بينما يشهد العالم العربي فجوة معرفية في مجالات المناظرة والحجاج، يبرز باحثون مثل محمد كوماث، الباحث الهندي بجامعة ابن خلدون باسطنبول، كأمثلة حيّة على جسور علمية وفكرية تمتد من كيرلا في الهند إلى قلب التراث العربي الإسلامي. فمشروعه البحثي الفريد يقارن بين أصول الفقه الإسلامي والمنطق غير الصوري الحديث، ساعيًا لإثبات أن علم الجدل الإسلامي ليس مجرد أثر تاريخي بل أداة حيّة لتطوير التفكير النقدي وفهم المنطق المعاصر.
تنبع قيمة هذا البحث من قدرته على إعادة اكتشاف الكنوز الحجاجية الإسلامية وتقديمها بلغة أكاديمية عالمية، كما يظهر في نشره بدوريات مثل “Informal Logic” وحصوله على جائزة أنتوني بلير بكندا. والأكثر إثارة أنه يفتح الباب أمام دمج هذه الرؤى مع تقنيات الذكاء الاصطناعي، ليصبح الجدل الإسلامي جزءًا من مستقبل النقاشات القانونية والسياسية وحتى بين الآلة والإنسان.
في الوقت الذي يفتقر فيه العالم العربي للنتاج المعرفي في مجالات المناظرة والحجاج والحوار، كان لمركز مناظرات قطر السبق في إطلاق زمالة بحثية بهدف رعاية الباحثين المهتمين في تطوير المعرفة في مجال المناظرة والعلوم المتقاطعة معها، ويهدف البرنامج إلى استقطاب الباحثين والأكاديميين من ذوي الاهتمام في مجال المناظرات لتمكينهم من تقديم بحوث أكاديمية رصينة ونشرها عبر توفير مختلف سبل الدعم الأكاديمي والمالي لمدة سنتين قابلة للتمديد لكل مشروع، ويرعى البرنامج في الوقت الحالي سبعة مشاريع بحثية تتنوع مواضيعها بين تحليل أساليب الحجاج العربي المعاصر، وتطوير نموذج للذكاء الاصطناعي لفهم الحجاج العربي، وفهرسة ودراسة المخطوطات القديمة المعنية بالمناظرة والممارسات الحوارية في التراث الإسلامي، وصولا إلى دراسة دور المناظرة كأداة لتطوير مهارات التفكير الناقد لدى المتعلمين.

ومن بين منتسبي برنامج الزمالة الأستاذ محمد كوماث وهو باحث وطالب في الماجستير الثاني في جامعة ابن خلدون باسطنبول، ومحاضر في جامعة دار الهدى الإسلامية بالهند، والذي تقدم ببحث بعنوان “مقارنة تقارنية بين أصول الفقه الإسلامي والمنطق غير الصوري الحديث: القياس نموذجا”. وهو يعتقد أن هناك أهمية كبيرة في المقارنة والمقاربة بين تقليدين في الفلسفة، خاصة وأننا نشهد تفتتا وتمايزا في العالم، لذا فإن الجمع بين تقليدين في المنطق، تقليدين من العقل أمر بالغ الأهمية، حيث لاحظ أن هناك تشابه لافت في كيفية تعاملهما مع المنطق.
المناظرات الإسلامية ليست مجرد دراسات تاريخية
يناقش بحث الأستاذ محمد كوماث الأساليب الحجاجية التي وظفها العلماء المسلمون في كتاباتهم في علم أصول الفقه ويتخذ مثالا على ذلك كلا من الإمامين الجويني والغزالي، حيث سيتم نشر ورقته حول الموضوع في الدورية المحكمة “المنطق اللاصوري Informal Logic ” والتي تعد أحد أبرز وأعرق دوريات النشر العلمي المحكم في الفلسفة ودراسات الحجاج.
ويسعى الأستاذ محمد كوماث في موضوع بحثه عن مقارنة أساليب القياس في الحجاج بين الجدل الإسلامي ونظرية الحجاج الحديثة” لإثبات أمرين:
- الأمر الأول: أن المناظرات الإسلامية وقواعدها ليست مجرد دراسات تاريخية فحسب بل إن المناقشات النظرية التي تتم من خلالها تساعد على اتساع مساحة الفهم للمنطق.
- الأمر الثاني: هو أن الجدل ليس الغاية منه تقليل الاختلافات في الفقه فحسب بل هو إثبات حقيقة الاستقلال الفكري للعلماء.
وعلى هامش المؤتمر الدولي للمناظرة والحوار في نسخته الثانية، وفي دردشة قصيرة مع الأستاذ محمد كوماث بصفته جزء من الدفعة الأ ولى لبرنامج زمالة “مناظرات قطر” يقول محمد كوماث لـ “إسلام أونلاين” أن هذه الزمالة تقع تحت مظلة “مناظرات قطر ” وهي تهدف في الواقع أو تنطلق من رؤية نبيلة ترسخ نظرية المناظرة ونظرية الاختلاف، وكيف علينا أن نعالج الاختلاف، وكيف كانت معالجته في التراث الإسلامي.
ويضيف قائلا: في الحقيقة كانوا ينظمون البطولة الدولية للمناظرات والآن هم ينظمون أو يرتبون ويطورون فلسفة عميقة للحجاج وللمناظرة، فالزمالة في الحقيقة تنطلق من هذه الرؤية هو تطوير العقل وتطوير الفكرة والمعرفة حول مفهوم الحجاج.
علم الجدل علم متجذر في الهند
ويؤكد الأستاذ محمد كوماث عن أهمية المشروع بأنها “تتخلص أهمية في تعاطيه مع مشكلتين في الدراسات الإسلامية وهما أن التراث الفكري الإسلامي يُدرس بوجهة نظر تاريخية، وهذا نتيجة آراء متحيزة تؤكد عدم وجود علم المنطق في التاريخ الإسلامي، والمعضلة الثانية بأن الفكر الشائع في دراسات علم المنطق في الإسلام تستند على منطق أرسطو أو أفلاطون وسوف نثبت من خلال البحث أن تلك العلوم تتعشب من علم وصفه الغزالي – علم يزدوج فيه العقل والنقد – هو علم الجدل وجذوره من منطق الفقه الإسلامي لا من أرسطو وأفلاطون.
وعن إمكانية تطبيق هذه الأفكار على بعض الدول خاصة الدول أو المناطق التي تتشكل فيها اختلافات لغوية ودينية وعرقية معقدة، يقول أحمد كوماث أن الأمر موجود في الهند مثلا وفي بعض الدول المعروفة، كنظرية فقط، وليس في الغرب، ففي أمريكا وفي أوروبا هناك تقاليد أو ثروة معرفية لفهم كل هذه الأطر والمفاهيم. عندهم يقال أن المنطق غير الصوري بالتحديد يعالج هذه المشكلة، وفي الفلسفة أيضاً anletical philosophy (أو الفلسفة التحليلية) هناك نفس الفكرة.

ويضيف قائلا “في الهند يوجد لدينا في التراث وفي التاريخ مثل هذه المعالم الفكرية والفلسفية، أنتم تسألون عن التراث والتاريخ في الهند بالتأكيد يوجد ما يسمى “نياي فيلوسوفي” أو “نياي شاسرا” وهذا يعني علم الجدل، وهو تراث مشارك بين كل المدنيات وكل الحضارات.
التراث الإسلامي تبنى من كل الحضارات
يقول محمد كوماث أن التراث الإسلامي تبنى مثل هذه الأفكار من كل الحضارات لكنه طور منها فكرة إسلامية مستقلة، وفي الصين أيضا هناك أفكار مشابهة، وفي التاريخ الإغريقي كما نعلم يوجد “ديالكتيكس سوكراتيس” أو الجدل السقراطي – إذا صح التعبير – أيضا في التراث النصراني في العصور الوسطى في أوروبا، وفي الدولة البيزنطية يوجد أيضا تراث عميق جدا ومتجذر بقوة.
ماذا يعني ذلك؟ يعني أن هناك شراكة بين الإنسانية جمعاء، رغم أن الفلسفة التي تنطلق من مختلف منابع هذا التراث المعرفي تختلف أيضا في عمقها ومفهومها.
وعن الفرق الجوهري بين علم المناظرة قديما وحاليا، يؤكد محمد على أن “المناظرة والجدل عنصر جهوري في التراث الفكري الإسلامي ومطبقة في مختلف المجالات ومما أذهلني أن هناك ثروة من المناقشات التي لم تكتشف بعد”، ويضيف “وبطبيعة الحال فإنني أبحث من خلال المشروع عن تقنيات الاعتراض على الاستدلال القياسي في علم الجدل الإسلامي والمنطق الحديث وتطوير نظريات الحجاج الحديثة التي نستفيد منها في المحاججات القانونية والسياسية وغيرها”.
الذكاء الاصطناعي هو ذكاء الإنسان
وعن كيفية نقل هذا التراث التاريخي القديم جدا وتطويعه في هذا العصر الرقمي، يقول كوماث “هذا سؤال مهم جدا، وفي هذا المجال هناك زميل معنا يقوم ببحث حول كيف يمكن أن نطبق عملية تحليل الخطاب وتحليل الحجاج باستخدام Artificial Intelligence الذكاء الاصطناعي، فهذا الموضوع يدخل أيضا في مجال الحجاج وعلم الحجاج وعلم المنطق، وعلم المنطق بالتحديد هو أساس فكرة computerization ، وأعتقد أن البرامج التي تعمل وراء الذكاء الاصطناعي والتفكير الحاسوبي تحتاج بالتحديد للمنطق.
وعن إمكانية أن نرى في المستقبل – أو حتى حاليا- محاججة بين الإنسان والآلة أو بين الآلة والآلة نفسها، يقول كوماث لـ “إسلام أونلاين” أن هذا الأمر ممكن جدا، لأن حقيقة الذكاء الاصطناعي ليس بالتحديد اصطناع بل هو نتيجة فكر وبحث من صنع الإنسان، فهذا الذكاء هو ذكاء الإنسان، وبالتالي فهو يفهم الحجاج الإنساني ويفهم كيف يعمل المنطق البشري.
تجربة محمد كوماث مع مجالات المناظرة والحوار، تجربة فتية للغاية، لكنها عميقة ومثيرة، جعلت كوماث يندمج بتراثه وينصهر بثقافته المحلية في التراث العربي الإسلامي بلسان عربي فصيح، وقد اختار أن يحكي لـ ” إسلام أونلاين” عن تجربته هذه التي بدأت في منطقته في الهند المعروفة بـ “كيرلا”، فيقول: “عندنا في كيرلا في الهند تراث عميق وثري جدا، وقد ازداد ثراء وغنى بفضل التواصل المستمر بين الهند وبعض الدول العربية خاصة منها اليمن وسلطنة عُمان، فتعلم اللغة العربية هو جزء لا يتجزأ من تراثنا ومن حضارتنا، حضارة المسلمين في كيرلا، فمنذ الطفولة أول حرف ندرسه ونكتبه هو الحرف العربي وليس الحرف “المليالمي” أي الهندي.
ممارسة التناظر بالمدرسة صقل موهبتي طور لغتي وأغنى ثقافتي
ويضيف كوماث “منذ صغري تعلمت في مدرسة تقليدية لها وجهة جامعية أيضا، فدرست اللغة العربية القائمة على أسلوب تراثي، ودرست أيضا علم النحو وعلم الصرف، بالإضافة إلى ذلك كنا كطلبة نتناظر باللغة العربية داخل المدرسة وداخل الحرم الجامعي، فممارسة الحوار والمناظرة والتحدث بالعربية ساعدني كثيرا في الحقيقة، وساهم في صقل مواهب الجدل والمناظرة وتطوير اللغة في ثقافتي”.

يقول كوماث أن اللغة العربية يتم تدريسها بأسلوب جميل جدا في بعض الجامعات والكليات الهندية، في حين أن في المكتبات الأساسية وبعض المؤسسات يقتصر تعليم اللغة العربية على قراءة القرآن الكريم فقط، وأيضا في مراحل الدراسات العليا يتم تعليم اللغة العربية بأسلوب مدقق وذو جودة عالية جدا، ويوجد على الأقل عشرات الكليات والمعاهد الإسلامية التي تهتم كثيرا بهذا الجانب، والدليل على ذلك وجود فريق من جامعاتنا يشارك ببطولة مناظرات قطر الدولية، ومن خلال المناظرة والتناظر مع العرب الناطقين بالعربية، اكتسبنا تجربة إضافية ساهمت بشكل كبير في تنمية قدراتنا.
كوماث وجائزة أنتوني بلير لأبحاث الحجاج بكندا
وتشهد البرامج الأكاديمية والبحثية في مركز مناظرات قطر تطورا سريعا وتوسعا في دائرة التعاون والشراكات في الساحة العالمية عبر عديد المشاريع البحثية القائمة تحت مظلة المركز، إذ حصل مؤخرا الأستاذ محمد كوماث على جائزة أنتوني بلير المخصصة لأبحاث الدراسات العليا من جمعية أونتاريو للحجاج في كندا، وذلك عن ورقته حول الأساليب الحجاجية في العلوم الإسلامية، حيث لاقت الورقة استحسان جميع أعضاء اللجنة التقييمية للجائزة بعد عرضها ضمن مؤتمر الجمعية الثالث عشر والذي أقيم بين 21-25 مايو 2024 في جامعة وندسور في كندا.