لقد ورد في القرآن الكريم ما يجعل طيب المدينة وكثرة خضرتها من متعة الإنسان {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} [سبأ: 15]، ومما جاء في تفسير الآية أنها “طيبة ليس فيها هوام لطيب هوائها”[1].
وقد جعل النبي ﷺ موضع سوق المدينة –حين أنشأه- “على أطراف المدينة والمحلات السكنية بحيث لا تؤثر فيها سواء بضوضائها أو بفضلاتها الناتجة عن عملية البيع والشراء”[2]. وفي موضع السوق هذا كان النبي ﷺ يذبح الأضاحي أحيانا[3]، وأحيانا أخرى “عند طرف الزقاق عند دار معاوية” في موضع “غربي طريق بني زريق”[4]، وما نفهمه من مجموع الوصف في كتب تاريخ المدينة أن ذلك أيضا كان عند أطراف البنيان[5]. وقد كان موضع قضاء الحاجة –قبل اتخاذ الكُنُف- في موضع خارج المدينة عند البقيع[6].
ونستطيع أن نُرجِع إلى هذين الأصلين: النظري –وهو القرآن- والعملي –وهو السيرة- كافةَ ما أنتجه المسلمون –في الجملة، تأصيلا وتطبيقا- في مسألة بناء المدن واختيار مواقعها، وقد ظل التأصيل يمهد للتطبيق ثم يستفيد منه ثم يُطَوِّره عبر العصور الإسلامية المختلفة، حتى حصل هذا الانقطاع المعرفي بيننا وبين تراثنا فلم نفقه كثيرا منه إلا من خلال البحوث المعاصرة.
ولعله يحسن بنا أن ندرج كلامنا عن المدن الإسلامية في ثلاثة أمور:
– التأصيل: الذي نراه في تراثنا الفكري المكتوب.
– التطبيق: الذي جرى واقعا عمليا ونقلته إلينا كتب التاريخ والآثار العمرانية.
– ما فهمناه من البحوث المعاصرة من دقائق وأسرار المدن الإسلامية التي كشفت أمورا جديدة وغير متوقعة في دقة المراعاة الإسلامية لعنصر البيئة عند بناء المدينة.
ونلتقط في كل ذلك شذرات سريعة تكفي في مقام الإشارة وضرب المثال.
1- التأصيل
وضع ابن أبي الربيع –الفقيه البغدادي الذي عاش في القرن الثالث الهجري- في كتابه الذي وضعه للمعتصم العباسي، ستة شروطا لاختيار مواقع المدن هي: سعة[7] المياه المستعذبة، إمكان الميرة[8] المستمدة، اعتدال المكان وجودة الهواء، القرب من المراعي والاحتطاب، تحصين المنازل من الأعداء والذُّعَّار[9]، أن يحيط بها سواد[10] يعين أهلها[11].
تكرر في وصف الجغرافيين والرحالة الثناء على المدينة بطيب هوائها وقلة فساد الثمار والغلال بها
كذلك لخَّص ابن الأزرق –وهو فقيه من القرن التاسع الهجري- في كتابه الذي وضعه للملوك، الأمورَ التي ينبغي مراعاتها في مواضع اختيار المدن، فجعل ذلك في أصلين: دفع المضار وجلب المنافع، وكان من جملة ما قال في “دفع المضار” ما أسماه “دفع المضار السماوية”، أي البيئية، وذلك يكون: “باختيار المواضع طيبة الهواء؛ لأن ما خَبَثَ منه بركوده أو تَعَفَّنَ بمجاورته مياهًا فاسدة أو منافع متعفنة أو مروجًا خبيثة يُسرع المرض فيه للحيوان الكائن فيه لا محالة”. وجعل في جملة ما قال في “جلب المنافع” عدة أمور: “أحدها: الماء كأن يكون البلد على نهر أو بازائه عيون عذبة ولان وجوده كذلك يسهل الحاجة إليه وهي ضرورية. الثاني: طيب مرعى السائمة وقربه… الثالث: قرب المزارع الطيبة لأن الزرع هو القوت الضروري وكونها كذلك أسهل في اتخاذه وأقرب في تحصيله”[12].
ولقد تكرر في وصف الجغرافيين والرحالة الثناء على المدينة بطيب هوائها وقلة فساد الثمار والغلال بها، والأمثلة وفيرة غزيرة في كتبهم، ولنضرب أمثلة ببعض ما أورده القزويني ملتقطين مدنا من الشرق والغرب والشمال والجنوب؛ لقد وصف القزويني أصفهان بقوله: “جامعةٌ لأشتات الأوصاف الحميدة من طيب التربة وصحة الهواء وعذوبة الماء، وصفاء الجو وصحة الأبدان… يبقى التفاح بها غضاً سنةً، والحنطة لا تتسوس بها، واللحم لا يتغير أياماً”.
ووصف تونس بقوله: “قصبة بلاد إفريقية. أصلح بلادها هواء وأطيبها ماء وأكثرها خيراً! وبها من الثمار والفواكه ما لا يوجد في غيرها من بلاد المغرب حسناً وطعماً”.
ووصف طليطلة بقوله: “من طيب تربتها ولطافة هوائها تبقى الغلات في مطاميرها سبعين سنة”، ووصف صنعاء بأنها أحسن مدن اليمن “بناءً وأصحِّها هواء وأعذبها ماء، وأطيبها تربة وأقلها أمراضًا… وهي قليلة الآفات والعلل، قليلة الذباب والهوام. إذا اعتل إنسان في غيرها ونقل إليها يبرأ، وإذا اعتلت الإبل وأرعيت في مروجها تصح، واللحم يبقى بها أسبوعاً لا يفسد”[13].
ولقد وُجِد في مؤلفات العلماء والأطباء تآليف في بيئة المدن، ومن ذلك ما أشار إليه الطبيب المؤرخ ابن أبي أصيبعة من أن الطبيب بدر الدين ابن قاضي بعلبك عمل فترة في بيمارستان الرقة[14]، فألف كتابا “في مِزاج الرقة، وهي بليغة في المعنى الذي صنفت فيه”[15].
وحرصت الكتب الموضوعة في هذا الباب -لا سيما المؤلفات المبكرة- على اقتباس أقوال حكماء الأمم السابقة في هذا الموضوع، فنجد المؤلفات الإسلامية تثبت أقوال اليونان والفرس والهند وتفيد منها، وأبرز أولئك كان المسعودي في موسوعته “مروج الذهب”.
وفي المقال القادم إن شاء الله تعالى نعرض للتطبيقات العملية لهذه الأصول النظرية، ثم نعرض لما كشفته البحوث المعاصرة من أسرار ودقائق المدن الإسلامية من وجهة النظر البيئية.
2 – التطبيق:
لقد ورد عن الأمراء والقادة اهتمامهم بأمر البيئة عند اختيار موضع إنشاء المدن الجديدة؛ فمن ذلك أن المسلمين حين فتحوا العراق نزلوا مواطن ثم أصابهم فيها الذباب والبعوض، فكتب سعد بن أبي وقاص إلى عمر بذلك فكتب له عمر: “إن العرب بمنزلة الإبل لا يصلحها إلا ما يصلح الإبل فارتد لهم موضعا عدنا ولا تجعل بيني وبينهم بحرا”. فبينما هو يبحث إذ جاءه من يعرض عليه النصيحة وقال: “أدلك عَلَى أرض انحدرت عن الفلاة[16] وارتفعت عن المَبَاقّ[17]“، فكان هذا موضع الكوفة[18].
[1] القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 14/284.
[2] د. يحيى وزيري: العمارة الإسلامية والبيئة ص45.
[3] السمهودي: وفاء الوفاء 3/3، 4.
[4] السمهودي: وفاء الوفاء 3/12، 13.
[5] السمهودي: وفاء الوفاء 2/251 وما بعدها.
[6] البخاري (146)، ومسلم (2170).
[7] سعة: أي توفرها بما يكفي ويستوعب حاجة أهل المدينة.
[8] الميرة: الطعام.
[9] الذعار: المجرمون.
[10] السواد: الأرض الزراعية التي تحيط بالمدينة.
[11] ابن أبي الربيع: سلوك المالك ص106.
[12] ابن الأزرق: بدائع السلك في طبائع الملك ص277، 278.
[13] القزويني: آثار البلاد ص50، 173، 296، 545.
[14] ومن المؤسف أننا لا نعرف عن هذا البيمارستان شيئا، ولولا عبارة ابن أبي أصيبعة هذه لم نكن لنعرفه. أحمد عيسى: تاريخ البيمارستانات في الإسلام ص201.
[15] ابن أبي أصيبعة: عيون الأنباء 4/383.
[16] الفلاة: الصحراء، والمعنى: أنها أرض سهلة منخفضة وليست وعرة.
[17] المَبَاقّ: أرض يكثر فيها البَقَّ (البعوض). دوزي: تكملة المعاجم العربية 1/389.
[18] البلاذري: فتوح البلدان ص271 (ط دار الهلال).