لطالما كان التفاعل بين المسلمين والمسيحيين محورًا أساسيًا في التاريخ الإنساني، حيث أسهمت كلتا الديانتين في تشكيل الحضارة العالمية. فلقد ساهمت الحضارة الإسلامية في حماية التراث المسيحي ونقله إلى أوروبا عبر حركة الترجمة في العصر العباسي، كما لعبت المجتمعات المسيحية في الشرق الإسلامي دورًا بارزًا في النهضة الفكرية والعلمية للحضارة الإسلامية. بالمقابل، كان للوجود الإسلامي في الأندلس وصقلية تأثير عميق في تشكيل الفكر الأوروبي خلال العصور الوسطى. لكن مع ذلك، شهدت العلاقة بين المسلمين والمسيحيين نزاعات سياسية وعسكرية كالحروب الصليبية والاستعمار الغربي، مما أدى إلى تعزيز الصور النمطية السلبية المتبادلة بين الطرفين.
وفي العصر الحديث، ومع دخول العالم في مرحلة العولمة والرقمنة، شهدت العلاقة بين المسلمين والمسيحيين تحولًا جذريًا بفضل الإعلام الجديد. فقد أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت تؤثر بشكل مباشر في تشكيل التصورات المتبادلة بين أتباع الديانتين، وهو ما أثار تساؤلات حول دور هذه الوسائل في تعزيز الحوار والتفاهم، أو تأجيج العداء والصراعات الدينية.
وفي هذا السياق، يعد كتاب “أثر الإعلام الجديد على التعايش الإسلامي المسيحي في القرن الـ21” من تأليف الدكتور الدكتور أحمدو نور الحق، دراسة أكاديمية معمقة تتناول التأثير المتنامي للإعلام الجديد في إعادة تشكيل العلاقة بين المسلمين والمسيحيين في العالم المعاصر. يناقش الكتاب كيف أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي والفضاءات الرقمية تؤثر بشكل مباشر في تشكيل تصورات المسلمين والمسيحيين عن بعضهم البعض، سواء من خلال تعزيز قيم الحوار والتسامح، أو إذكاء النزاعات وتعزيز الصور النمطية السلبية.
نبذة عن المؤلف
مؤلف كتاب “أثر الإعلام الجديد على التعايش الإسلامي المسيحي في القرن الـ21” هو الدكتور أحمدو نور الحق، خبير إعلامي وأكاديمي متخصص في الإعلام الجديد والفكر الإسلامي المعاصر، ومدرب معتمد في مجالات الإعلام واللغة العربية من موريتانيا. حصل على دكتوراه في الإعلام الجديد من جامعة محمد الخامس بالمغرب، وماجستير في مقارنة الأديان من جامعة حمد بن خليفة في قطر، وبكالوريوس في الإعلام من جامعة قطر. عمل في مؤسسات إعلامية وأكاديمية، وساهم في تعزيز الحوار بين الأديان من خلال أبحاثه وكتاباته.
إشكالية الكتاب
يطرح كتاب “أثر الإعلام الجديد على التعايش الإسلامي المسيحي في القرن الـ21” سؤالًا محوريًا : إلى أي مدى يؤثر الإعلام الجديد على التعايش الإسلامي المسيحي؟ وهل يسهم في تعزيز الحوار والتفاهم أم يفاقم النزاعات ويعزز الصور النمطية؟
كما يسعى للإجابة على الأسئلة التالية:
- كيف تتشكل الصورة الذهنية للمسلمين والمسيحيين عبر الإعلام الجديد؟
- ما هي أبرز القضايا الدينية المتداولة على منصات التواصل الاجتماعي؟
- كيف تؤثر بيئة الإعلام الجديد على الصور النمطية حول الإسلام والمسيحية؟
- ما مدى تأثير الأخبار المزيفة وخطاب الكراهية على العلاقة بين أتباع الديانتين؟
- ما هي الأدوات والاستراتيجيات التي يمكن استخدامها لتعزيز التعايش السلمي عبر الإعلام الجديد؟
منهجية الكتاب
اعتمدت منهجية الكتاب على المناهج التالية :
- المنهج الوصفي التحليلي: لفهم طبيعة العلاقة بين الإعلام الجديد والتعايش الإسلامي المسيحي.
- تحليل الخطاب الإعلامي: لرصد وتحليل المضامين الإعلامية المتداولة.
- المنهج المقارن: لفهم الفرق بين تأثير الإعلام التقليدي والإعلام الجديد على العلاقات بين أتباع الديانتين.
محتويات كتاب أثر الإعلام الجديد على التعايش الإسلامي المسيحي في القرن الـ21″
يتكون الكتاب من بابين رئيسيين، يسبقهما فصل تمهيدي، ويعقبهما فصل ختامي يضم نتائج البحث وتحليل الاستبيان، ثم الخاتمة والتوصيات.
بدأ الكتاب بعرض تحليلي نقدي للدراسات السابقة، حيث ناقش مجموعة من الدراسات المتعلقة بالتعايش بين المسيحية والإسلام، بالإضافة إلى دراسات حول الإعلام الجديد، وهدف هذا العرض إلى تقديم خلفية معرفية شاملة للموضوع، وتوضيح الإطار العام الذي يدور حوله الكتاب.
أولا: المفاهيم والنظريات الإعلامية
انطلق الدكتور أحمدو نور الحق من الإطار النظري، حيث تطرق إلى المفاهيم المتعلقة بالبحث كمفهوم الإعلام والخطاب الإعلامي، والرأي العام، والتعايش، كما تعرض للمنطلقات النظرية، واختار المؤلف في هذا الصدد تطبيق نظريات إعلامية خاصة بالقائمين على الاتصال.
وفي الإطار النظري، أراد الدكتور نور الحق إثبات التداخل بين تحليل التعايش الإسلامي المسيحي في عصر الإعلام الجديد مع دراسات العلاقات بين الأديان ودراسات الإعلام والاتصال، مما فرض استعراض النظريات الأساسية التي تناولت العلاقة بين الأديان وتأثير الإعلام في تشكيلها.
وذكر الدكتور نور الحق الكيفية التي تطورت بها دراسات التعايش بين الإسلام والمسيحية عبر عدة اتجاهات فكرية، من أبرزها:
- أطروحة برنارد لويس: التي ترى أن العلاقة بين الإسلام والغرب تتسم تاريخيًا بالصدام، حيث يصور الإسلام على أنه تهديد مستمر للحضارة الغربية.
- نظرية صدام الحضارات لصامويل هنتنغتون: التي تفترض أن العالم مقبل على نزاع حضاري بين الإسلام والمسيحية الغربية بسبب اختلافاتهما الثقافية والدينية العميقة.
- أطروحة تزفيتان تودوروف: التي تنتقد مفهوم الصدام، مؤكدة أن هناك “حضارة إنسانية واحدة” تتنوع داخلها الثقافات، مما يجعل التفاعل بين الأديان ممكنًا على أسس مشتركة.
النظريات الإعلامية وتأثيرها على التعايش الإسلامي المسيحي
وعن دور الإعلام وتأثيراته في موضوع التعايش الإسلامي-المسيحي، أوضح الدكتور نور الحق في كتابه كيف لعب الإعلام التقليدي دورًا مهمًا في نشر المعرفة والتقارب، لكنه في ذات الوقت ساهم في نشر الصور النمطية السلبية، لا سيما خلال الأزمات. بخلاف دور الإعلام الجديد، فقد أدى إلى تغيير جذري في المشهد الإعلامي، وأعاد التذكير بنظريات الإعلام والاتصال في فهم كيفية تأثير الإعلام الجديد على التعايش بين المسلمين والمسيحيين، ومن أبرز هذه النظريات:
- نظرية الغرس الثقافي: تشير إلى أن التعرض المستمر لرسائل الإعلام يمكن أن يؤدي إلى تشكيل تصورات ثابتة عن العالم، مما قد يرسخ الصور النمطية حول الإسلام والمسيحية.
- نظرية دوامة الصمت: توضح كيف يمكن أن تدفع ضغوط المجتمع الأفراد إلى تبني رأي الأغلبية، حتى لو كانوا لا يتفقون معه، مما يؤدي إلى تفوق الخطاب المتشدد على حساب الخطاب المعتدل.
- نظرية الانضمام (Conversion Theory): تشرح كيف يمكن للأقليات النشطة على الإنترنت أن تؤثر بشكل غير متناسب على الأغلبية، مما يفسر انتشار الجماعات المتطرفة في الإعلام الجديد.
- نظرية الذاتية السبرنيطيقية: تدرس كيفية تطور الهويات الدينية عبر الإنترنت، حيث يتفاعل الأفراد مع بيئات رقمية تؤثر على فهمهم لأنفسهم وللآخرين.
من الإعلام التقليدي إلى الإعلام الجديد
قبل ظهور الإنترنت، كان الإعلام التقليدي (كالصحف والتلفزيون والإذاعة) المصدر الأساسي للمعلومات عن الأديان، وكان يخضع لرقابة أكثر صرامة. أما اليوم، فقد أصبح الإعلام الجديد مساحة مفتوحة للتفاعل غير المقيد، ما أدى إلى تغيرات جوهرية في طبيعة النقاش الديني:
- تآكل احتكار المؤسسات الإعلامية لموضوع التعايش الديني.
- ظهور الأفراد كصانعي محتوى مستقلين، حيث أصبح كل مستخدم ناشرًا ومؤثرًا.
- انتشار الأخبار الكاذبة والخطابات المتطرفة، بسبب غياب الرقابة الصارمة على منصات التواصل الاجتماعي.
ثانيًا: تأثير الإعلام الجديد على التعايش الإسلامي المسيحي
تناول الدكتور أحمدو نور الحق في القسم الثاني من الكتاب العلاقات بين المسلمين والمسيحيين تاريخيًا، من خلال دراسة العوامل التي ساهمت في التعايش، أو التي أدت إلى الصراعات بين أتباع الديانتين وتأثير الإعلام الجديد عليها واشتملت على:
- فترات التعايش والتعاون: يشمل دور المسيحيين في الحضارة الإسلامية، وتأثير الإسلام في النهضة الأوروبية.
- عوامل الصراع بين الديانتين: تشمل الخلافات العقائدية، الحروب الصليبية، الاستعمار الغربي، والإسلاموفوبيا في الإعلام الحديث.
- القيم المشتركة بين الإسلام والمسيحية: مثل التوحيد، الإخوة الإنسانية، العدالة، والتسامح.
دور الإعلام الجديد في رسم صورة التعايش الإسلامي المسيحي
ناقش مؤلف كتاب “أثر الإعلام الجديد على التعايش الإسلامي المسيحي في القرن الـ21” تأثير الأزمات العالمية على التعايش الإسلامي المسيحي في الإعلام الجديد، من خلال تحليل نماذج من أزمات بارزة، ودرس المؤلف :
- دور الفاعلين والمؤثرين في التعايش: تؤدي شخصيات عامة مثل الدعاة والمبشرين والفنانين والسياسيين دورًا كبيرًا في توجيه الرأي العام حول العلاقة بين الإسلام والمسيحية عبر الإعلام الجديد.
- رسائل المؤسسات الدينية في الإعلام الجديد، سواء الإسلامية منها مثل خطابات الأزهر على مواقع التواصل الاجتماعي الداعية لتعزيز التعايش بين المسلمين والمسيحيين أو المسيحية مثل رسائل الفاتيكان عبر الإعلام الجديد التي تدعو للحوار بين الأديان.
الإعلام الجديد في الأزمات العالمية
بين المؤلف كيف يتفاعل الإعلام الجديد مع الأزمات العالمية التي تؤثر على العلاقة بين المسلمين والمسيحيين، واستعمال وسائل التواصل الاجتماعي كأداة نقل للأحداث العالمية، وضرب أمثلة منها:
- هجمات فرنسا 2015: وكيف استُخدم الإعلام الجديد لتعزيز الإسلاموفوبيا في بعض الأوساط، بينما استخدمه آخرون لنشر حملات التضامن.
- هجمات نيوزيلندا 2019: حيث تم توظيف وسائل التواصل الاجتماعي لدعم المسلمين ضد خطاب الكراهية، مما يعكس الوجه الإيجابي للإعلام الجديد.
خصص المؤلف الفصل الأخير لعرض النتائج التي توصل لها من خلال البحث وتحليل الاستبيان، حيث قدم إجابات على أسئلة البحث المتعلقة بموضوعات التعايش المعروضة على وسائط الإعلام الجديد، والأدوات المستخدمة لنشر ثقافة التعايش، ومدى تأثير الإعلام الجديد على العلاقات الإسلامية المسيحية. ثم اختتم الدكتور أحمدو نور الحق بحثه بتقديم توصيات لتعزيز التعايش عبر الإعلام الجديد، وذيل الكتاب بقائمة المصادر والمراجع التي اعتمد عليها في دراسته.
الخاتمة
تبرز أهمية هذا الكتاب في كونه يقدم تحليلًا شاملًا للتأثير المتزايد للإعلام الجديد على العلاقات الدينية بين المسلمين والمسيحيين، وذلك في ظل التحديات التي تواجه التعايش الديني في العصر الرقمي. كما يهدف إلى تقديم رؤية علمية حول دور الإعلام الجديد في صناعة الصورة الذهنية للآخر، سواء إيجابيًا أو سلبيًا، ومدى تأثيره على التفاعل الاجتماعي بين أتباع الديانتين. ويؤكد الكتاب أن الإعلام الجديد يمكن أن يكون جسرًا للحوار أو أداة لتعميق الصراعات، ويتوقف الأمر على كيفية استخدامه. لذا، من الضروري توجيه استخدام الإعلام الجديد نحو دعم قيم التسامح والتعايش بين المسلمين والمسيحيين، والعمل على إيجاد استراتيجيات فعالة لمواجهة خطاب الكراهية عبر الإنترنت.
معلومات الكتاب
- العنوان: أثر الإعلام الجديد على التعايش الإسلامي المسيحي في القرن الـ21
- المؤلف: الدكتور أحمدو نور الحق
- الناشر: رابطة الكتاب والناشرين العرب – دبلن، إيرلندا
- تاريخ النشر: أكتوبر 2023 (ربيع الأول 1445 هـ)
- الرقم المعياري الدولي للكتاب (ISBN): 9789920583664