استضاف قسم دراسة المجتمعات المسلمة المعاصرة، بكلية الدراسات الإسلامية، جامعة حمد بن خليفة قطر، البروفسور مارك سغويك، محاضر الدراسات الشرقية في جامعة أرهس الدنماركية، وصاحب التخصص العميق في تاريخ الثقافات الشرقية، ودراسة التراث الإسلامي يوم الاثنين الفائت في ندوة عامة تحت عنوان: التعريف بالشيخ محمد  عبده.. دراسة حياته وترجمته.

أفرد مارك دراسة خاصة تعنى بالشيخ محمد عبده طاف خلالها على أهم محطات حياة الشيخ وأثار بعض القضايا لها علاقة بشخصيته، وكيف تقلب بين عدد من الوظائف الرسمية بدءا من كونه متعلما في أطوار دراساته المنهجية في جامعة الأزهر لمدة قريبة إلى عقدين، وهو يتربى في رواق الأزهر، ويتنعم بعلوم التراث ثم يتعين مدرسا فيه، إلى وقت انتقاله إلى مجال الصحافة، ثم نفيه إلى فرنسا، فالتقائه بجمال الدين الأفغاني، وتعيينه بعدُ مدرس التربية الإسلامية في بيروت، ثم عودته الأخيرة إلى مصر مسقط رأسه قاضيا ومفتيا.

أفتى بجواز التأمين على الحياة والممتلكات، كما حكم بجواز أكل ذبائح نصارى (ترنسفآل) في جنوب إفريقيا

أثبت الدكتور مارك أن تقلبات محمد عبده في مسيرته المهنية أثارت الجدل حول شخصيته كثيرا، ففي وقت يراه البعض أنه رجل متدين، يراه الآخرون أنه إنسان مثير للجدل، لديه عدد من الشبهات خصوصا في مواقفه السياسية المتقلبة، وفتاواه الغريبة، لذلك رأى المحاضر مارك ضرورة دراسة هذه الشخصية، وهذا ما دعاه إلى هذا النوع من الدراسة، بل اعترف د. مارك أنه لم يعرف الشيخ عبده حق المعرفة حتى عايشه بالدراسة لمدة لا تقل عن سبع سنوات!

تناولت المحاضرة ثلاث مجالات من حياة الشيخ عبده رحمه الله في سياق التساؤلات، أما المجال الأول فكان إجابة عن سؤال لماذا اختلفت نظرات الناس حول ابن عبده؟ والمجال الثاني أجاب عن سؤال ماذا يريد أن يعلمنا ابن عبده في عصرنا الحالي؟ والسؤال الثالث كان عن منهجية المحاضر في دراسته ولماذا اختار منهاج تعيين وتتبع التواريخ الدقيقة للأحداث (الكورنولوجيا) ؟ ولماذا اعتمده في دراسة حياة ابن عبده ؟

وللإجابة على سؤال المنهجية فالكاتب بدأ بها المحاضرة وقدمها على بقية التساؤلات ثم ختم بها، وقد رجح منهاج (الكرونولوجيا) لأنه يساعده على الفهم السليم لحياة المترجم كما يكشف بعض الشبهات المثارة حوله، وذلك حين يتم ترتيب الأحداث وتحليلها تباعا.

يرى مارك أن الشيخ محمد عبده رغم تلقيه علوم الأزهر، وعمله لفترة جيدة فيه، إلا أنه كان يحمل فكرة تحررية مما دعته إلى العمل في جريدة “الوقائع المصرية” الرسمية للدولة، ورأس لجنة تحريرها فترة عمله فيها، واستعمل هذه الجريدة للدعوة إلى التحرر، وتحسين مستوى التربية، وكذا محاربة الفساد، والخرافات الصوفية، ومقاومة الاستعمار البريطاني. وكان هذا السبب أدى إلى إبعاده من مصر ونفيه لست سنوات. وفي سنة 1885، التقى بجمال الدين الأفغاني وقربه الأخير إليه، وكان تأثيره على الشيخ عبده كبيرا، ثم غادر فرنسا إلى بيروت ليتعين في مدرسة فرنسية علمانية، وهي مدرسة السلطانية، وبحسب رأي الدكتور مارك يمكن أن يتساءل على أي خلفية ترك عبده صاحبه الأفغاني؟ وهذا الجانب يحتاج إلى البيان والبحث.

وخلال عمله في مدرسة السلطانية كان ينزعج من اهتمام الطلاب بالحضارة الفرنسية الوافدة، وتصنيف الإسلام في مستنقع التخلف والرجعية، لذلك جمع منهجا في التربية الإسلامية سماه “رسالة التوحيد”، ثم عاد بعد فترة إلى موطنه الاول، مصر، وعمره حينذاك 39 سنة، ورجع إلى وسط السياسة، فاشتغل قاضيا، ورأس الأوقاف ثم جمع إلى ذلك كله منصب الإفتاء حين بلغ 50 سنة من عمره، وبهذا المنصب يكون الشيخ عبده عمل في ست وظائف مختلفة خلال مسيرته المهنية.

كان يعارض الاستبداد والفساد ويدعو إلى الجهاد ضد الإنكليز ويشيد بالتمسك بالوطن والقومية العربية

وأشار الدكتور مارك أن العوامل التي ساعدت الشيخ عبده على حركته التحررية والتجديدية في المجتمع المصري ثلاثة أشياء، أولها علاقته بجمال الدين الأفغاني ودراسته لكتب الفلاسفة الشيعية، وتعرفه على بعض صناع القرار في الغرب، ثم انضمامه إلى الحركة السرية الماسونية وقتها.

والعامل الثاني انخراطه في مجال الصحافة والتصنيفات المختلفة، وتنشط هذا الجانب أكثر بعد عودته الأخيرة إلى مصر، نشرت له مقالات ومحاضرات في مجلة المنار التي كان يصدرها الشيخ محمد رشيد رضا، وكان يعارض الاستبداد والفساد ويدعو إلى الجهاد ضد الإنكليز ويشيد بالتمسك بالوطن والقومية العربية.

والعامل الثالث حين تم تعيينه مفتي الديار المصرية، أصدر فتاوى متعددة استعد بها خصومه من علماء التراث عليه، وكونه يفهم التراث ويعرف مآخذه، بالإضافة إلى قراءته العميقة للنظريات السياسية والفسلفيات المعاصرة له، كان يراعي وقائع العصر في فتاواه، مما دعاه إلى مخالفة بعض المذاهب الفقهية، وكثر اعتراضات علماء عصره عليه، من ذلك أنه أفتى بجواز التأمين على الحياة والممتلكات، كما حكم بجواز أكل ذبائح نصارى (ترنسفآل) في جنوب إفريقيا، وجوز أخذ المستهلك الربا. وكان يرى بالجمع بين التراث والمعاصرة والاجتهاد في تنزيل الأحكام على الوقائع المستجدة، وهذا ما يخالفه عليه علماء المذاهب، بل كان ينكر التقليد ويناقضه.

وحين دخل في السياسة تبدلت مواقفه مرات، وكان في الأول يدعو إلى القومية العربية، ثم بدل موقفه حين ساند الحفاظ على الدستور العثماني، وهذا جعل المثقفون يقررون أن الشيخ محمد شخصية مثيرة للجدل.