يقع هذا الكتاب في دائرة الفلسفة، فهو محاولة لإحياء دور الفلسفة لتقوم بوظيفتها في مواجهة الآيديولوجيات والعقائد الخلاصية (كالدين والماركسية والرأسمالية) من ناحية ، ومحاولة من ناحية أخرى للانتقال بالفكر من العقل الآداتي ( التكنولوجيا) الى العقل النقدي المسكون بالشك المعرفي ، ولن يتم انجاز هذه الوظيفة للفلسفة الا بالعودة لسؤالين جوهريين من ناحية وهما: كيف نفكر؟ وكيف نعيش ؟ ومترابطين من ناحية أخرى فكما نفكر نكون.
فمن زاوية سؤال كيف نعيش ؟ وكيف يحسن الانسان القدرة على الحياة البسيطة ؟ تجيب هذه الدراسة ان هذه هي المهمة المركزية للفلسفة، ويتم انجاز هذه المهمة من خلال ثلاثة خطوط متوازية أراها في هذه الدراسة وهي: القدرة على التفكير والتخلص من الأوهام ، وتحسين جودة الحياة في المستوى الفردي ، وتحسين القدرة على التعايش على المستوى الجمعي وبالتالي اضعاف اللجوء للعنف.
أما سؤال كيف نفكر؟ فمع انهيار الآيديولوجيات الخلاصية الكبرى- كما ترى الدراسة- اصبح من الضروري العودة للحياة غير الطوباوية ، ولا بد من تنزيل الخطاب الفلسفي للشارع لإصلاح قدرة الناس على الحياة من خلال انهاء سيطرة الانفعال او الخوف او الوهم او الغضب..الخ ،وترى الدراسة ان الفلسفة من خلال العقل النقدي تستطيع ان تقوم بهذه الوظيفة من خلال وصايا عشر للتفكير ، وتتمثل هذه الوصايا في وعي الذات وتعلم الشك والتحرر من الخوف( من وعلى)والزهد الوجودي(التخلص من غريزة التملك) وقبول النقاش العمومي والاستعداد لقبول تفنيد ما تعتقده…الخ.
ومن ضمن وظيفة الفلسفة تحديد الموقف من الأديان، من خلال الدعوة للقيام بإصلاح ديني كجزء من اصلاح العقل وإصلاح كينونة الانسان كمقدمة ضرورية لمرحلة ” ما بعد الأديان ” ، فمثلا يرى الكاتب في هذا الاطار ان الأديان جعلت من فكرة الموت او الغضب والكراهية والغيرة كغرائز انحطاط –مثلا- مصدر شقاء للفرد ، بدلا من انتاج خطاب يدعم الانفعالات الايجابية كالفرح والطموح..الخ.
ولما كان “التفكير” أحد أعمدة هذه الدراسة ،فقد حذر الكاتب من الخلط بين التفكير و “وهم التفكير” الذي يرى انه يسود مؤسساتنا الجامعية خاصة ، وللتمييز بين الجانبين يجعل الباحث من “الشك النقدي” لمسلماتنا الوسيلة الانجع والتي هي من انتاج الفلسفة.
وارى ان هذه الدراسة تقوم على “إحياء ” لأفكار أكثر منها “ابداع ” لأفكار ، فلو نظرنا في أغلب فقرات الدراسة سيواجهنا اسم لفيلسوف كمرجع للفكرة المطروحة ، من افلاطون (ما قبل الميلاد) الى هابرماس (حاليا)، وبدت لي الأفكار في معظمها انتقائية من أدبيات هذا الفيلسوف او ذاك، (وهو ما يتضح في عرض افكار شوبنهاور او هايدغر..الخ)، لكني ارى أنها انتقائية متناغمة مع الفكرة التي تدور الدراسة حولها وهي كيف نفكر لنعيش حياة بسيطة، وهو ما جعل الدراسة تبدو ” لباسا جديدا ” لكنه مصنوع من قماش قديم.
ويمكنني القول وباطمئنان كبير ان هذه الدراسة هي اعادة صياغة في معظمها للكتاب الذي وضعه الفيلسوف الفرنسي المعاصر ” لوك فيري”(Luc ferry) وعنوانه:
A Brief History of Thought: A Philosophical Guide to Living-Harper perennial.2011
، واذا نظرنا لأدبيات لوك فيري ، فإن مساهمة الباحث تكاد ان تكون محدودة، فكل ما ورد عن الحب والشك والانسان الاله والخلاص والامل …الخ وارد في أدبيات هذا الفيلسوف الفرنسي وبنفس المضمون.
تشتمل هذه الدراسة على 171 صفحة من القطع الصغير، توزعت موضوعاتها على 23 عنوانا(منها مقدمة وملحق)،يعيب الكاتب في مقدمته(على سبيل التقديم كما اسماه) على ثقافة النصوص تعطيلها لتنمية القدرة على التفكير من خلال اغفال تدريس الفلسفة القائمة على التأمل والحكمة والتفلسف، وتحت عنوان(الفلسفة والحضارة) يشير لوظيفة الفلسفة في عصر “ما بعد الأديان”،لان الأديان لم تعد تلبي الاحتياجات الروحية بالنحو الذي ورثناه، ف” لو لم تكن الفلسفة كيف سنفكر”(تحت عنوان:الفلسفة والحضارة) وكيف ستكون علاقتنا بالدين والجمال والخيال..الخ، وتاريخ الفلسفة هو تاريخ العقل والمفاهيم الكبرى، وأول اعداء الفلسفة هم دعاة الخصوصية، وستحل الفلسفة محل الآيديولوجيات الخلاصية(الدينية والثورية)،فالخطاب الديني هو خطاب ” الاهواء الحزينة” (البكاء خوفا من الله) أو غرائز الانحطاط(تاثيم النفس) او تعزيز قوى الموت(كراهية الدنيا) بينما التصوف الفلسفي يعلي مشاعر الحب والاحترام، وهي دعوة لتغيير علاقة الانسان بالله من علاقة خوف الى علاقة محبة. وتحت عنوان الفلسفة كاسلوب حياة، يتساءل ما هي الصلة بين تعلم العيش وانتاج المفاهيم(كاحد مهام الفلسفة)؟ وسؤال آخر هو كيف لم يستطع الفلاسفة في اغلبهم العيش الجيد، بينما عاش جيدا غيرهم دون فلسفة( مثل بوذا)،ويؤكد الكاتب ان التفكير هو اداة تحرير الانسان من الانفعالات السلبية،ويشير تحت عنوان “الوظيفة العلاجية للفلسفة ” الى عدد من الفلاسفة الذين تناولوا هذه المسألة (مثل بوثيوس)، ويؤكد على ان عالمنا الداخلي هو ما نستطيع السيطرة عليه خلافا لعالمنا الخارجي، وهو ما يعني ان التركيز يجب ان يكون على العالم الداخلي لكن البعض يتنازل عنه بسبب الخوف او الجهل.
ويتساءل في الجزء الموسوم ” لماذا نشعر بالملل “؟ فيرى ان التخلص من ذلك يتم من خلال التغيير، فالمفاجأة وزيادة المعرفة وصناعة الجديد تحرر من الملل، وتحت عنوان ” التفكير بالجسد” يناقش تأثير الجسد على التفكير لاسيما ان المناخ والغذاء والرياضة …الخ تؤثر على التفكير، وعليه فالتفكير هو ثمرة ما تواجهه الاجساد في الحياة،، ثم يتوقف عند موضوع الامل الذي يصفه تحت عنوان “قد لا نحتاج الى الأمل” بأنه ضمن الاهواء الحزينة، ففقدان الأمل يحررنا من جحيم الانتظار مما يجعل اليأس شرط أساسي للوعي، وماذا عن التعامل مع المرض(عنوان )،يجيب بالشك في العلاقة بين التفكير والمرض الجسدي(اغلب الفلاسفة معلولون)، ولماذا يفشل الحب(عنوان) فيردد الكاتب مع محمود درويش الحب ” كذبتنا الصادقة” فهو خداع للنفس ، وخوفنا من هذا الخداع هو ما يخلق الحزن، ثم يربط بين العنوانين السابقين (فشل الحب وفقدان الأمل) بان التحرر من الامل فرصة للتحرر من خيبة الامل وان هناك مؤشرات على تخليص الحب من سلطة الطبيعة ( مثل منع الحمل والزواج المثلي)..الخ.
وفي دعوته للرضا بالقدر واعتباره مفهوما فلسفيا (عنوان) يرى ان القبول بالقدر يخفف من وطأته.
اما الخلاص الدنيوي من خلال الفلسفة (عنوان) فيرى ان الفكر الخلاصي يقوم على الوهم ، والحل يكمن في الفلسفة التي توصلني للوعي بالذات فلا ابحث عن السعادة بل يكفيني رجاءها ، وأن اركز على الحاضر (لا الماضي ولا المستقبل) واتجنب اليقين لتكون الحياة محتملة وليصبح الواقع مفتوحا امام الفرد ، ثم يدعو للتأمل لكي نمنح الحياة معناها العظيم.ويرى ان الحكيم هو من يحكم نفسه (عنوان) مستعرضا مشكلة ” خداع الذات” (عنوان) الذي يتم من خلال الاستمتاع باطراء الآخرين بينما المتعة الحقيقة هي من الانجاز الذاتي، ويرى ” الشيخوخة كفرصة للحياة” (عنوان) فتزايد معدلات طول العمر ستجعل اغلب السكان شيوخا، ومع هذا العمر يتحرر الانسان من كثير من الرغبات مما يوفر للحياة ظروفا أقل شقاء، وتحت عنوان” الموت والاسلوب” ينادي بتعلم كيف نموت، فالتغير يعني موت لمرحلة وبدء مرحلة جديدة مما يستدعي تغيير فكرتنا حول الموت للتخلص من رهبته لان الخائف من الموت يفقد القدرة على الحركة.
وعليه ينتقل بنا الكاتب الى وصاياه العشر للفلسفة (عنوان) (اشرت لها اعلاه) مطالبا بقبول العلمانية“القبول بالنقاش العمومي والتخلي عن الحجج المتعالية، وتبرز رهانات الفلسفة (عنوان) في فن التفكير وفن العيش ليتطور الانسان وليكون شبه “إله” وهي آخر اليوتوبيات كما يقول تحت عنوان (ما التفكير) وعنوان (مصائر النوع البشري) ،أما في ملحقه فيدعو الخطاب الديني للتحرر من جمود مفاهيمه،ومساءلة قيمه من خلال العقل الذي يتطور فتتطور معه الابعاد الاخلاقية، وعليه على هذا الخطاب ان يعيد صياغة نفسه
تُشيّدُ هذه الدراسة جسرا مبنيا بلبنات العقل النقدي” ومفهوم “Paradigm Shift” الذي صاغه ” Thomas Kuhn” لتوصله الى ما تعتبره الدراسة “العلاج الفلسفي” لمشكلات الحياة، وهو ما يتضمنه عنوان الدراسة” التداوي بالفلسفة”. فالكاتب من ناحية يفكك بنية الثقافة السائدة(بخاصة في مجتمعاتنا) من زاوية معطياتها ومفاهيمها المتداولة في الحياة الراهنة بخاصة ( الامل والحب والخوف والتملك والغيرة والتدين والجنس والتغيير…الخ) ويقترح من ناحية ثانية بدائل لتلك المفاهيم تشكل قاعدة لبناء ثقافة جديدة تتجاوز ما هو متداول، وتقوم على قواعد مختلفة مثل (فقدان الامل بدلا من الامل، اعتبار الشيخوخة فرصة للحياة وليس نهايتها، الدعوة للاستعداد لما بعد الأديان، الإنسان شبه الإله، التركيز على الحاضر لا على المستقبل والماضي…الخ).
ما أراه في هذه الدراسة هي أنها تنزع الرهبة عن صورة الفلسفة في الذهن الجمعي، فتجعل منها مادة للحياة اليومية، لكني ارى ايضا ان الباحث بتوزيعه لموضوعه على 23 عنوانا جعل الفكرة المركزية كالشمس في الشتاء تحجبها الغيوم أحيانا وتطل احيانا بقليل من الدفء لكنها تطل احيانا اخرى متوهجة.
من ناحية أخرى ارى ان وصايا الكاتب العشر (صفحة 115- 127) تجعله مؤسسا ل ” يوتوبيا خلاصية جديدة ” مع أنه كان قد نبهنا لانتهاء اليويتوبيات الخلاصية، فهو يرى ان قدر البشرية هو ” قدر بروميثيوسي” في الحساب الاخير (صفحة 153)، أي ان يحتل الانسان مكان الآلهة في عالم ما بعد الأديان، فالكاتب في الفصل الموسوم : ” مصائر النوع البشري” (صفحة 151-154) يبدو مطمئنا لهذه النتيجة بل ويقدم مؤشرات على اتجاهات التطور العلمي في هذا المجال..لكن كاتبنا لم يمارس المنهج الذي يدعو له بشكل متكرر في هذا الكتاب وهو ” الشك ” الديكارتي، فهو يرى التطور تطورا خطيا (Linear) (وقد يكون)، لكن التحوط من هذا اليقين هو الاقرب للمنهج الذي يدعو له ولم يمارسه هنا، فالحكمة التي تركها لنا مولتكه (قائد جيوش بيسمارك ) تقول كنت اظن ان العدو سيأتي من احدى الجهات الاربع لكنه كثيرا ما أتى من الجهة الخامسة (أي التي لم تخطر له على بال) وهنا يبرز دور الشك.
وبدا لي بعض التناقض في موقف الباحث من التعامل فكريا مع الزمن، ففي صفحة 82 إلى صفحة 83 يقول “لا استطيع العيش في المستقبل وأنا لا أعيش الا في الحاضر والشقاء مرتبط بالماضي والمستقبل..لكنه صفحة 86 الفقرة الاولى يقول”لكي احافظ على توازني علي ان أنظر الى أبعد نقطة ممكنة في الافق الذي امامي ( وكأنه يتحدث عن ضرورة التطلع للمستقبل)، فكيف يرى في الجزء الاول الشقاء مرتبط بالمستقبل وفي الفقرة الثانية ينادي للنظر في أبعد نقطة في الافق.