يبدو الإنسان المعاصر أكثر رفاهية مقارنة بغيره من البشر الذين سبقوه في الأزمان الماضية، لكنه، يقينا، ليس أكثر سعادة، فالقلق، والتوتر، والاكتئاب، وفقدان الطمأنينة، متفشي بصورة غير مسبوقة، وتشير إحصاءات منظمة الصحة العالمية أن هناك أكثر من مليار شخص يعانون من الإضطرابات النفسية.
والواقع أن أزمة هذا الإنسان في داخله وأعماقه، والصراع أصبح مع الذات ونزعاتها وأهوائها، في العام الماضي أُنفق على التسلح أكثر (1981) مليار دولار، كما أُنفق على الرياضة مئات الميارات، غير أن ما ينفقه على الروح وتزكية النفس ضيئل للغاية، وقد لا يكون مرئيا في الإحصاءات العالمية، رغم أن البشرية تعاني من تفشي أمراض نفسية مخيفة، مثل: تغلغل النزعة الفردانية، والإستهلاكية، والانغماس المخيف في الشهوات، التي أصبحت لها اقتصادياتها الضخمة في الأنشطة الإباحية.
والحقيقة أن السلاح المدمر في اليد القوية، والنفس المضطربة خطير للغاية، فهو مؤذن بالخراب وسفك الدماء، فنفس الإنسان المعاصر ساحة صراع كبرى، يغذيها الفراغ الروحي، وتراجع المُثُل والأيديولوجيات الكبرى، وغياب الفلسفة، بما تطرحه من أسئلة وجودية، عن كثير من أنشطة الحياة ، ولعل هذا ما حدا بالبعض ليتحدث عن “الإسعافات الروحية والنفسية” لهذا الإنسان الذي يواجه نوعا من “التعرية النفسية” و”التجريف الروحي” غير المسبوق، فالمادية بما تفرضه من تغييب للروح، فرضت ثقافتها، فصار ينظر الإنسان إلى الكون والطبيعة من منظور المتعة والاستهلاك، وليس بعين البصيرة المتدبرة، الباحثة عن المعنى والغاية، كما أن التكيف مع المادية له آثاره وضريبته، والأجنحة المتكسرة لا تحلق بعيدا في السماء.
التوحيد والتزكية
في دراسته عن العلاقة بين الدين والصحة العقلية، يشير البروفيسور “سيمون دين” Simon Dein أن حالة الانفصال بين الدين والطب النفسي بدأت مع القرن التاسع عشر، وكانت لها انعكاساتها على الإنسان، ففي السابق كانت المؤسسة الدينية هي المسئولة عن رعاية المرضى العقليين والنفسيين، لكن مع الحداثة، رُفض الدين في مجال الرعاية النفسية، رغم أن الدراسات الحديثة تثبت وجود ارتباط كبير بين الصحة النفسية وحالة التدين التي يحياها الإنسان، يقول “دين”: “أن الأشخاص الذين يعانون من اضطرابات نفسية يلجئون إلى الدين للتعامل مع محنتهم”، وهو ما يعني أن الإنسان يحتاج إلى إسعاف عاجل لروحه ونفسه يكون الدين عاملا حاسما فيها.
تحدث الأديب “ت.إس.إليوت” عن نموذج منتشر بين البشر، وهم الأشخاص “المجوفين“، وهؤلاء يمتلكون هيكلا ضخما، وداخلا فارغا، أو كما وصفهم البعض بــ”كتلة من القش بلا إحساس”، فهم يتصفون بالقسوة والتفاهة والأفق شديد الضيق، لذا كانت تزكية النفس أمرا غاية في الأهمية، وهي تزكية لا تتأتى إلا في رحاب الدين، ويقول “ابن القيم” في كتابه “مدارج السالكين”:”إن تزكية النفوس مُسلَّم إلى الرسل، وإنما بعثهم الله لهذه التزكية وولاّهم إياها، وجعلها على أيديهم دعوة وتعليماً وبياناً وإرشاداً، فهم المبعوثون لعلاج نفوس الأمم، وتزكية النفوس أصعب من علاج الأبدان وأشد، فمن زكى نفسه بالرياضة والمجاهدة والخلوة، التي لم يجيء بها الرسل؛ فهو كالمريض الذي يعالج نفسه برأيه، وأين يقع رأيه من معرفة الطبيب؟ فالرسل أطباء القلوب، فلا سبيل إلى تزكيتها وصلاحها إلا من طريقهم، وعلى أيديهم، وبمحض الانقياد والتسليم لهم”.
والتزكية في اللغة لها معنيان، الأول التطهير، والثاني التنمية والزيادة، والنفس تحتاج إلى أن تتطهر من أمراضها وعلاتها، وكذلك أن تُنمى فضائلها وخيرها، فالتخلية والتحلية عمليتان يجب أن تتما في آن واحد، يقول “ابن تيمية“: “القلب يحتاج أن يتربى، فينمو ويزيد حتى يكمل ويصلح، كما يحتاج البدن أن يُربَّى بالأغذية المُصلحة له، ولا بدّ مع ذلك من منع ما يضرّه فلا ينمو البدن إلَّا بإعطائه ما ينفعه ومنع ما يضره، كذلك القلب لا يزكو فينمو ويتم صلاحه إلا بحصول ما ينفعه ودفع ما يضره، وكذلك الزرع لا يزكو إلا بهذا”.
والإنسان المعاصر أو “إنسان الحداثة” الذي تحدث عنه المفكر الشهير “زيجمونت باومان” في كتابه “الحياة السائلة” أصبح هشا من داخله، يكره فكرة التضحية ويشكك فيها، يقول “باومان” أصبح إنسان الحداثة يحارب التضحية بالملذات الحاضرة في سبيل الغايات البعيدة، ويحارب فكرة القبول بالمعاناة المستمرة في سبيل نيل الخلاص في الحياة الأخروية، كما أنه يشككك في قيمة التضحية بالملذات الفردية باسم مصلحة الجماعة أو في سبيل الغاية”، لذا أدرك بعض المفكرين الغربيين الذين تنفسوا برئيتين أحدهما في الإسلام والأخرى في الغرب، أهمية الروح والتزكية، مثل المفكر الفرنسي المسلم ” “إيرك جوفيروا” أهمية التزكية لعلاج أزمات الإنسان المعاصر، وأطلق مقولته المشهور: “الإسلام سيكون روحانياً أو لن يكون”، فالمسئولية الكبرى التي تقع على عاتق الإسلام، في اللحظة الراهنة، هي النفاذ إلى أعماق ذلك الإنسان وإنقاذه من نفسه، وتنحية هشاشة روحه التي أوجدتها المادية، وفك قيود الروح لتتطهر وتنمو.
وأول مداخل تزكية النفس المعاصرة، هي عقيدة التوحيد، والتي تجعل الروح تطوف حول مركز واحد، بلا تشتت ولا زيغ، فالشرك والكفر عقبة كئود أمام التزكية طوال تاريخ الإنسان، ويعلل ذلك الشيخ محمد عبده في تفسيره “المنار”، بقوله:” أما الحكمة في عدم مغفرة الشرك، فهي أن الدين إنما شُرع لتزكية نفوس الناس وتطهير أرواحهم وترقية عقولهم، والشرك هو منتهى ما تهبط إليه عقول البشر وأفكارهم ونفوسهم، ومنه تتولد جميع الرذائل والخسائس التي تفسد البشر في أفرادهم وجمعياتهم”، ويرى الشيخ محمد عبده أن تزكية الأنفس لا تتم إلا بتزكية العقل، ولا تتم تزكية العقل إلا بالتوحيد الخالص.
التزكية والفعالية
شغلت قضية التزكية الفيلسوف “طه عبد الرحمن” باعتبارها أحد المشكلات الكبرى للإنسان المعاصر، الناجمة عن الحداثة، فرأى أنها مبدأ تتحدد به فاعلية الإنسان في الوجود الذاتي ومع الغير، فهي سبيل لعروج الروح، لأنها تجعل الإنسان يجاهد نفسه لتحقيق القيم الأخلاقية والمعاني الروحية المُنزلة ابتغاء إرضاء الخالق سبحانه وتعالى، والراغب في تزكية نفسه لا يكف عن المجاهدة من أجل الارتقاء واستكمال الفضائل، لكن “عبد الرحمن” يلمح إلى أن على الإنسان المعاصر أن يبالغ في تزكية نفسه على قدر ما أنجزه في التنمية المادية، ليقع التوازن والاعتدال، بين المادة والروح.
ويشير “عبد الرحمن”-أيضا- أن التزكية تنصرف إلى استنفار الممكنات الأخلاقية والروحية في الإنسان سعيا للإرتقاء بإنسانيته التي تميزه عن غيره من المخلوقات، فواجب الإنسان في العالم الائتماني ليس أن يطلب التقدّم بنوعيه؛ المادي والروحي، بل أن يجعل التقدّم المادي تابعًا للتقدم الروحي، وإلّا فلا تقدّم في إنسانية الإنسان بغير التقدّم الروحي، ويقرر “عبد الرحمن” أن التزكية تقوم على فكرة التدرج، فهي ليست طفرة يشهدها الإنسان، ولكنها نوع من المجاهدة، فهي عملية طوعية، فلا إكراه في التزكية، وهو ما يجعل إرادة الإنسان وقوته النفسية حاضرة؛ بل وناجزة في القيام بالعملية التزكوية.
ولهذا كانت العبادة أمرا مهما في التزكية، إذ أنها تنهض بالعبء التزكوي القائم على التدرج والاختيار، ومن تلك العبادات الصيام، الذي يمنع النفس من المباحات من الطعام والشراب والنكاح في النهار، مما يساهم في قوته النفسية والروحية، بانتصاره على كل ما يغل إرادته، فيسمو بهذا الفعل فوق كل الأشياء المادية، ويخلق في نفسه تطلعا إلى القيم الروحية، يقول الشيخ الغزالي في كتابه “ركايز الإيمان بين العقل والقلب”: “وشارات التدين واجبة الرعاية٬ وشرائع الصلاة والصيام وما إليها لا يمكن التهاون٬ ولا التنازل عنها، بيد أن بعض الناس يسىء إلى الدين عندما يهمل تهذيب طباعه وتقويم عوجه٬ ثم يحرص على الاستمساك بشعائره٬ كما يمسك الملوث قطع الصابون بيده٬ دون أن يذهب بها درئا، والأديان دائما تصاب من سوء الفهم لها٬ ومن سوء العمل بها”، فالشعائر التعبدية يجب أن تتجاوز فكرة التأدية إلى التخلق بمقتضياتها، فليست الشعائر مقصودة لذاتها، ولكنها مدخل لتحقيق التقوى وغرسها في النفس الإنسانية، فكل علم لا يتحول إلى سلوك لصاحبه هو نوع من الخداع.
والحقيقة أن وضع الجنة كهدف نهائي للإنسان، لن يحقق تزكية الأنفس، مالم يتوج ذلك بجهد واع لتحقيق تلك الغاية، لذا كان القرآن الكريم لا يفصل الإيمان عن العمل الصالح.
والتزكية في الحياة المعاصرة ضرورة، إذ أن السرعة والتقدم المادي المذهل، وازدياد النزعات الفردانية، يفرض على الإنسانية أن تَسمع صوت روحها المكبوتة، وأن تمدها بمسببات القوة التي تحقق لها توازنا مع هذا التقدم المتسارع.