تختلف معتقدات الملل الثلاث الكبرى في ما سيكون عليه حالُ العالم بعد حينٍ من الدهر. ولا نعلم متى تقع تلك الأحداث، لكننا نعلم أنها حقائق غيبية لا نشك فيها مطلقًا. وليس موضوعنا اليوم تصديق تلكم الوقائع أو تكذيبها، بقدر ما هو محاولة بيان حقيقة أخرى يُراد لها الانتشار، من باب تكريس وتعزيز روح التكاسل والتخاذل والتهاون في ما هو مطلوب من أمة محمد .

روايات مختلفة

تخلص الروايةُ اليهودية عن نهاية العالم إلى أنها ستتحكم بمصير البشرية تحت راية «المسيح» الذي ينتظرونه، وهو في عقيدتنا المسيح الدجال.

في المقابل، نحن المسلمين نعتقد بحقيقة خروج الدجال، لكن الصورة مختلفة، إذ إن خروجه في الوقت المحدد سيكون إحدى علامات الساعة الكبرى، وحينها يكون في صف أمة الإسلام نبيُّ الله عيسى عليه السلام، مسيح النصارى المنتظر، الذي سيبطل معتقدات أتباعه فيه، ويلتحق بأمة محمد ، بعد أن يكون المهدي المنتظر، محمد بن عبد الله، قد خرج ليحكم العالم بالعدل، ويتعاون مع نبي الله عيسى عليه السلام للتخلص من المسيح الدجال.

صراعات منتظرة

الإشكال يقع مع فكرةٍ يُراد لها أن تنتشر في أمتنا جيلًا بعد جيل، خلاصتُها أن الإنقاذ ممّا نحن فيه من أزمات ومشكلات وحروب إنما يكون باعتقاد عبثية مواجهة ظلم الأمم الأخرى، بحجة أننا أمة مستضعفة، وأن أفضل البدائل هو التعايش وانتظار خروج الدجال، الذي يعني خروج المهدي ومن بعده نزولُ نبي الله عيسى، كما ورد في أحاديث آخر الزمان.

ومن أشهر تلك الأحاديث ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: “لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، حتى يختبئ اليهوديّ وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر والشجر: يا مسلم، هذا يهودي خلفي، فتعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود”.

ويتضح من فهم الحديث الشريف ـ كمسلمين ـ أن العالم سيشهد مقتلةً عظيمة في وقت مخصوص. لكن هل يعني ذلك أن نجلس مكتوفي الأيدي ننتظر تلك المعركة؟ بالطبع لا. فهذا ليس مما يدعو إليه ديننا، ولا هو من سنّة نبينا ، ولا ممّا سار عليه خلفاؤه الراشدون، ولا أيٌّ من خلفاء المسلمين حتى سقوط الخلافة قبل قرن من الزمان.

حين كان نبينا الكريم يبني جيل الصحابة الكرام ويرسم لهم منهجهم، كان القرآن يتنزّل في الأثناء، يوضّح هذا ويبيّن ذاك، ويرشد للتي هي أقوم. ويوم أن أعاقت صخرة عظيمة الصحابةَ وهم يحفرون الخندق، جاءهم النبي الكريم فكسرها على ثلاث ضربات، وفي كل مرة تنكسر قطعة منها بشّرهم بما هو ـ في حساباتنا اليوم ـ أمرٌ غير منطقي أو بديهي، فضلًا عن أن يقبل به مَن كانوا حينها في خوفٍ على أنفسهم وأهلهم وأموالهم، حتى إن أحدهم لم يكن يأمن أن يقضي حاجته!

لكن هل اكتفى الصحابة بالأكل والشرب والعبادة وانتظار تحقق تلك البشارات النبوية كفتح بلاد فارس والروم وصنعاء؟ بالطبع لا. فقد عاشوا حياتهم الطبيعية، لكنهم في الوقت ذاته عملوا بجدٍّ وسعوا جهدهم لنيل شرف المشاركة في تحقيق تلكم البشارات.

فلم يحدثتهم أنفسهم بالتعايش مع يهود المدينة، ولا استسلموا لقوة الفرس والروم وهيمنتهم الحضارية يومئذ، بل صدّقوا ما أخبرهم به الصادق الأمين ، وتيقّنوا أن تحقيق تلك الوعود يحتاج إلى هِمم وعزائم وعمل منظّم، وقد كان.

شواهد من التاريخ

وما إن تولى أبو بكر الصديق رضي الله عنه الخلافة حتى بدأ بإعداد العدّة. نعم، هناك بشارات ووعود نبوية لا يُرتاب في وقوعها، لكنها تنتظر رجالًا ينالون شرف تحقيقها. فما هي إلا سنوات قليلة حتى فتح الله على المسلمين في عهد الصديق والفاروق عمر رضي الله عنهما بلاد الشام وفارس واليمن، ثم تكرّر الأمر في فتح القسطنطينية التي بشّر النبي بفتحها.

فلم يجلس الخلفاء مكتوفي الأيدي، بل توالت المحاولات منذ عهد معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه سنة 669م، واستمرت أكثر من سبعمئة عام، حتى تحققت البشارة على يد السلطان العثماني محمد الثاني، الملقب بالفاتح، الذي نال هو وجيشه شرف ما بشّر به الرسول : «لتفتحن القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش».

الشاهد أن أساس النجاح وكسب الصراعات العظيمة، كما في صراعنا القائم مع الأمم الأخرى، إنما يكون بالعمل الجاد وفق خطط مدروسة، وإعداد استراتيجي متين، إلى جانب الاعتزاز بالهوية الإيمانية. لقد تحققت انتصاراتنا يوم كان الدين هو الأساس، ووقعت إخفاقاتنا وهزائمنا يوم أُزيح الدين عن حياتنا.

فإذا كانت الرواية اليهودية قائمة على انتظار مسيحهم الدجال للسيطرة على العالم، وهم يعدّون العدّة لذلك منذ عقود، فإننا نحن أمة محمد أولى وأجدر بسلوك السبيل الذي رسمه لنا الرسول في مواجهة تحديات آخر الزمان. ومتى قادنا ديننا انتصرنا، ومتى أعرضنا عنه انتكسنا وانهزمنا.

إذن، ليس المطلوب الاستسلام أو التعاطي مع الأحداث بسلبية، بل المطلوب انتظار البشارات النبوية بالعمل الدؤوب والسعي الحثيث مع إيمان راسخ بأن «لله الأمر من قبلُ ومن بعد».