يُعدّ الإيثارُ أحدَ أهمّ الصفات والمشاعر الإنسانية التي ترشدنا إليها الشريعة الإسلامية، ويتلخص بتفضيل الفرد المسلم غيرَه من إخوانه المسلمين على نفسه في الحصول على بعض أو كل المنافع التي يحصل عليها، وهو أَعلى درجات السخاء وأكْمَلُ أنْواعِ الجود، ويتميز صاحبه بالخُلُق الحسن وحبّ الخير للآخرين وتفضيلهم على نفسه، حيث إن الشخص يقدم غيره على نفسه في المصالح رغبةً في الأجر والثواب من عند الله تعالى، ويتم الإيثار عن طيب خاطر ورضا نفس، ويدلّ على الأخلاق الفاضلة والحميدة ولا ينتظر المرء جرّاءه أي مقابل مادي، ويحصل المسلم به على خيري الدنيا والآخرة.

والإيثار في الاقتصاد الإسلامي هو مبدأ أخلاقي واقتصادي يتمثل في تفضiel مصلحة الآخرين على مصلحة الذات، ويؤدي إلى تعزيز الإنتاجية والتعاون وترسيخ قيم العدالة والرحمة في المجتمع الإسلامي، وهو في هذا على نقيض من الأنظمة الاقتصادية الوضعية التي تركز على المصلحة الذاتية المطلقة والاحتكار والربا وأكل أموال الناس بالباطل، ويعتبر الإيثار دعامة أساسية للمجتمع المسلم، حيث يساهم في استقرار الاقتصاد وخلق بيئة متكاتفة يسودها الحب والتعاون بدلًا من الضغينة والنزاع.

معاني الإيثَار لغةً واصطلاحًا[1]

  • لغةً: الإيثارُ مَصدَرُ آثَرَ يُـؤثِرُ إيثارًا، بمعنى التَّقديمِ والاختيارِ والاختِصاصِ؛ فآثَرَه إيثارًا: اختاره وفَضَّله، ويقالُ: آثَرَه على نَفْسِه، والشَّيءَ بالشَّيءِ: خَصَّه به.
  • اصطِلاحًا: الإيثارُ هو:
    • تقديمُ الغيرِ على النَّفسِ في حُظوظِها الدُّنيويَّةِ؛ رَغبةً في الحُظوظِ الدِّينيَّةِ.
    • أن يُقَدِّمَ غَيرَه على نفسِه في النَّفعِ له، والدَّفعِ عنه، وهو النِّهاية في الأخوة [2].
    • فضيلةٌ للنَّفسِ بها يَكُفُّ الإنسانُ عن بعضِ حاجاتِه التي تخصُّه؛ حتَّى يبذُلَه لِمن يستَحِقُّه[3].

ولا يستطاع الإيثار إلا بثلاثة أشياء: تعظيم الحقوق، ومقت الشح، والرغبة في مكارم الأخلاق, وكالآتي[4]:

الأول: تعظيم الحقوق، فإن من عظمت الحقوق عنده قام بواجبها ورعاها حق رعايتها واستعظم إضاعتها وعلم أنه إن لم يبلغ درجة الإيثار لم يؤدها كما ينبغي فيجعل إيثاره احتياطًا لأدائها.

الثاني: مقت الشح، فإنه إذا مقته وأبغضه التزم الإيثار، فإنه يرى أنه لا خلاص له من هذا المقت البغيض إلا بالإيثار.

الثالث: الرغبة في مكارم الأخلاق، وبحسب رغبته فيها يكون إيثاره، لأن الإيثار أفضل درجات مكارم الأخلاق.

إذن الإيثار هو تفضiel الأشخاص الآخرين على النفس ليعود ذلك بالمنفعة عليهم؛ مما يعني أن الشخص المُؤْثر يُفضل مصلحة الآخرين على مصلحته الشخصية ويسعى دائمًا إلى الحصول على الأجر والثواب من الله تبارك وتعالى دون أن ينتظر كلمات الشكر والثناء من الآخرين.

ويُعد خُلُق الإيثار من أقيم وأرفع صفات الكرم والسخاء ولا ينالها إلاّ كل شخص كريم مُحب للخير والعطاء، وقد حثنا الإسلام على الإيثار باعتباره فضيلة عظيمة وأخلاقًا عالية، ودعا إلى تقديمه على النفس، خاصة في أوقات الحاجة، وأثنى على أصحابه وجعلهم من المفلحين في الدنيا والآخرة. فالإيثار هو تقديم حاجة أخيك على حاجتك، وهو دليل على كمال الإيمان وتحقيق محبة الله.

الفرق بين الإيثار والسخاء والجود

ذكر ابن قيم الجوزية[5]: فروقًا بين كلٍّ مِن الإيثار والسَّخاء والجود، مع أنَّها كلَّها أفعال بذلٍ وعطاء، فقال: (وهذا المنزل أي الإيثَار: هو منزل الجود والسَّخاء والإحْسَان، وسمِّي بمنزل الإيثَار؛ لأنَّه أعلى مراتبه، فإنَّ المراتب ثلاثة:

إحداها: أن لا ينقصه البذل ولا يصعب عليه، فهو منزلة السَّخاء.

الثَّانية: أن يعطي الأكثر ويبقي له شيئًا، أو يبقي مثل ما أعطى فهو الجود.

الثَّالثة: أن يؤثر غيره بالشَّيء مع حاجته إليه، وهي مرتبة الإيثار).

الإيثار في الإسلام هو من أعلى مراتب الكرم والعطاء

يعدّ الإيثار خُلُقًا من الأخلاق التي جاء بها الإسلام وأوصى بها، فهو من أعلى مراتب البذل والكرم والسخاء والعطاء والتقديم للغير، وبناءً على ذلك فقد أثنى الله تعالى على من اتخذ الإيثار صفةً له، ووصفهم أنّهم من المفلحين في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى: [وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ] [سورة الحشر-الآية:9]، وتفسيرها: [والذين استوطنوا “المدينة”، وآمنوا من قبل هجرة المهاجرين -وهم الأنصار- يحبون المهاجرين، ويواسونهم بأموالهم، ولا يجدون في أنفسهم حسدًا لهم مما أُعْطوا من مال الفيء وغيره، ويُقَدِّمون المهاجرين وذوي الحاجة على أنفسهم، ولو كان بهم حاجة وفقر، ومن سَلِم من البخل ومَنْعِ الفضل من المال فأولئك هم الفائزون الذين فازوا بمطلوبهم.][6]

وكذلك فإن قول الله تعالى: [وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ] يعني أن [من أوصاف الأنصار التي فاقوا بها غيرهم، وتميزوا بها على من سواهم، الإيثار، وهو أكمل أنواع الجود، وهو الإيثار بمحاب النفس من الأموال وغيرها، وبذلها للغير مع الحاجة إليها، بل مع الضرورة والخصاصة، وهذا لا يكون إلاّ من خُلُق زكي، ومحبة لله تعالى مقدمة على محبة شهوات النفس ولذاتها.

ومن ذلك قصة الأنصاري الذي نزلت الآية بسببه، حين آثر ضيفه بطعامه وطعام أهله وأولاده وباتوا جياعًا، والإيثار عكس الأَثَرة، فالإيثار محمود، والأَثَرة مذمومة، لأنها من خصال البخل والشح، ومن رزق الإيثار فقد وُقِيَ شُحَّ نفسه (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ووقاية شح النفس، يشمل وقايتها الشح، في جميع ما أمر به، فإنه إذا وُقِيَ العبد شح نفسه، سمحت نفسه بأوامر الله تعالى ورسوله ، ففعلها طائعًا منقادًا، منشرحًا بها صدره، وسمحت نفسه بترك ما نهى الله عنه، وإن كان محبوبًا للنفس، تدعو إليه، وتطلع إليه، وسمحت نفسه ببذل الأموال في سبيل الله تعالى وابتغاء مرضاته، وبذلك يحصل الفلاح والفوز، بخلاف من لم يُوقَ شُحَّ نفسه، بل ابتلي بالشح بالخير، الذي هو أصل الشر ومادته، فهذان الصنفان، الفاضلان الزكيان هم الصحابة الكرام والأئمة الأعلام، الذين حازوا من السوابق والفضائل والمناقب ما سبقوا به من بعدهم، وأدركوا به من قبلهم، فصاروا أعيان المؤمنين، وسادات المسلمين، وقادات المتقين][7].

فقد قدّم الأنصار أموالهم وبيوتهم للمهاجرين، ولو كان لهم فيها حاجة، إلّا أنّهم قدموا حاجة إخوانهم على حاجة أنفسهم.

من أهمّ منافع الإيثار

للإيثار فوائد كثيرة لا تحصى ولا تعدّ، وما نذكره هنا هو اليسير، فإن الإيثار خُلُق عظيم لا يقدر على تطبيقه إلاّ كلّ ذي همة عظيمة وذو أخلاق طيبة نبيلة وذو نفس رفيعة تسمو فوق كلّ الدنايا والرذائل، وليس أجمل من التحلي بهذا الخُلُق ليكون جميع أبناء الأمة يدًا واحدة؛ متكاتفين متعاونين يشد بعضهم بعضًا، وإذا ما وقع أحدهم في حاجة سارع الآخرون لمساعدته وسدّ حاجته، وإذا جاع شخص مُدت له عشرات الأيدي بالطعام لتقيه حَرَجَ السؤال، عند ذلك سوف تسمو النفوس وتنتشر المحبة بين الناس، وتختفي الضغينة والرذيلة بينهم، ويتحول المجتمع إلى منزل كبير يضم أسرة واحدة هي أسرة الأمة؛ مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، قال رسول الله : [مثلُ المؤمنين في تَوادِّهم، وتَرَاحُمِهِم، وتعاطُفِهِمْ، مثلُ الجسَدِ إذا اشتكَى منْهُ عضوٌ تدَاعَى لَهُ سائِرُ الجسَدِ بالسَّهَرِ والْحُمَّى] [صحيح مسلم -رقم الحديث:2586]، وفيما يلي بعض من منافع الإيثار[8]:

  1. دخولهم فيمن أثنى الله عليهم من أهل الإيثار، وجعلهم من المفلحين.
  2. الإيثار طريق إلى محبة الله تبارك وتعالى.
  3. تحقيق الكمال الإيماني؛ فالإيثار دليل عليه، وثمرة من ثماره.
  4. التحلي بخلق الإيثار فيه اقتداء بالنبي .
  5. أن المؤثر يجني ثمار إيثاره في الدنيا قبل الآخرة، وذلك بمحبة الناس له وثنائهم عليه، والشعور بالرضا وطمأنينة النفس، كما أنه يجني ثمار إيثاره بعد موته بحسن الأحدوثة وجمال الذكر، فيكون بذلك قد أضاف عمرًا إلى عمره.
  6. الإيثار يقود المرء إلى غيره من الأخلاق الحسنة والخلال الحميدة؛ كالرحمة، وحب الغير، والسعي لنفع الناس، كما أنه يقوده إلى ترك جملة من الأخلاق السيئة والخلال الذميمة؛ كالبخل والشح، وحب النفس، والأَثَرة والطمع.
  7. الإيثار جالب للبركة في الطعام والمال والممتلكات.
  8. وجود الإيثار في المجتمع دليل على وجود حس التعاون والتكافل والمودة، وفقده من المجتمع دليل على خلوه من هذه الركائز المهمة في بناء مجتمعات مؤمنة قوية ومتكاتفة.
  9. جلب الخير والمنفعة للمجتمع ككل، لأن الذي معه يعطي من ليس معه.

الإيثار وحصول الكفاية الاقتصاديَّة والمادِّيَّة

بالإيثَار تحصل الكفاية الاقتصاديَّة والمادِّيَّة في المجتمع، فطعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة، والبيت الكبير الذي تستأثر به أسرة واحدة مع سعته يكفي أكثر من أسرة ليس لها بيوت تؤويها، قال رسول الله : [طَعامُ الواحِدِ يَكْفِي الاثْنَيْنِ، وطَعامُ الاثْنَيْنِ يَكْفِي الأرْبَعَةَ] [صحيح مسلم-رقم الحديث: 2059]، وقوله عليه الصلاة والسلام: [طَعامُ الرَّجُلِ يَكْفِي رَجُلَيْنِ، وطَعامُ رَجُلَيْنِ يَكْفِي أرْبَعَةً، وطَعامُ أرْبَعَةٍ يَكْفِي ثَمانِيَةً] [صحيح مسلم-رقم الحديث:2059]؛ ومعنى الحديث: [أن الطعام الذي يشبع الواحد يكفي قوت الاثنين، ويشبع الاثنين قوت الأربعة … والمراد: الحض على المكارم والتقنع بالكفاية، وليس المراد الحصر في مقدار الكفاية، وإنما المراد المواساة وأنه ينبغي للاثنين إدخال ثالث لطعامهما وإدخال رابع أيضًا بحسب من يحضر … ويؤخذ منه أن الكفاية تنشأ عن بركة الاجتماع، وأن الجمع كلما كثر ازدادت البركة… فيد الله على الجماعة، ويستحب الاجتماع على الطعام، وألا يأكل المرء وحده … وفي الحديث أيضًا الإشارة إلى أن المواساة إذا حصلت حصلت معها البركة فتعم الحاضرين… وفيه أنه لا ينبغي للمرء أن يستحقر ما عنده فيمتنع من تقديمه، فإن القليل قد يحصل به الاكتفاء، بمعنى حصول سد الرمق وقيام البنية؛ لا حقيقة الشبع.][9]؛ [وفي الحديث: الحث على المواساة في الطعام، وأنه وإن كان قليلًا حصلت منه الكفاية المقصودة، ووقعت فيه بركة تعم الحاضرين، وفيه: أن البركة في الأكل مع الجماعة.][10]. والبيت الكبير الذي تستأثر به أسرة واحدة مع سعته يكفي أكثر مِن أسرة ليس لها بيوت تؤويها وهكذا.

درجات الإيثار عند علماء الأمة

لقد قسَّم بعض العلماء الإيثار إلى مراتب ودرجات، وعلى النحو التالي[11]:

  1. إيثار رضا الله تعالى على رضى غيره، ولو أدّى ذلك إلى غضب المخلوق، وهذه درجة الأنبياء، ويتعرض المُؤْثِر في هذه المرتبة إلى الكثير من الابتلاءات والمحن، ويحتاج إلى الصبر. ويعني إيثارُ رضا الله تعالى على رضا غيره وإن عظمت فيه المحن وثقلت فيه المؤن وضعف عنه الطول والبدن، وإيثار رضا الله عز وجل على غيره، هو أن يريد ويفعل ما فيه مرضاته، ولو أغضب الخلْق، وهي درجة الأنبياء، وأعلاها لِلرُّسل عليهم صلوات الله وسلامه. وأعلاها لأولي العزم منهم، وأعلاها لنبينا محمد وعليهم، فإنه قاومَ العالم كُله وتجرد للدعوة إلى الله تعالى، واحتمل عداوة البعيد والقريب في الله تعالى، وآثر رضا الله تعالى على رضا الخلق من كل وجه، ولم يأخذه في إيثار رضاه لومةُ لائم، بل كان همُّه وعزْمُه وسعيه كله مقصورًا على إيثار مرضاة الله تعالى وتبليغ رسالاته، وإعلاء كلماته، وجهاد أعدائه؛ حتى ظهر دين الله على كل دين، وقامت حجته على العالمين، وتمت نعمتُهُ على المؤمنين، فبلَّغَ الرسالة، وأدى الأمانة ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاد، وعبَدَ الله تعالى حتى أتاه اليقين من ربه، فلم ينل أحدٌ من درجةِ هذا الإيثار ما نالَه رسول الله . هذا وقد جرت سنة الله التي لا تبديل لها أنَّ من آثر مرضاة الخلق على مرضاته: أن يُسخط عليه من آثر رضاه، ويخذُله من جهته، ويجعل محنته على يديه، فيعود حامدُهُ ذامًّا، ومن آثر مرضاته ساخطًا، فلا على مقصوده منهم حصل، ولا إلى ثواب مرضاة ربه وصل، وهذا أعجز الخلقِ وأحمقهم.
  2. القيام بالإيثار ونسبته إلى الله تعالى لا إلى النفس، فالله سبحانه وتعالى هو المؤثر والمعطي في الحقيقة.
  3. إيثار الخلق على النفس بما لا يهدر دينًا، ولا يقطع طريقًا، ولا يأخذ وقتًا، كأن تطعمهم وأنت جائع، بحيث أنّ العطاء لا يؤدي إلى إتلاف أمر من أمور الدين، ويعني أن تُقدمهم على نفسك في مصالحهم، مثل: أن تطعِمهم وتجوع، وتكسوهم وتعرَى، وتسقيهم وتظمأ، بحيثُ لا يؤدي ذلك إلى ارتكاب إتلافٍ لا يجوز في الدين، وكلُّ سببٍ يعود عليك بصلاح قلبك ووقتك وحالك مع الله تعالى فلا تؤثِر به أحدًا، فإن آثرت به فإنما تُؤْثِر الفساد على الصلاح وأنت لا تعلم.

أقسام الإيثار حسب الأحكام الشرعية[12]

يقول علماء أصول الفقه إن الأحكام الشرعية خمسة[13]: الواجب، والمندوب، والمحرم، والمكروه، والمباح.

الأحكام الشرعية الخمسة هي أقسام الأحكام التكليفية التي تصف حكم الشرع في أفعال المكلفين، وهي[14]: اَلْوَاجِبُ: وَهُوَ مَا أُثِيبَ فَاعِلُهُ، وَعُوقِبَ تَارِكُهُ. وَالْحَرَامُ: ضِدَّهُ. وَالمَكْرُوهُ: مَا أُثِيبَ تَارِكُهُ، وَلَمْ يُعَاقَبْ فَاعِلُهُ. وَالْمَسْنُونُ: ضِدَّهُ. وَالْمُبَاحُ: وَهُوَ اَلَّذِي فِعْلُهُ وتَرْكُهُ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ. وَيَجِبُ عَلَى اَلْمُكَلَّفِ أَنْ يَتَعَلَّمَ مِنْهُ كُلَّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي عِبَادَاتِهِ وَمُعَامَلَاتِهِ وَغَيْرِهَا، قَالَ رسول الله : [مَنْ يُرِدِ اَللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي اَلدِّينِ] [صحيح البخاري-رقم الحديث:71].

وهنا فإن الإيثار يأخذ هذه الأحكام الشرعية التالية[15]:

القسم الأول: ممنوع: أما الممنوع، فهو أن تؤثِر غيرَك بما يجب عليك شرعًا، فإنه لا يجوز أن تقدِّم غيرك فيما يجب عليك شرعًا. فالإيثار في الواجبات الشرعية حرام، ولا يحلُّ؛ لأنه يستلزم إسقاط الواجب عليك.

القسم الثاني: المكروه أو المباح: فالإيثار بالأمور المستحبة قد كَرِهَه بعضُ أهل العلم وأباحه بعضهم، لكنَّ تركه أولى لا شك إلا لمصلحة. قال بعض العلماء: تركُه أولى، إلاّ إذا كان فيه مصلحة، كما لو كان أبوك وتخشى أن يقع في قلبه شيءٌ عليك، فتؤثِره بمكانك الفاضل، فهذا لا بأس به.

القسم الثالث: المباح: وهذا المباح قد يكون مستحبًّا، وذلك أن تؤثِر غيرك في أمرٍ غير تعبُّدي؛ أي: تؤثر غيرك وتقدِّمه على نفسك في أمر غير تعبُّدي. مثل: أن يكون معك طعام وأنت جائع، وصاحب لك جائعٌ مثلك، ففي هذه الحالة إذا آثرتَه على نفسك فإنك محمود على هذا الإيثار؛ قال الله تعالى: [وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا] [سورة الإنسان-الآية:8]؛ يعني يطعمون الطعام وهم في حال يحبون فيها المال والطعام، لكنهم قدموا محبة الله على محبة نفوسهم، فيتركون أنفسهم، ويتحرون في إطعامهم أولى الناس وأحوجهم: المسكين واليتيم والأسير، وهذا أيضًا من باب الإيثار.

وفي تصنيف آخر لأقسام الإيثار في الإسلام، فإن الإيثار ينقسم إلى قسمين رئيسيين، وفيما يأتي بيانهما[16]:

1- إيثارٌ يتعلّق بالخالق: إنّ أفضل أنواع الإيثار، وأعلاها منزلةً؛ هو إيثار حبّ الله سبحانه وتعالى على حبّ غيره، وإيثار خوفه ورجائه على خوف غيره ورجائه. وهذا النوع من الإيثار له علامتان، فيما يأتي بيانهما: أ- أن يفعل الإنسان كلّ ما يأمره الله تعالى به، وإن كانت النفس تستثقله وتهرب منه. ب- أن يتجنّب الإنسان كلّ ما يكرهه الله تعالى وينهى عنه، وإن كانت النفس تحبّه وتهواه.

2- إيثارٌ يتعلّق بالخلق: قسّم ابن عثيمين -رحمه الله- هذا النوع من الإيثار إلى عدَّةِ أقسامٍ، وهي: أ- الإيثار بالواجب: وهذا النوع من الإيثار غير جائزٍ، وهو أن يؤثر الإنسان غيره بما يجب عليه شرعًا؛ لأنّ الإيثار في هذه الحالة يؤدّي إلى ترك واجبٍ. ب- الإيثار بالمستحب: وهذا النوع من الإيثار مكروهٌ، وهو أن يؤثر الإنسان غيره في الأمور المستحبّة، كمن آثر غيره في الصف الأول. ج- الإيثار بالمباح: وهذا النوع من الإيثار مباحٌ وقد يصل إلى درجة الاستحباب، وهو أن يؤثر الإنسان غيره في الأمور المباحة؛ كأن يؤثر المرء غيره بطعامٍ يشتهيه غير مضطرٍ إليه. د- الإيثار بالمحرم: وهذا النوع من الإيثار محرَّمٌ، وهو أن يؤثر الإنسان غيره بما حُرِّم عليه شرعًا، كأن يؤثر المرء غيره بشرابٍ مسكرٍ أو مخدِّرٍ.

شروط الإيثار[17]

ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى شروطًا للإيثار المتعلق بالمخلوقين، تنقله من حيِّز المنع أو الكراهة إلى حيز الإباحة، نجملها فيما يلي:

1- ألا يضيع على المؤثر وقته.

2- ألا يتسبَّب في إفساد حاله.

3- ألا يَهضِم له دينَه.

4- ألا يكون سببًا في سد طريق خير على المؤثر.

5- ألا يمنع للمؤثر واردًا.

فإذا توفرت هذه الشروط، كان الإيثار إلى الخلق قد بلغ كماله، أما إن وُجد شيء من هذه الأشياء، كان الإيثار إلى النفس أَولى من الإيثار إلى الغير، فالإيثار المحمود كما قال ابن القيم هو: الإيثار بالدنيا لا بالوقت والدين وما يعود بصلاح القلب.

من أهم الأسباب التي تعين على الإيثار[18]

1- الرغبة في مكارم الأخلاق، والتنزه عن سيئها: إذ بحسب رغبة الإنسان في مكارم الأخلاق يكون إيثاره؛ لأن الإيثار أفضل مكارم الأخلاق.

2- بُغض الشُّحِّ: فمن أبغض الشُّحَّ علم ألّا خلاص له منه إلا بالجود والإيثار.

3- تعظيم الحقوق: فمتى عظمت الحقوق عند امرئٍ قام بحقها ورعاها حق رعايتها، وأيقن أنه إن لم يبلغ رتبة الإيثار لم يؤد الحقوق كما ينبغي فيحتاط لذلك بالإيثار.

4- الاستخفاف بالدنيا والرغبة في الآخرة: فمن عظمت في عينه الآخرة هان عليه أمر الدنيا، وعلم أن ما يعطيه في الدنيا يُعطاه يوم القيامة أحوج ما يكون إليه. 5- توطين النفس على تحمل الشدائد والصعاب: فإن ذلك مما يعين على الإيثار، إذ قد يترتب على الإيثار قلة ذات اليد وضيق الحال أحيانًا، فما لم يكن العبد موطّنًا نفسه على التحمل لم يطق أن يعطي مع حاجته.

آداب الإيثار

1- الابتعاد عن الرياء والإخلاص لله عزّ وجلّ وحده عند القيام بالإيثار؛ لأن تفضيل الآخرين على النفس بهدف الحصول على الشكر والثناء من الناس يُعتبر أحد صور الرياء، مما يوضح أهمية إخلاص النية لله عزّ وجلّ عند الإيثار.

2- يجب أن يكون من أهم دوافع الإيثار حبّ الله تبارك وتعالى والرغبة في الامتثال لأوامره بتفضيل الآخرين على النفس وتوفير احتياجاتهم من أجل تحقيق ما يُرضي الله ورسوله.

3- الأقربون أولى بالمعروف، مما يؤكد أهمية أن يكون الإيثار أولًا للأهل والأقارب؛ ثم يلي ذلك إيثار الأشخاص الغرباء على النفس.

4- كما يجب أن يتم الإيثار للشخص الأحوج والأكثر حاجة إلى أي أمر وتفضيله في القيام به، حيث إن حاجة الإنسان إلى هذا الإيثار ترفع من ثواب وقدر الشخص المؤثر عند الله عزّ وجلّ.

ضوابط الإيثار[19]

الإيثار هو من أهم الأخلاق والصفات التي يجب أن تنتشر في المجتمعات الإسلامية؛ وهناك بعض الضوابط والشروط التي ينبغي أخذها في الاعتبار عند الإيثار، منها:

1- يجب ألا يكون هذا الإيثار في شيء يُخالف قواعد ومبادئ الشريعة والإيمان؛ مثل تقديم الخمر أو الخنزير أو أي شيء آخر يُغضب الله تعالى إلى شخص آخر.

2- الإيثار من الصفات التي تدلّ على الأخلاق الإنسانية الرفيعة، ولكن مع ذلك يجب ألا يؤدي هذا الإيثار إلى إلحاق الضرر والإيذاء بالشخص المُؤْثِر.

3- يجب أن يتم الإيثار بشكل معتدل؛ حيث إنه من الخطأ على سبيل المثال أن يترك الإنسان عمله ومصدر رزقه من أجل أن يقوم بإسداء الخدمات المختلفة إلى الآخرين؛ لأن ذلك يعود عليه وعلى رعيته من أسرته وأبنائه بشكل سلبي.

4- يجب ألا يكون الإيثار متبوعًا بالمنّ والأذى؛ لأن إسداء الخير والمعروف إلى الآخرين مع معايرتهم بذلك يؤدي إلى إنقاص الأجر والثواب ويتنافى تمامًا مع المعنى الحقيقي للإيثار.

الأسس الاقتصادية للإيثار[20]

1- تعظيم الحقوق: وهو استعظام الحقوق الشرعية عند الفرد المسلم؛ ثم استعظام إضاعتها؛ ثم القيام برعايتها؛ ثم تحقيقها؛ ثم إنفاع المجتمع المسلم بها؛ ثم الوصول إلى مستويات عالية من التكافل والتعاون الاقتصادي والاجتماعي؛ وهو الهدف الذي يريد تحقيقه كل فرد مسلم.

2- مقت الشحّ: الشحّ صفة مذمومة تحاربها الشريعة الإسلامية أشدّ المحاربة؛ ثم تقضي عليه، ومن أقوى وسائل القضاء على هذه الصفة الممقوتة هو الالتزام بالإيثار، لأن الإيثار هو الطريق الموصِّل إلى هذا الهدف. 3- الرغبة في مكارم الأخلاق: الإيثار أفضل درجات مكارم الأخلاق عند الفرد المسلم؛ وبحسب رغبته وعمله فيها كعمل الصدقات والأعمال الخيرية تتحدد درجة الإيثار عنده.

مكانة الإيثار في الاقتصاد الإسلامي

الإيثار هو خُلُقٌ من أخلاق الإسلام العظيمة الجليلة، وهو مرتبة راقية من مراتب البذل والعطاء والكرم، ومنزلة عظيمة من منازل السخاء والبذل، وهو خُلُقٌ عظيم يبعث على المودة والرحمة ويدلّ على الصفاء والنقاء، فقد أثنى الله تعالى على المتصفين به؛ وبيَّن أنهم المفلحون في الدنيا والآخرة؛ فقال الله تعالى: [وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ] [سورة الحشر-رقم الآية:9]. والإيثار رحمة من الله عزّ وجل على الأمة الإسلامية أسكنها الله في قلوب المؤمنين، فبذلت وضحّت بالأموال والثروات لوجه الله تعالى، يقول الله تعالى: [لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ] [سورة آل عمران-الآية:92]، يعني لن تنالوا وتدركوا البرَّ الذي هو اسم جامع للخيرات وهو الطريق الموصِّل إلى الجنات حتى تنفقوا ممّا تحبون من أطيب أموالكم وأزكاها، وهو من الأدلة العملية على محبة الله عزَّ وجلَّ ورسوله ، وتقديم محبتهما على محبة الأموال؛ التي جُبلت النفوس على قوّة التعلق بها.

والإيثار هو ذلك الخُلُق العظيم الذي يدلّ على صفاء النفس ونقائها من البخل والشحّ والأنانية، فكان رسول الله أكثر الناس أخلاقًا وتواضعًا وأكثرهم إيثارًا، وكان يعلِّم المؤمنين معنى الإيثار ويحثهم عليه، يقول رسول الله صلّى الله عليه وسلم: [إنَّ الأشْعَرِيِّينَ إذا أرْمَلُوا في الغَزْوِ، أوْ قَلَّ طَعامُ عِيالِهِمْ بالمَدِينَةِ جَمَعُوا ما كانَ عِنْدَهُمْ في ثَوْبٍ واحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بيْنَهُمْ في إناءٍ واحِدٍ بالسَّوِيَّةِ، فَهُمْ مِنِّي وأنا منهمْ] [صحيح البخاري-رقم الحديث:2486].

وشرح الحديث: [المواساة والتكافل بين الناس عند الأزمات من أخلاق الأنبياء، ولقد تميز بها الأشعريون، وهم قبيلة من أهل اليمن، ومنها الصحابي أبو موسى الأشعري رضي الله عنه راوي الحديث، وقد مدحهم النبي بهذه الصفة، حيث قال في هذا الحديث: «إن الأشعريين إذا أرملوا»، أي: فني زادهم أو قلَّ، أثناء خروجهم، أو قل طعام عيالهم بالمدينة حال إقامتهم؛ جمعوا القليل الذي بقي عندهم في ثوب واحد، «ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية»، أي: يأخذ كل فرد مثل أخيه، وفي هذا يتجلى الإيثار والمواساة؛ لأن بعض هؤلاء ليس عنده شيء، وبعضهم عنده قليل. ثم قال : «فهم مني وأنا منهم»، أي: متصلون بي في الأخلاق والمواساة فيما بينهم، وكأنه يقول: هذا العمل من عملي، وهم على طريقتي وسنتي وهديي، وفي هذا تنبيه على مكارم أخلاقهم، للحث على التأسي بهم والاقتداء بأفعالهم. وفي الحديث: منقبة عظيمة للأشعريين لإيثارهم ومواساتهم، وأعظم ما شرفوا به كونه أضافهم إليه][21].

وهذه شهادة من رسول الله أنّ الأشعريين كان عندهم إيثار.

لعلّ من أجمل الصفات التي قد يتّصف بها الإنسان هو حب العطاء وتحقيق الخير للآخرين، وأقبح وأبشع الصفات أن يتصف بالأنانية وحبّ الذات، حيث دعا الإسلام إلى الإيثار والسخاء والإحساس بالآخرين، لما له من نتائج فردية ومجتمعيّة كثيرة. فالإيثار سواء كان ماديًّا أم معنويًّا يعمل على تقوية الروابط والعلاقات الإنسانيّة والاجتماعيّة بين الأفراد، وأيضًا يعمل على تحقيق الرضا الذاتي والنفسي للفرد والشعور بالطمأنينة والسلام الداخلي.

إنّ الإيثار هو شعور داخلي ونزعة موجودة بداخل كل فرد في المجتمع، ولكن يحتاج إلى طرق عديدة وأساليب مبتكرة بعد الالتزام الشرعي لتثيره في نفس الفرد وتخرجه ليصبح فعلًا عمليًا على أرض الواقع. وعليه، فإنّ على كلّ فرد النهوض بنفسه وبمجتمعه، والتحلّي بصفة الإيثار لما لها من منافع إيجابيّة على الصعيدين الفردي والاجتماعي سويًا. وللإيثار مكانة كبيرة في الاقتصاد الإسلامي كونها تحقق المنافع التالية:

1- انتشار التكافل والتآخي والتعاون والمحبّة بين أفراد المجتمع الإسلامي: المجتمع الإسلامي في الأساس مبني على التعاضد والتعاون والتكافل، يقول الله تعالى: [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ] [سورة المائدة: 2]. أما صفة الإيثار فإنها تؤدي إلى التفعيل والتعزيز الأكثر والأقوى لروحية التعاون والتكافل الاقتصادي والاجتماعي بين أفراد المجتمع الإسلامي؛ والانتشار الأكثر للمحبة والخير وتنمية الشعور بالمسؤولية والحب تجاه الآخرين؛ ومساعدتهم وإعانتهم ومدّ يد التعاون لهم.

2- التخلص من العديد من الخصال السيئة اقتصاديًا واجتماعيًا؛ من أهمها البخل والشح؛ والإمساك؛ والأنانية؛ والبغض والحسد وحب النفس؛ والأَثَرَةُ؛ والإسراف والتبذير والترف وأكل أموال الناس بالباطل والإضرار بالغير. ومن جهة أخرى، يُساعد على استبدال هذه الصفات بتعزيز الشعور الدائم بالرغبة في مساعدة الآخرين وانتشار المودة والتراحم؛ والبذل، والعطاء؛ والكَرَم؛ والجود؛ والتعاون مع الآخرين؛ والغبطة؛ والاحترام؛ وحب الآخرين.

3- حصول المجتمع الإسلامي على كفاية اقتصاديّة وماديّة ضرورية: انتشار صفة الإيثار يؤدي بأفراد المجتمع إلى أن يتبادروا أكثر وأكثر إلى تعاون ومساعدة الآخرين؛ وارتفاع معدلات الكفالة ثم الضمان ثم الأمنية ثم السلامة الاجتماعية والاقتصادية؛ وبالأخير انعدام الفقر والمسكنة والعوز؛ فلا تجد في المجتمع الإسلامي فقيرًا أو مسكينًا أو محتاجًا في ظل النظام الاقتصادي الإسلامي.

4- أما من الناحية الإيمانية فإن التحلي بصفة الإيثار من أهم عوامل حبّ الله عزّ وجلّ ورضوانه والحصول على عظيم الثواب والأجر؛ إلى جانب أنه من أهم صور الاقتداء برسول الله .

أسباب ودوافع الإيثار

للإيثارُ أسبابٌ ودوافعُ عديدة تدفع المسلم للقيام به، منها الآتي:

1- الإيمان بالله سبحانه وتعالى، وإخلاص العمل له، فمن كان يسعى إلى الآخرة وإلى رضى الله تعالى فلا تفوته حسنةٌ ولا يفوته أن يتحلَّى بالأخلاق الكريمة.

2- اللين والرَّحمة؛ فأصل الإيثار الرَّحمة واللين اللذان يكونان في قلب المسلم.

3- أن يكون الشخص دائم التَّذكر للموت وللقاء الله والآخرة، فهذا الباب من أعظم الأبواب التي تجعل المؤمن يعمل الخير ويحب للآخرين ما يحبه لنفسه، لأنَّه يعلمُ يقينًا أنَّه في يومٍ من الأيام سيموت، ويحاسبه الله -سبحانه وتعالى- على أعماله.

4- تعظيم الأخلاق الحسنة وامتثالها هو سبب لأن يكون صاحبها محبوبًا ومحمودًا بين النَّاس، فقد جُبل الله سبحانه وتعالى قلوب العباد على محبة الأخلاق الحسنة وأصحابها، وإنَّ من أعظم الأخلاق المحبّبة بين الناس خلق الإيثار. 5- طرد الشّح، فمن التزم بالإيثار عرف أنَّه لا مكان للشُّح في نفسه. 6- الرّغبة في التحلِّي بمكارم الأخلاق؛ فالإيثارُ كرمٌ لا يفعله إلَّا كريمُ النَّفس، ومن تمسَّك به كان من أهل الأخلاق الحسنة.

ركائز الإيثار في الإسلام[22]

الإيثار في الإسلام هو تفضيل الغير على النفس وتقديم مصلحته على المصلحة الذاتية، وهو أعلى درجات السخاء والجود، ودليل على تمام الإيمان والطاعة، وقد ذم الله البخل في القرآن الكريم، وأثنى على المؤثرين في الآية الكريمة: [وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ] [سورة الحشر-الآية:9]، ويُعدّ الإيثار من مكارم الأخلاق التي تُحبب الناس في المتخلق بها، وتجلب الخير للمجتمع.

والإيثارُ صورةٌ من صور التكافُل الاقتصادي وترابُط المجتمع المسلم، وعلامةٌ من علامات محبَّة الخير للآخرين، وتطهير للنفس من الأنانية والكراهية والشحناء.

ولا يستطاع الإيثار إلا بثلاثة شروط: تعظيم الحقوق، ومقت الشح، والرغبة في مكارم الأخلاق, وكالتالي: 1- تعظيم الحقوق، فإن من عظمت الحقوق عنده قام بواجبها ورعاها حق رعايتها واستعظم إضاعتها وعلم أنه إن لم يبلغ درجة الإيثار لم يؤدها كما ينبغي فيجعل إيثاره احتياطًا لأدائها. 2- مقت الشح، فإنه إذا مقته وأبغضه التزم الإيثار، فإنه يرى أنه لا خلاص له من هذا المقت البغيض إلا بالإيثار. 3- الرغبة في مكارم الأخلاق، وبحسب رغبته فيها يكون إيثاره، لأن الإيثار أفضل درجات مكارم الأخلاق.

أقوال مأثورة في الإيثار[23]

  • عن الصحابي الجليل ابن عمر رضي الله عنهما قال: أتى علينا زمان وما يرى أحد منا أنه أحق بالدينار والدرهم من أخيه المسلم، وإنا في زمان الدينار والدرهم أحب إلينا من أخينا المسلم.
  • قال يحيى بن معاذ الرازي: عجبت من رجل يرائي بعلمه الناس وهم خلق مثله، ومن رجل بقي له مال ورب العزة يستقرضه، ورجل رغب في محبة مخلوق والله يدعو إلى محبته ثم تلا قول الله تعالى: [وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ] [سورة يونس-الآية:٢٥].
  • قال محمد بن الواسع: ما رددت أحدًا عن حاجة أقدر على قضائها، ولو كان ذهاب مالي.
  • قال ابن تيمية: الإيثار مع الخصاصة أكمل من مجرد التصدق مع المحبة، فإنه ليس كل متصدق محبًا مؤثرًا، ولا كل متصدق يكون به خصاصة، بل قد يتصدق بما يحب مع اكتفائه ببعضه مع محبة لا تبلغ به الخصاصة.
  • قال ابن القيم: فالمحب وصفه الإيثار، والمدعي طبعه الاستئثار، فمن لنا بمثل هؤلاء.
  • قال منصور الغضاري: شاهدت الحافظ عبد الغني المقدسي في الغلاء بمصر ثلاث ليالٍ يؤثر بعشائه ويطوي.
  • اشتهى الربيع بن خثيم حلواء، فلما صُنعت دعا بالفقراء فأكلوا، فقال أهله: أتعبتنا ولم تأكل، فقال: وهل أكل غيري؟!.
  • قال عباس بن دهقان: ما خرج أحد من الدنيا كما دخلها إلا بشر بن الحارث، فإنه أتاه رجل في مرضه فشكا إليه الحاجة، فنزع قميصه وأعطاه إياه، واستعار ثوبًا فمات فيه.
  • قال حماد بن أبي حنيفة: إن مولاة كانت لداود الطائي تخدمه، قالت: لو طبخت لك دسْمًا تأكله؟ فقال: وددت. فطبخت له دسْمًا ثم أتته به، فقال لها: ما فعل أيتام بني فلان؟ قالت: على حالهم. قال: اذهبي بهذا إليهم. فقالت: أنت لم تأكل أُدْمًا منذ كذا وكذا. فقال: إن هذا إذا أكلوه صار إلى العرش، وإذا أكلته صار إلى الحُشّ.
  • عن أبي الحسن الأنطاكي: أنه اجتمع عنده نيف وثلاثون نفسًا ولهم أرغفة معدودة لم تُشبع جميعهم، فكسروا الأرغفة وأطفأوا السراج وجلسوا للطعام، فلما رُفع فإذا الطعام بحاله، ولم يأكل أحد منه شيئًا، إيثارًا لصاحبه على نفسه.
  • عن مسعر قال: شُوِيَ لنافع بن جبير دجاجة، فجاء سائل فأعطاها إياه، فقال له إنسان في ذلك، فقال: إني أبغي ما هو خير منها.

كلمات عن الإيثار[24]

الإيثار هو خلق حميد لا يتصف به إلا الأشخاص الذين تربوا على هدي رسول الله ، فالإنسان الذي يتحلى بخلق الإيثار يكون كالمسك ينشر طيبًا في تعامله بين أقرانه، ويجعل كل من يتعامل معه يشعر بالسعادة والراحة النفسية، لذا يتوجب تربية الأبناء على هذا الخُلُق الحميد؛ لتسمو بها مجتمعاتنا، وفيما يلي باقة عن أجمل الكلمات عن الإيثار:

  1. الإيثار أساس التعامل، الخلق الزكي والإيثار الذي يرجح الفضل على العدل والترفع عن الصغائر.
  2. الإيثار من الصفات الحميدة، ومن جملة الأخلاق القويمة التي حثت عليها الشريعة الإسلامية والشرائع التوحيدية السابقة.
  3. يعتبر الإيثار طريقًا للوصول إلى محبة الله تعالى، وهو من أكثر الصفات التي تشيع جوًا من الألفة والمحبة بين الناس.
  4. الإيثار أعلى مراتب الكرم والجود الذي ينبع من أعماق النفس والإيمان السليم؛ ولا تستطيع خلقه القوانين.
  5. ما تتخلى عنه وتتركه هو لك، وما تخبئه وتتحفظ عليه يذهب لغيرك.
  6. ليس الإيثار أن تعطيني ما أنا أشدّ منك حاجة إليه، وإنّما الإيثار أن تعطيني ما أنت أشدّ إليه حاجة مني.
  7. خِصْلَةُ الإيثارُ فِعْلٌ مِنْ صِفاتِ الأتقياءْ، يُؤْثِرونَ الغَيْرَ فضْلًا إنَّهُمْ أهْلُ العطاء.
  8. إنّما الإيثارُ حِصْنٌ أوْجَبَتْ كُلَّ الثَّناءْ، قِمَّةُ الأخلاقِ تَكْسو أهلها ثَوْبَ البَهاءْ.
  9. لا تُوَاكِلَنَّ جائعًا إلَّا بالإيثَار، ولا تُوَاكِلَنَّ غنيًّا إلَّا بالأدب، ولا تُوَاكِلَنَّ ضيفًا إلَّا بالنَّهمة والانبساط.
  10. الإيثَار هو أن يقدِّم حظوظ الإخوان على حظوظه في أمر الدُّنْيا والآخرة.
  11. إنّ المؤثر يلاحظ ثمرة هذا الخلق الرفيع أمام عينيه، لأنّه يعيش لذة العطاء في كل لحظة.
  12. لو أنَّ الدُّنْيا كلَّها لي فجعلتها في فم أخ مِنْ إخواني لاستقللتها له.
  13. إنّ الإيثار يحقق الاكتفاء المادي والاقتصادي لأكبر عدد من الأشخاص في المجتمع.

نصائح عامة عن الإيثار

النصيحة الأولى: إنّ خلق الإيثار الرائع يساعد في نمو المجتمعات، ويزيد تماسكها، وينشر الحب فيها، فهو من أهم الركائز التي تبني مجتمعًا قويًا تسود فيه الأخلاق الحميدة.

النصيحة الثانية: من أروع ما يقدمه الإيثار لأصحابه أنه يجلب البركة في الرزق؛ والبركة في العمر؛ كما يغمر صاحبه بسعادة كبيرة وراحة بال ليس لها حدود.

النصيحة الثالثة: على الجميع أن يتخذ من خُلُق الإيثار الحميد منهجًا يسير عليه في حياته كي ينشر الخير والحب والفرح بأكبر قدر ممكن، وبهذا يصبح المجتمع أكثر نقاءً وتصفو القلوب أكثر فأكثر.

النصيحة الرابعة: من رأى لنفسه مُلكًا لا يصحُّ منها الإيثَار، لأنَّه يرى نفسه أحقَّ بالشَّيء برؤية مُلكه، إنَّما الإيثَار ممَّن يرى الأشياء كلَّها للحقِّ؛ فمَن وصل إليه فهو أحقُّ به، فإذا وصل شيء مِن ذلك إليه يرى نفسه ويده فيه يد أمانة، يوصِّلها إلى صاحبها أو يؤدِّيها إليه.

نماذج من الإيثار والتضحية في حياة الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين[25]

1- إيثارٌ لا حدود له: لقد ضرب لنا الأنصار مثالًا رائعًا في الإيثار والتضحية؛ فلمّا قدِمَ المُهاجرون من مكّة إلى المدينة المنورة؛ قدِموا وهم لا يملكون شيئًا، فقد تركوا أموالهم وأرزاقهم ومصالحهم خلفهم، فما كان من الأنصار إلّا أن قاسموهم كل ما يملكون، من مالٍ وعملٍ وغيرها؛ فكانوا خير مثالٍ في الإيثار والتضحية.

2- إيثارٌ وتضحية حتى بالحياة: في غزوة اليرموك، نزل بساحة المسلمين العديد من الجرحى، وكانوا في شدة العطش، فكان في يد أحدهم شربةُ ماء، فجيء إلى أحدهم ثم نظر إلى من بجانبهِ فقال ادفعها إليه، فتدافعوها كلهم رضي الله عنهم؛ حتى ماتوا جميعًا ولم يشرب منها أحد.

3- تضحية في الدفاع عن رسول الله : لقد ثبت أن الصحابي الجليل طلحة بن عبيد الله -رضي الله عنه- قد استماتَ في الدفاع عن رسول الله يوم أحد، وقد وقع بالرسول صلى الله عليهِ وسلم الكثير من الجراح، فشوهد طلحة ويدهُ كلها مقطّعة أشلاءً؛ كان يدافع بها عن رسول الله صلى الله عليهِ وسلم.

4- إيثارٌ وتضحية في الأرض والعرض: وهذا أبو طلحة الأنصاري وكان ثريًا وله أملاك في المدينة، وكان عندهُ أرضٌ اسمها بيرحاء، وكان يحبها حبًا شديدًا من دون جميع أملاكه، فلما نزلت الآية الكريمة [لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ] [سورة آل عمران-آية:92]، جاء إلى رسول الله وتبرّع بها صدقةً لله.

5- فدائيٌ لرسول الله -صلى الله عليهِ وسلّم-: لقد ضحى الصحابي الجليل علي -رضي الله عنه- بنفسه فداءً لرسول الله ؛ فبات في فراشهِ يوم الهجرة، عندما عزم المشركون على اقتحام بيتهِ وجمعوا من كل قبيلةٍ رجلًا ليقتلوه ويتفرّق دمهُ بين القبائل.

دور الإيثار في خلق المنافع الاقتصادية والاجتماعية في الاقتصاد الإسلامي:

الإيثار في الاقتصاد الإسلامي هو تقديم الغير على النفس وتقديم مصلحة الجماعة على المصلحة الفردية، ويعكس نظامًا اقتصاديًا أخلاقيًا يهدف إلى تحقيق العدالة والتكافل الاقتصاديين. والإيثار خلق نبيل يتمثل في تفضيل احتياجات ومصلحة الآخرين على احتياجات الفرد نفسه. والإيثار ضروري في الاقتصاد الإسلامي كمبدأ أخلاقي وقيمي، ويعارض الاحتكار؛ ويشجع على المواساة والتعاون؛ ويساهم في بناء مجتمع متعاون مترابط يعتمد على مبادئ الدين والأخلاق. لذا، فإن الإيثار في المنظور الفلسفي للاقتصاد الإسلامي يعني ما يلي:

  • مواساة الآخرين بأموالهم وممتلكاتهم وتقديمها للمحتاجين بدلًا من الاحتكار لدى الاقتصاديات الوضعية الذي يغلّب المصلحة الشخصية والنزعة المادية على مصالح الآخرين والمصالح العامة، في حين يحقق الإيثار في الاقتصاد الإسلامي جميع المصالح فيه من المصالح العامة والفردية والمجموعية والمختلطة في آن واحد.
  • التوزيع العادل للثروة والموارد: مما يقلل من الفجوات الاقتصادية والاجتماعية؛ ويقضي على الصراعات والتناقضات الطبقية؛ ويعزز العمل والشعور بالتعاون والتكافل بين أفراد المجتمع الإسلامي.
  • المساهمة في بناء مجتمع إسلامي قوي ومترابط، يسعى أفراده لمساعدة بعضهم البعض؛ وسدّ حاجات المحتاجين؛ وتقوية الروابط الاجتماعية.
  • تحقيق المنافع الاجتماعية بشكل واسع، ويساهم في الارتقاء بالمجتمع والاقتصاد ككل.
  • توجيه السلوك الاقتصادي من كونه نشاطًا ماديًا بحتًا إلى نشاط يعتمد على القيم الأخلاقية والدينية.

ومن الأمثلة على الإيثار ما يلي:

  • العطاء دون مقابل: تقديم المساعدة للآخرين بالمال والوقت والجهد دون انتظار ردّ الجميل أو أي مكافأة.
  • تفضيل حاجة الآخرين على الحاجة الفردية: إعطاء الأولوية لاحتياجات الآخرين، مثل تفضيل شخص محتاج على الحصول على شيء تريده بنفسك.
  • التضحية من أجل الغير: في حالات قصوى قد يصل الإيثار إلى درجة نكران الذات والتضحية بالنفس لصالح الآخرين.
  • تعزيز الروابط الاجتماعية: يساهم في نشر المحبة والتعاون، ويجعل المجتمع متكاتفًا كعائلة واحدة.
  • تحسين رفاهية الآخرين: يؤدي إلى رفع مستوى الحياة المادية والروحية للآخرين، ويساعد في سد حاجات المحتاجين.
  • الارتقاء بالذات: يعتبر فضيلة عظيمة ترفع من شأن الشخص وتجعله يرضى عن نفسه.

منافع النشاط في منظور الاقتصاد الإسلامي[26]

1- النشاط خلق من أخلاق المؤمنين، به يكتسب المرء كل خلق محمود، ويدفع كل خلق مذموم.

2- النشاط سبب صفاء الذهن، وصدق الحس، وكثرة الصواب. قال ابن عبد ربه: (وبالنشاط يصفو الذهن، ويصدق الحس، ويكثر الصواب).

3- النشاط ثمرة من ثمار مجاهدة الشيطان.

4- النشاط به تُعمر البلدان، ويُذاد عن الأوطان، وتنتشر الفضائل وتنقمع الرذائل.

5- النشاط في عمل الخير يكسب المرء حب الله ورضا الناس.

6- النشاط في الطاعات سبب رفعة الذكر وحصول الأجر.

7- النشاط سبب الوصول إلى كل خير من العز والغنى والرفعة والنباهة. قال الراغب: (من تعطل وتبطل انسلخ من الإنسانية بل من الحيوانية، وصار من جنس الموتى، وحق الإنسان أن يتأمل قوته، ويسعى بحسب ذلك إلى ما يفيده السعادة، ويتحقق أن اضطرابه -أي: نشاطه- سبب وصوله من الذل إلى العز، ومن الفقر إلى الغنى، ومن الضعة إلى الرفعة، ومن الخمول إلى النباهة).

الميسِر (القمار) في منظور الاقتصاد الإسلامي[27]

لقد مزج الإسلام بين الأخلاق والاقتصاد، فلا اقتصاد بلا أخلاق، كما أن وجود الأخلاق في الميدان الاقتصادي من أهم عناصر نجاح العمليات الاقتصادية بكل مستوياتها. لهذا، أقام جميع أنواع التعاملات والأنشطة الاقتصادية على العدل وعدم الظلم، والصدق وعدم الكذب، والإفصاح وعدم الكتمان أو الغش، وحرم الاحتكار والربا والقمار والغرر وأكل أموال الناس بالباطل، وهذا كفيل بتجنب مفاسد ومضار القمار.

والعلاج في تجنب التعامل بالمحرّمات، هو إعادة مزج الاقتصاد بمكارم الأخلاق ومحاسن العادات وكريم الخصال، وتجنب تمويل الأنشطة التي تلحق الضرر بالنفس والإضرار بالآخرين. فلا يمكن أن يسهم إنسان سليم الفطرة، أو مؤسسة مالية تراعي حقوق أفراد المجتمع في تمويل مجالات القمار، أو تمويل تجارة المخدرات ومصانع الخمور والمسكرات ونحوها التي تضر بالفرد والأسرة والمجتمع.

وحرمة القمار في الشريعة ثم الاقتصاد الإسلامي، ورفض كل ما يُفضي إليه، يكشف عن أن التشريعات الإسلامية تهدف إلى تحقيق جميع أنواع المصالح المحللة للمجتمع الإسلامي؛ وخاصة منها المصالح العامة والخاصة، وتمنع كل ما يؤدي إلى الإضرار بالفرد والمجتمع، وأنها ترفض النظرة الربحية الضيقة الطاغية؛ وتؤيد بل وتناضل من أجل وضع اقتصادي متوازن بين جميع القطاعات والمصالح الاقتصادية؛ وأنها عندما تحقق الربحية الفردية تحقق في نفس الوقت الربحية الاجتماعية وغيرها من أنواع الربحيات الأخرى، للأفراد والفئات المختلفة في المجتمع الإسلامي.

كل هذا يعني عمل الاقتصاد الإسلامي وفق نظام متوازن يعمل على تحقيق مصلحة الخلْق في الدارين، من خلال جلب المصالح وتكثيرها، ودرء المفاسد وإزاحتها، وتحريم كل ما من شأنه أن يُلحق الضرر بالفرد والمجتمع؛ ليعيش الناس حياة آمنة مطمئنة.

الإيثار والعطاء والإحساس بالآخرين هو شعار المفلحين[28]

الإيثار هو تقديم الغير على النفس، أي يقدم المرء حاجة غيره على حاجته، على الرغم من احتياجه لها، ومساعدة وعمل الخير للآخرين من دون مقابل، وهو عكس الأَثَرة والأنانية، أي حب الذات أو النفس وتفضيلها على الآخرين وتقديم المصلحة الشخصية على المصلحة العامة.

والإيثار هو حبُّ الخير للناس جميعًا، ونشر الإخاء ونبْذ الأهواء، وهذه هي الدعائم التي تُسعِد الأفراد، وترفع شأن المجتمعات، وهي أساس الخير وسبيل الإصلاح. الإيثار رمز المحبة والوفاق، وعنوان الرحمة والوئام والاطمئنان، به تقوَى الروابط، وتتوثَّق المودَّة، وتسود السكينة والطمأنينة، وتَعلو الكلمة الْخَيِّرة، وتعمُّ النعمة والرحمة، فتنعم الأمم بحياة طيبة، وعيشة راضية؛ ولذا فقد امتدَح الله تعالى الأنصار الذين آثروا إخوانهم من المهاجرين على أنفسهم، وجاؤوا لهم بأموالهم وأرزاقهم عن طيب خاطر، فطيَّب الله قلوبَهم، وأثنَى عليهم في كتابه العزيز، ومنَحهم الله في الدنيا والآخرة وسامَ الفلاح والفوز بالجنة، وجعلهم من المفلحين؛ فقال الله تعالى في حقهم: [وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ] [سورة الحشر-الآية:9].

وقد أكد الإسلام الحنيف ورغَّب وحثَّ على ممارسة وإحياء فضائل الإيثار والعطاء والإحساس بالآخرين، بمختلف الوسائل، سواء بالمال أو الوقت أو قضاء حوائج الناس، وأمر بتعميقها في نفوس وقلوب الأفراد، للحصول على الثواب الدنيوي والأخروي، ولضمان تماسك المجتمع وتقدمه. كما أُجريت الكثير من الدراسات والأبحاث العلمية عن طبيعة الإيثار وأهم منبئاته وارتباطاته، وأكدت نتائجها على المنافع الصحية الجسمية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية الكثيرة التي يجنيها الفرد والمجتمع من ممارسة سلوك الإيثار والعطاء وحب مساعدة الآخرين، سواء بالمال أو بالكلمات الطيبة المشجعة. واكتشف العلماء أن هناك منطقة في المخ مسؤولة عن سلوك الإيثار وترتبط بزيادة وشدة نشاطها مباشرة بدرجة الإيثارية لدى كل فرد.

وعكس الإيثار هي الأَثَرة؛ التي تتمثل بحب النفس، وتفضيلها على الآخرين، وهي صفة ذميمة نهى عنها النبي . فما أقبح أن يتصف الإنسان بالأنانية وحب النفس، وما أجمل أن يتصف بالإيثار وحب الآخرين[29].

الإيثار عند علماء علم النفس[30]

يقول عالم النفس الأميركي، دانييل غولمان، في كتابه “الذكاء العاطفي”، إن علماء علم نفس النمو وجدوا من خلال دراساتهم، أن جذور الأخلاق يمكن غرسها في الإنسان منذ مرحلة الطفولة. فالأطفال منذ اليوم الأول لولادتهم، يشعرون بالاضطراب والتوتر عند سماع طفل آخر يبكي. ومثال ذلك ما جاء في دراسة عالم النفس مارتن هوفمان، المختص في التعاطف، بأن طفلًا عمره عام، قام بجذب أمه نحو صديقه الطفل الذي يبكي لتواسيه وتخفف عنه، متجاهلًا أم صديقه الطفل الموجودة بالحجرة، وطفلة أخرى عمرها عامًا تضع إصبعها في فمها إذا جرحت إصبع طفلة أخرى، لتتبين هي أيضًا إن كانت ستشعر بالألم والأسى. ويرى هوفمان أن جذور الفضيلة أو الأخلاق موجودة في القدرة على إبداء مشاعر التعاطف، بمعنى أن تتصور نفسك في مكان الآخرين، وهذه القدرة هي التي تدفع الأفراد لمشاركة الآخرين في محنتهم والتحرك لفعل أي أشياء لمساعدتهم. ويرى هوفمان أن التعاطف مع الآخرين ينمو بشكل طبيعي منذ السنوات الأولى لمرحلة الطفولة ويستمر مع امتداد العمر.

الإيثار وحبُّ الخير للناس نزعة وشعور داخلي[31]

إن الإيثار والعطاء وحب الخير للغير، نزعة وشعور داخلي موجود في نفس كل فرد مسلم، ويحتاج لمن يثيره ويخرجه ويحوله إلى سلوك واقعي عملي؛ بالكثير من الأساليب والطرق المبتكرة، وتتسم الشخصية الإسلامية بسمة الإيثار والعطاء وحب مساعدة الآخرين، مستمدة ذلك من الإسلام الحنيف وأحكامه.

فقد أكد القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، بالكثير من الآيات والأحاديث، وكذلك الصحابة والسلف الصالح على خلق الإيثار والعطاء. قال الله تعالى: [وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ] [سورة الحشر-رقم الآية: 9]. والخصاصة شدة الحاجة، وورد أن: [أنَّ رَجُلًا أتَى النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَبَعَثَ إلى نِسَائِهِ، فَقُلْنَ: ما معنَا إلَّا المَاءُ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: مَن يَضُمُّ -أوْ يُضِيفُ- هذا؟ فَقالَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ: أنَا. فَانْطَلَقَ به إلى امْرَأَتِهِ، فَقالَ: أكْرِمِي ضَيْفَ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ. فَقالَتْ: ما عِنْدَنَا إلَّا قُوتُ صِبْيَانِي. فَقالَ: هَيِّئِي طَعَامَكِ، وأَصْبِحِي سِرَاجَكِ، ونَوِّمِي صِبْيَانَكِ إذَا أرَادُوا عَشَاءً. فَهَيَّأَتْ طَعَامَهَا، وأَصْبَحَتْ سِرَاجَهَا، ونَوَّمَتْ صِبْيَانَهَا، ثُمَّ قَامَتْ كَأنَّهَا تُصْلِحُ سِرَاجَهَا فأطْفَأَتْهُ، فَجَعَلَا يُرِيَانِهِ أنَّهُما يَأْكُلَانِ، فَبَاتَا طَاوِيَيْنِ. فَلَمَّا أصْبَحَ غَدَا إلى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَقالَ: ضَحِكَ اللَّهُ اللَّيْلَةَ -أوْ عَجِبَ- مِن فَعَالِكُما. فأنْزَلَ اللَّهُ: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)].

وورد أيضًا: [أنَّ امْرَأَةً جَاءَتِ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ببُرْدَةٍ مَنْسُوجَةٍ، فِيهَا حَاشِيَتُهَا، أَتَدْرُونَ ما البُرْدَةُ؟ قالوا: الشَّمْلَةُ، قالَ: نَعَمْ، قالَتْ: نَسَجْتُهَا بيَدِي فَجِئْتُ لأكْسُوَكَهَا. فأخَذَهَا النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مُحْتَاجًا إلَيْهَا، فَخَرَجَ إلَيْنَا وإنَّهَا إزَارُهُ، فَحَسَّنَهَا فُلَانٌ، فَقالَ: اكْسُنِيهَا، ما أَحْسَنَهَا. قالَ القَوْمُ: ما أَحْسَنْتَ، لَبِسَهَا النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مُحْتَاجًا إلَيْهَا، ثُمَّ سَأَلْتَهُ، وعَلِمْتَ أنَّهُ لا يَرُدُّ. قالَ: إنِّي واللَّهِ، ما سَأَلْتُهُ لألْبَسَهُ، إنَّما سَأَلْتُهُ لِتَكُونَ كَفَنِي. قالَ سَهْلٌ: فَكَانَتْ كَفَنَهُ.] [صحيح البخاري-رقم الحديث:1277].

وما ورد من صور الإيثار أن الصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين: [الحارث بن هشام، وعكرمة بن أبي جهل، وعياش بن أبي ربيعة، ارتُئوا يوم اليرموك، فدعا الحارث بماء ليشربه، فنظر إليه عكرمة، فقال الحارث: ادفعوه إلى عكرمة، فنظر إليه عياش بن أبي ربيعة، فقال عكرمة: ادفعوه إلى عياش، فما وصل إلى عياش، ولا إلى أحد منهم حتى ماتوا وما ذاقوه] [رواها الحاكم في “المستدرك”].

وقد قسم الإمام ابن القيم، رحمه الله تعالى، خُلُق الإيثار إلى منزلتين: الأولى: أن تؤثر الخلق على نفسك فيما يرضي الله ورسوله، وهذه درجات المؤمنين من الخلق والمحبين من خلصاء الله. والثانية: إيثار رضاء الله على رضاء غيره، وإن عظمت فيه المحن ولو أغضب الخلق، وهي درجة الأنبياء وأعلاها للرسل، عليهم الصلاة والسلام.

هذه الصور والنماذج المشرقة للإيثار والعطاء تجعل كل مسلم يبحث عن كيفية إحياء وتشجيع أخلاق وفضائل الإيثار والعطاء والإحساس بالآخرين وقضاء حوائج المحتاجين، والوعي بقيمة المال والعمل والتنافس المشروع على كسبه بين أفراد المجتمع، للتخفيف من معاناة وآلام المحتاجين والمحرومين، حيث تتسبب الأَثَرة والأنانية في عداوات وخلافات بين كثير من الأفراد، وفي هدم كثير من البيوت وتشريد الكثير من الأسر والمجتمعات. وأن يفكر في كيفية تنشئة الأبناء على هذه الفضائل والأخلاق لتصبح سلوكًا فعليًا ونمطًا للحياة بين أفراد وداخل المجتمعات الإسلامية، وكذلك التفكير في أساليب وطرق مبتكرة أفضل للعطاء ولاستثمار وصرف وتوظيف أموال الأثرياء وأصحاب رؤوس الأموال، وأهمية غرس ونشر ثقافة تبرع الأثرياء ومسؤوليتهم الاجتماعية تجاه مجتمعاتهم الإسلامية، وللعمل على نهضة الأمة وتقدمها، وللنجاح في الدنيا والآخرة.

أعلى مراتب الإيثار[32]

قَال رسول الله : [لَا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ، حتَّى يُحِبَّ لأخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ] [صحيح البخاري-رقم الحديث:13]. فهذا الحديث يجسّد أعلى مراتب الإيثار في الإسلام؛ وهو أنْ يحبَّ المسلم لأخيه ما يُحبُّ لنفسه. ومن هنا يمكن تعريف الإيثار على أنّه تقديم المرء غيره على نفسه فيما هو في حاجة إليه من أمور الدنيا، ويقابله الأَثَرة التي هي استبداد المرء بالفضل واستحواذه عليه دون غيره. والإيثار أعلى درجات المعاملة مع الناس، ويليه العدل وهو اختصاص كل فرد بحقه، وأسوأ درجات المعاملة الأَثَرة. والإيثار يرفع المجتمع إلى قمة الأمن، لأن أفراده ارتفعوا عن حظوظهم الدنيوية، وآثر بها كلٌّ منهم أخاه، فهو لا يفكر في أن يستوفي حقّه كاملاً فضلًا عن التفكير في الأَثَرة والاستبداد.

الإيثار في الإسلام هو أعظم أسباب الراحة النفسيّة في الحياة؛ لأنّه يدعو إلى كلِّ المقاصد السامية الكفيلة بجَعْل حياة الإنسان أكثر استقرارًا. فالإسلامُ حياةٌ سعيدةٌ بما يحمل في طياته من سُموٍّ في العلاقات، ونُكرانٍ للذَّات، وانخراطٍ في الجماعة، ونبذٍ لحبِّ النفس والكِبر والجشع، وحثٍّ على الإيثار ومشاركة الناس بالخير والنفع وحبِّ السعادة لهم. فإنَّ حياةً يؤثرُ الناسُ فيها غيرهم على أنفسهم، لهي حياةٌ سعيدة بكل المقاييس والمعايير.