ليس هناك سقوط مشرف في الحقيقة إلا سقوط الشهيد في ساحة المعركة مضرجا بدمه الثائر للكرامة، ولذلك نسميه (ارتقاء) لأنه في الحقيقة كذلك، غير ذلك كبوة بغض النظر عن الكابي؛ جوادا أو فرسا ذميما، وبغض النظر عن غفرانها لصاحبها أو حسبانها عليها، المهم أن يعرف هو أنه كبا وعثر، فهل يستحق علينا باعتبارات أخرى أن نقول له: لعا أو لا لعا، تلك قضية أخرى.

الانتماء للحركات والأحزاب وغيرها من كيانات الاجتماع البشري موقف شخصي الأصل أن تدفع إليه قناعة ذاتية بالرؤية والمنهج والآليات، وأن يترجم ذلك الانتماء إلى بذل ونصح واستعداد للتضحية في سبيل ما انعقدت طوية النفس على صلاحه وصلاحيته، وحين تتغير تلك القناعة يصبح من اللازم كرامةً بل وشرعا على صاحبها أن يغادر باتجاه ما يراه الأصلح والأنفع.

طبيعة الانتماءات المؤسسة على تفكير وروية ولا مكان لهوى النفس فيها أن تحصل ببطء وأن تتغير ببطء أيضا، تماما كما يخزن البحر الحرارة ببطء ويسربها ببطء، المصالح وحدها هي التي تجعل الإنسان كالصخرة تبرد عند أول نسيم وتلهبها ناشئة أشعة الشمس، لكن ذلك لا ينفي أنه أحيانا يغتر الإنسان ببريق تيار أو حركة أو حزب ثم يكتشف زيف ذلك عند أول مماسة فينفر طبعه السوي ونفسه العزيزة منه.

ليس هناك شخص ولا جهة تمتلك الحقيقة كاملة ولا الصواب كله، كما أنه ليس هناك من يمكن اعتباره الأقرب للشرع أو الحق مطلقا، كل الأمور في التدافع السياسي والفكري نسبية بتفاوت لا يخرمها أبدا، هذا صحيح، ولكن هناك أمر يلزم التنبه له، هو أن القول بنسبية تمثيل الأمور للحقيقة يعني نسبيتها في ذاتها لا في الموقف منها، ذلك بأن الاختيار لازم، والانتظار المفتوح لحين معرفة يقينية بـ”الحق المطلق” أدنى أوصافه أنه فتنة مفتوحة، ليس أمام صاحبها وقت محدد للحسم، لأن الوحي الذي يمكنه الحسم قد انقطع.

من أخلاف الفروسية العربية أن لا يترك الرجل حلفاءه في موقف يجلب له الظن بخوف أو طمع، ونعما هي خصلة جاهلية زكاها الإسلام، تحفظ للمرء مروءته وتدفع عنه المذمة، أما أن تغادر وحليفك الأول مكبلا في القيد أو مغيبا في السجن وخصمه ينصب الرايات ويقيم الولائم ويبتهج بخلو المشهد له؛ فأقل ما يمكن أن توصف به هو أنك تصرفت في “الوقت الخطإ” أخلاقيا إن لم نقل إنك منتجع مصالح ذاتية وأنانية، ولبئس خلة المرء تلك.

من الخطإ اعتبار “التنقل” بين الخيارات السياسية والفكرية لدوافع مصلحية واضحة أمرا عاديا، هو في نظري تأسيس غير أخلاقي للتطبيع الاجتماعي مع تقديم المصالح على المبادئ، ولذلك ينبغي أن يسمى “انتجاعا” وليس “مراجعات فكرية أو سياسية” لأنه في الحقيقة فرع عن طبيعة “الانتجاع” المتأصلة في طينة المجتمع البدوي الرحال التي استطاعت الآلية الاجتماعية لـ”تدوير القيم” أن تنقلها من فضاء “التنمية الحيوانية” إلى فضاء “التنمية البشرية”.

لقد ملت التجارب السياسية هذا الانتجاع فسنت قوانين للحد من الترحال السياسي مثل بقاء المنصب ملكا للجهة التي أخذ تحت لافتتها وبأصوات جمهورها، وهي وسيلة لفرض (شرف الثبات) بوسائل خارجة عن الإرادة، فكيف تحاربه إجراءات السياسة وتبرره مبادئ الأخلاق، إن ذلك أنهض حجة على الانهيار القيمي والفوضى الأخلاقية التي يعيشها مجتمع اليوم الذي يؤسس قيمه بمؤشرات الـ”هاشتاغ” و”الترند”.

ليس من أخلاق الفروسية ولا من قيم الإسلام الإجهاز على الجريح، خصوصا إذا كان جريح كرامة يقع تحت طائلة ضغط نفسي أو عائلي أو سلطوي، ولكن هناك مساحة واسعة بين الإجهاز عليه وبين القيام بعملية “غسيل أخلاقي” لسقطته، ليخرج بطلا أو بريئا على الأقل، ينبغي أن يلقى “المنتجع” من المجتمع ما يبقي على مثقال ذرة من تأنيب في ضميره، وأدنى ذلك أن لا يجد من يهتم به أو يتحدث عنه، ولذلك أصل شرعي معروف.

لا أريد أن أقول إن الانتماء لحزب ما أو تيار ما رابطة عقدية يعتبر فسخها ردة، ولكني أقول إنه من سيء الأخلاق والأعمال والأهواء أن يكون الإنسان سنبلة مستحصدة كلما هبت الرياح من جهة انحنت أمامها أو انقصفت تحتها.