في حياة الإنسان محطات تحتاج كل واحدة منها إلى استعداد خاص أحيانا يقوم به منفردا وأحيانا يقوم به مع غيره؛ فمحطة الميلاد تحتاج من الأسرة والمجتمع إلى استعداد لاستقبال القادم الجديد، و محطة الامتحانات الدراسية تحتاج إلى استعداد من الطالب والمدرسة من بداية العام الدراسي بل من قبل أن يبدأ ، ومحطة الانتقال من الحياة الدنيا  إلى الحياة الآخرة تحتاج إلى الاستعداد أيضا، يبدأ هذا الاستعداد مع إدراك الإنسان منذ الصغر لمفهوم المسئولية والمحاسبة، وإدراك الأسس التي سيحاسب عليها ، وإلى شمول مفهوم المحاسبة للكبير والصغير.

فهم طبيعة الحياة الدنيا

 وإذا أردنا الحديث عن الاستعداد ليوم القيامة علينا أن نبدأ أولا بإدراك طبيعة هذه الحياة الدنيا وأنها مزرعة للآخرة ، ومعنى ذلك أننا لو أحسنا وضع البذور في مكانها الصحيح وتتبعنا دورة الإنبات وبذلنا المجهود المناسب سنحصل على مكان أفضل وحياة أحسن بلا نهاية، وإذا ضيعنا على أنفسنا هذه المنحة الإلهية فقد حرمناها الخير كله الذي لا يمكن تعويضه.

ومن فضل الله تعالى علينا أن بين لنا أحداث اليوم الآخر في القرآن والسنة وهذا البيان يدعونا إلى الاستعداد المستمر  لمثل هذا اللقاء، هذا الاستعداد لا يتوقف عند كبار السن أو من يصاب بمرض يشعر معه أن أجله قد اقترب بل هي مهمة الإنسان أيا كان عمره وحالته ﴿وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا﴾ [الإسراء: 19] 

جوانب الاستعداد ليوم القيامة

وجوانب الاستعداد لليوم الاخر تشمل حركة الحياة كلها لكننا نختار منها عدة مجالات:

مجال القلب

فهو محل نظر الله تعالى « إِنَّ اللهَ ‌لَا ‌يَنْظُرُ ‌إِلَى ‌صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ، وَأَعْمَالِكُمْ .»[1] ووجود الخير في هذه القلوب سبب للخير في الدنيا والآخرة ، إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا  ، وعندما تعمر هذه القلوب بالخير  تتقلب في رضوان الله تعالى ورحمته ، قال عبد الله بن الإمام أحمد لأبيه أوصني، “فقال: يا بني، انْوِ الخَير، فإنك ‌لا ‌تزال ‌بخيرٍ ‌ما ‌نَويتَ الخير[2]

مراقبة القلب وإصلاحه

تحتاج القلوب إلى مراقبة مستمر للوقوف على ما يصيبها من خلل وما يحدث لها من تقلبات قال عبد الله بن رواحة ـ”الْقَلْبَ أَسْرَعُ ‌تَقَلُّبًا ‌مِنَ ‌الْقِدْرِ إِذَا اسْتَجْمَعَتْ غَلَيَانًا»[3] كما تحتاج إلى  إصلاح مستمر  فالنفس الأمارة بالسوء وشياطين الإنس والجن يعملان ليلا ونهارا على إفساد هذه القلوب ، لإن فساد القلب يترتب عليه فساد النية و القول والعمل ومن ثم الوقوف بين يدي الله تعالى بلا حسنات أو بحسنات كثيرة توزع على خصوم أكثر.

العلاقات الاجتماعية وتأثيرها

تقوم الدنيا على ارتباط مصالح الناس بعضهم ببعض ، وإذا تأسست هذا المصالح على رعاية الخُلق والدين كان لها اتصالا وبقاءا ونفعا لأصحابها في الدنيا والآخرة ، وإذا تأسست على مجرد المنافع الدنيوية فإنها سرعان ما تتحول إلى عداوات أو على أقل الأحوال جفاء وقطيعة، وهذه العلاقات لها أشد التأثير في استعدادنا لليوم الآخر ، فأهل الفلاح عند الله تعالى هم الذين أسسوا علاقات صحيحة يتم التواصي فيها  بالحق والصبر ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ [العصر: 2-3]. 

وأهل النار يتحسرون على غياب الصديق الحميم ﴿فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ﴾ [الشعراء: 100-101]   كم من الخير يمكن أن يحدث لرجل أو امرأة يحيد عن الصراط المستقيم حتى يكاد يخرج من المعصية إلى الكفر أو اليأس من رحمة الله تعالى أو الفساد والإفساد ، فيرده صاحب صالح برفق وصبر وصدق ودعاء وابتهال إلى الله تعالى في الثلث الأخير من الليل وفي السجود وفي كل موطن يرجو فيه الإجابة أن يرد العاصي إلى الله تعالى ردا جميلا.

الوفاء بالتعهدات

يتم التعهد من خلال عقد مكتوب أو وعد شفوي بشيء في المستقبل يمثل الالتزام به صدق الإيمان وشرف الكلمة ؛ بدأ من تعهد الوالد لأبنائه بشراء شيء يحبونه أو بنزهة يروحون فيها عن أنفسهم ، إلى العهد الذي قطعه كلا الزوجان على نفسيهما بالمحافظة على بينان الأسرة في الصحة والمرض والعسر واليسر والمنشط والمكره، وتحمل كل طرف للآخر في لحظات ضعفه وعجزه ، إلى وفاء التاجر للمستهلك بالمواصفات المدونة على السلعة وتسليمها في الوقت المتفق عليه ، إلى وفاء رب العمل بما وعد به العمال من منح مالية أو إجازات يحصلون عليها أو  يحصلون على مقابل العمل خلالها وعدم الزيادة على ساعات العمل إلا بالتراضي  ودفع المقابل الملائم للعامل ، ووفاء العامل بأداء عمله بإتقان وعدم إهدار الوقت والحرص على المؤسسة التي يعمل بها؛سمعتها ومصالحها وتحقيق الريادة لها بين المؤسسات المنافسة.

الوفاء بالتعهدات ينجينا من فضيحة كبرى يوم القيامة ،قال رَسُول اللهِ : ” ‌يُرْفَعُ ‌لِلْغَادِرِ لِوَاءٌ بِغَدْرِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُقَالُ: هَذَا لِوَاءُ غَدْرَةِ فُلَانٍ [4].

مراقبة الأسئلة الأربعة يوم القيامة

قال رَسولُ اللهِ : “لا تزُولُ قَدمَا عَبْدٍ [يومَ القِيامةِ] حتَّى يُسْألَ عن عُمُرِهِ فيما أفْناهُ، وعن عِلْمِه فِيمَ فَعلَ، وعن مَالِه من أيْنَ اكْتَسبَهُ وَفِيمَ أنْفقَهُ، وعن جِسْمِه فِيمَ أبْلاهُ”[5].

هذه الأسئلة تدعونا إلى نراقب أعمارنا ونعمرها بما ينفعنا في الدنيا والآخرة ، وأن ننتفع بعلمنا في تحسين حياتنا حين نطبق ما حصلناه من معلومات دينية ودنيوية في واقعنا ، وأن ننتبه إلى مصادر دخلنا وإنفاقنا هل تسير وفق الحلال الذي ينفع صاحبه وهل تتصف نفقاتنا بالسرف والخيلاء والرغبة في الشهرة ، وعن هذه الأمانة التي منحنا الله تعالى إياها هل نحافظ على صحتنا ونستخدمها فيما يرضي الله أو في أذية الخلق والتطاول عليهم.   

المحافظة على الحسنات

يحافظ الإنسان على ممتلكاته ويدافع عنها بروحه، فهل يحافظ على حسناته بنفس القدر؟

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ قَالَ: « أَتَدْرُونَ مَا ‌الْمُفْلِسُ؟ قَالُوا: ‌الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ، وَلَا مَتَاعَ فَقَالَ: إِنَّ ‌الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ .»[6].

عَنْ ثَوْبَانَ، عَنِ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: “لَأعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَعْمَالٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا، فَيَجْعَلُهَا اللهُ عز وجل هَبَاءً مَنْثُورًا”، قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللهِ! صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا، أَلَّا نَكُونَ مِنْهُمْ، وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ، قَالَ: “أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، ‌وَيَأْخُذُونَ ‌مِنَ ‌اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللهِ انْتَهَكُوهَا”[7]

من أشد اللحظات حسرة على الإنسان أن ينزع منه شيء يحبه وتزداد الحسرة حينما يعجز عن تعويض ما نزع منه تجنبا للحسرات المضاعفة، خسارة الحسنات وفوت رضوان الله تعالى وجنته يأتي تحذير النبي من فقدانها يوم القيامة في ساعة لا يمكننا تعويض ما فقدناه، ولذلك كان من أكبر الاستعدادات التي نقوم بها للقاء الله تعالى المحافظة على ما قدمناه من حسنات. 

أهمية المبادرة للأعمال الصالحة

المبادرة أحد أسباب النجاح في الدنيا والآخرة ، قَالَ : ‌بَادِرُوا ‌بِالْأَعْمَالِ ‌فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا[8].

وهذه المبادرة تدعونا دوما إلى اغتنام الفرص قبل أن تضيع  وقبل أن يمنعنا الكسل أو تحول الفتن بيننا وبين العمل «قَالَ رَسُولُ اللهِ لِرَجُلٍ وَهُوَ يَعِظُهُ: “اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ[9]»

‌‌هذه المبادة قبل الساعة التي يقول فيها أحدهم متحسرا ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ [المؤمنون: 99-100] 

كيف نستعد ليوم القيامة من خلال أعمالنا اليومية؟

إن الاستعداد ليوم القيامة يعني مزيدا من العمارة للأرض؛ فالدنيا مزرعة للآخرة ومصدر الحسنات: قول معروف وكلمة طيبة ، ونبتة تسبح الله تعالى وتنقي الجو وتوفر الطعام للمحتاجين ، وبناء يستري ويأوي بني آدم ، وطب يداوي المريض ، ومدرسة تعلم الحق والخير والجمال ، وما يترتب على ذلك كله من صناعات تراعي توفير احتياجات الإنسان وتحافظ على البيئة في ذات الوقت ،ومهن واقتصاد وإدارة وفرص عمل ، يحكم ذلك كله قوله تعالى ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الأنعام: 162-163] 

إننا نشعر بالتقصير عندما ننظر لأعمالنا  وذنوبنا ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين ، و لمن يطمع في شفاعة النبي عليه  بسلوك طريقه في الحياة ؛ طريق الحب والرحمة والقوة والعدل والإحسان ،و أن يسعى للشفاعة الحسنة التي يصل فيها صاحب الحق لحقه، ولمن يطمع في شفاعة القرآن الكريم عليه أن يكون من أهله الذين يقومون بحقه.

إن الاستعداد للآخرة يعني أن نراجع أنفسنا قبل أن نبدأ عملا ما وأثناءه وبعد أن ننتهي منه ونتسائل لمن نقدم هذا العمل؟ لله تعالى أو لإرضاء النفس أو لإرضاء الآخرين ،وهل هذا العمل يسير في الطريق الذي أمرنا  الله أن نسير فيه أم يتبع خطوات الشيطان. 

إن الاستعداد للآخرة لا يمنع الإنسان من نيل نصيبه من رزق الله تعالى ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ [الأعراف: 32]