصص الذي يسمح لهم بالإبداع أو التوجيه الصحيح على أقل تقدير!
– تقتير الانفاق على تلك الوسائل في بعدها المهني، فرواتب الفنيين فيها أقل خمسة أضعاف على الأقل من نظرائهم في وسائل أخرى محسوبة على اتجاهات غير “إسلامية”، وبالتالي لا يمكث فيها إلا المفتقدون لأدنى درجات الاحتراف مما ينعكس على الصورة العامة.. شاشة أو نصا!
– سيادة الطابع المحلي في بعض الوسائل ذات الإمكانات العالمية كالفضائيات، حيث تهتم بقضايا محلية الطابع دون تخصيص جزء ولو بسيط من برامجها للقضايا والاحداث العالمية، مما يعزز عدم إدراك لطبيعتها وإمكاناتها من حيث كونها فضائية ترى في كل مكان بالعالم.
– غياب منطق التدريب والتطوير عن تلك الوسائل واعتماد منطق اهل الثقة بل _والشللية_ في كثير منها، وعدم اعتمادها سياسات الجودة في مختلف مناحيها الفنية تحديدا.
وبعيدا عن العمومية وفي إطار الحديث عن تجارب محددة فإن وسائل كثيرة تبرز في الأفق العربي تظهر صدقية تلك الملاحظات وانطباقها عليها، من حيث غياب الهدف والرؤية والرسالة، ومن حيث عدم اعتماد أساليب الجودة والتدريب والتطوير، بمعناه الاحترافي.
فقناة الناس مثلا.. هي “قناة تأخذك للجنة”، بحسب شعارها القديم، طريق الجنة كان هو الطريق الذي يفهمه دعاة السلفية الذين يسيطرون على شاشة قناة الناس وقتها، وكان الخطاب خطابا جامدا لدرجة جعلته يخلو تماما من اية لمسات إعلامية يمكنها مساعدتهم في إيصال رسالتهم؛ بغض النظر عن كونها محل اتفاق منا او اعتراض، فالحديث هنا حديث عن احتراف أساليب بعد وضوح رؤية وهدف!
كانت كوادر القناة وقتها تظن على مستوى الإعداد مثلا أن مهمتها تنتهي مع حضور الضيف للاستوديو، وعلى مستوى الإخراج تنتهي مهمته مع تصويب الكاميرا على وجه الضيف أو الشيخ!!
افتقاد الاحتراف هو أصل الازمة، ليس الحديث هنا عن طبيعة الخطاب وصوابيته، وإنما عن وسائل إيصاله، والدليل أن القناة ذاتها حينما بيعت عقب احداث الثالث من يوليو في مصر لأحد رجال الإعلام المالكين لفضائيات “علمانية” الاتجاه، لم يتغير الامر كثيرا، فذات المنطق هو هو، وذات التعامل هو هو، ونظرة المعد ونظرة المخرج كما هي… شيخ وكاميرا !!!
التعامل إذن مع هذا النوع من الإعلام “الإسلامي” يبدو وكأنه يتحرك وفق منهج الترسو.. الدرجة الثالثة.. هذه هي تصوراتهم عنه، وتلك هي درجته عندهم، سلفيين او ازهريين، أو وسطيين، سنة أو شيعة !!
وينبغي أن أنبه هنا إلى أن الاحتراف ليس في الوسائل فحسب بل في الأفكار أيضا.. “فالمفهوم الحقّ للإعلام الإسلامي هو المفهوم المنهجي، الذي لا يجعل مقاييس إسلامية الإعلام مبنية على أساس الحدود الجغرافية والمكانية، أو الوضعية التاريخية المحدودة، أو الممارسة الواقعية الخاطئة للإعلام في الحياة، بل يبنى تلك المقاييس والمعايير على أساس المنطلقات الرئيسة والأطر الفكرية والاجتماعية والإنسانية المنبثقة من روح الإسلام وتصوراته الكلية وقيمه السامية، وعلى أساس الضوابط الشرعية التي ينبغي أن يسير الإعلام على هدي منها، ويلتزم بها في نشاطاته المختلفة وممارساته الواقعية .
إن الإعلام الإسلامي – بهذا المفهوم المنهجي – روح تسري في النشاط الإعلامي كله، تصوغه، وتحركه وتوجهه منذ أن يكون فكرةً إلى أن يغدو عملاً منتجاً متكاملاً، مقروءاً كان أو مسموعاً أو مرئياً، وبذلك يصبح الإعلام الإسلامي منهجاً قويماً تسير وفقه جميع النشاطات الإعلامية في كافة الوسائل والقنوات دون أن يحيد نشاط واحد منها عن الطريق، أو يتناقض مع النشاطات الأخرى سواء في الوسيلة الواحدة أو الوسائل المتعددة، وبذلك – أيضاً – يصبح الإعلام الإسلامي حكماً موضوعياً تتحاكم إليه جميع هذه النشاطات الإعلامية ثم لا يجد نشاط منها حرجاً في التسليم لحكمه والإذعان لتوجيهه…”.
احتراف الفكرة والمنهج إذن وفهم خصائصه وصياغة الرسالة والرؤية والهدف على أساسه هو اعلى انواع الاحتراف داخل منظومة عمل الإعلام الإسلامي.
ولأن الإعلام علم له قواعده وأصوله فإن احترافه أيضا يفرض أن يفهم القائمون عليه أن “جميع نظرياته المعاصرة تسعى إلى تحقيق الوظائف أربع، هي: الإخبار، الترفيه، التثقيف، التنمية، وإن أي طغيان لمادة على أخرى يؤدي إلى خللٍ في الرسالة ينعكس سلبًا عليها، أردنا ذلك أم لم نُرِد، ورغم تداخل الوظائف الأربع مع بعضها إلى درجة يصعُب معها الفرز أحيانًا..”*، إلا أن ما يمكن ملاحظته هنا هو قدرتنا على اختيار البرامج في الفضائيات أو الموضوعات في المواقع او الجرائد والمجلات التي تحتوي الأركان أعلاه.. بما يخدم الهدف والرسالة.
بقي أن نشير نهاية إلى ان وهما كبيرا يسوقه البعض ويطالب به تحت عنوان “ميثاق الشرف الإعلامي” وكأنه ما زال يعيش في عصر البوليس السياسي والراديو الترانزستر… متغافلا عن السماوات المفتوحة ومواقع التواصل التي بدأت تسحب البساط من تحت أقدام الفضائيات ذاتها والتي لا يمكن السيطرة عليها لا من دولة ولا كيان، ولا تحكمها قوانين غير قوانين مرتاديها ومنشئيها.. ناهيك عن الجرائد والمجلات الورقية التي أصبحت “موضة وقدمت”!!