هم يعيشون حولنا وفيما بيننا، قد لا نشعر بأوجاعهم ولا نعرف آلامهم، إلا بعد سماع خبر سقوطهم من برجٍ عال. ولا نُفكّر فيما كان يدور ببالهم عند قطع أوصالهم إلا بعد تداول قصّتهم في المواقع الإلكترونية. كانوا في لحظة ما يشعّون بالحياة وفي وسوسة شيطانية أزهقوا أرواحهم بأيديهم وارتكبوا في انتحارهم ذنباً من كبائر الذنوب. فلا صلاة جازت عليهم ولا رحمةً إلا ما شاء ربّي.
هم ليسوا بقلّة. فقد وصل عددهم إلى نحو 8 مليون ونصف حالة متوفّي حول العالم -بسبب الانتحار-، بحسب تقديرات منظمة الصحة العالمية خلال عام 2012، في تقرير لها صدر عام 2014 بعنوان “الوقاية من الانتحار ضرورة عالمية” . وردَ فيه حقيقة مفجعة وهي: أن كل 40 ثانية يُقتل شخصاً ما بسبب الانتحار.
والمؤلم أن الانتحار يحتل المرتبة الثانية بين أهم أسباب الوفاة في فئة الشباب (15-29 عاماً) على مستوى العالم وينتشر بشكل كبير بين الفئات التي تعاني من التهميش والتمييز في المجتمع. وقد بلغ عدد حالات الانتحار في البلدان المنخفضة ومتوسطة الدخل بالشرق الأوسط 30 ألف حالة عام 2012 أي ما يُشكّل 3.7% من النسبة العالمية.
فما هي أسباب الانتحار؟ لماذا ينهي هؤلاء الناس حياتهم كل عام؟ هل هو بسبب الفقر؟ البطالة؟ انهيار العلاقات الزوجية-الاجتماعية؟ أم هو بسبب الاكتئاب أو الاضطرابات النفسية؟ هل الانتحار نتيجة لفعل متهور، أم أنه نتيجة تأثريات الكحول أو المخدرات أو القُمار؟
لقد اعتبر الباحثون في منظمة suicide.org ومراقبون في منظمة الصحة العالمية أن أسباب الانتحار غالباً ما تكون كالآتي:
الحروب، وفاة أحد أفراد الاُسرة. الطلاق والانفصال، فقدان حضانة الأطفال، أو فقدان وظيفة، منزل، أو المال. إمّا مرض خطير أو حادث مُفجع. وإمّا الألم الجسدي المزمن. أو الألم العاطفي الشديد. وربّما الاكتئاب وفقدان الأمل والشعور بأن الأمور لن تتحسن. ولا يسقط من الحسبة العنف المنزلي، والاغتصاب، والاعتداء الجسدي واللفظي، أو الشعور بالعجز.
إلى جانب مشاكل قانونية خطيرة مثل الملاحقة الجنائية أو السجن، أو عدم القدرة على التعامل مع الفشل، وإما إدمان الكحول وتعاطي المخدرات، أو الأرجح الشعور بخيبة أمل أو بالظلم أو بالتمييز العنصري أو تدني احترام الذات.
في الواقع هناك العديد من الأسباب، لكن يُمكن القول إن السلوك الانتحاري هو سلوك اندفاعي وظاهرة معقدة تتأثر بعدة عوامل تتفاعل مع بعضها البعض من عوامل شخصية واجتماعية ونفسية وثقافية وبيولوجية وبيئية. ومن أجل التصدّي لهذه الظاهرة، لا بدّ بحسب الأخصائيين التنبه إلى المؤشرات التي تسبق الانتحار، حيث أن ما يقارب 90% من هذه الحالات قد سبقتها علامات تحذيرية سواء لفظية أو سلوكية.
لهذا الهدف، اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها السادسة والستون، مايو 2013، أول خطة عمل من نوعها أطلقتها منظمة الصحة العالمية في مجال الصحة النفسية. ومن ضمنها قضية الوقاية من الانتحار كجزاء لا يتجزأ من هذه الخطة، لخفض معدل الانتحار في البلدان بنسبة 10٪ بحلول عام 2020 ، وذلك من خلال :
الحد من إمكانية الحصول على وسائل الانتحار الأكثر شيوعاً مثل: المبيدات الحشرية، والأسلحة النارية، وبعض الأدوية وإبعادهم عن المباني والجسور. وإدماج الوقاية من الانتحار في خدمات الرعاية الصحية. ومن ثم تعزيز استراتيجية التحديد المبكر للأعراض الانتحارية على مستوى المجتمع عبر التوعية.
من واجبنا كمسلمين أن ندعم المفجوعين، وأن نساهم في تفريج كُربة البائسين، وأن نقدّم الدعم النفسي لكلّ من نشعر أنه قد يفقد الأمل بالله سُبحانه وتعالى ولو لبُرهة، فالانتحار من كبائر الذنوب، وفاعلها متوعد بالخلود في نار جهنم أبداً. قال الله عزّ وجلّ في كتابه العزيز ” يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ” يوسف : (87)
عن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: ( مَن قتل نفسه بشيء في الدنيا عذب به يوم القيامة ) رواه البخاري ( 5700 ) ومسلم ( 110 ) . وعن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ : ( كان فيمن كان قبلكم رجل به جرح فجزع فأخذ سكيناً فحز بها يده فما رقأ الدم حتى مات . قال الله تعالى : بادرني عبدي بنفسه حرمت عليه الجنة ) رواه البخاري ( 3276 ) ومسلم ( 113 ).
على المؤمنين أن يستعينوا بالله وأن يصبروا. ولو كان الصبر سهلاً لما كان باباً من أبواب الجنّة، لنتأمل في قصص الأنبياء حيث أصابهم البلاء والكُرب والضيق ولم ييأسوا من قدرة الله التي وسعت كلّ شيء. ولنكن على يقين أن الله حسبنا وأن الملايين غيرنا يمرون بالمصاعب والشدائد وأننا لسنا وحدنا وأن الإيمان والصلاة هو الحلّ.