يعتبر شاعر الشرق محمد إقبال من أعلام الشعر الإسلامي في العصر الحديث. وقد تعدد في أبحاره الشعرية ،ولد في مدينة “سيالكوت” الواقعة في ولاية بنجاب سنة 1877م وهو سليل بيت معروف من أوسط بيوتات البراهمة في كشمير، أسلم جدّه الأعلى قبل مئتي سنة، وعرف ذلك البيت منذ ذلك بالصلاح ونشأ إقبال في الربع الأخير من القرن التاسع عشر وكانت الهند آنذاك مستعمرة من مستعمرات الإمبراطورية البريطانية التي لم تكن تغرب عليها الشمس. (1)
إقبال ليس شاعرا عظيما فقط بل هو مفكر وفيلسوف عظيم. هو صاحب مدرسة شعرية فلسفية مرشدة تعتقد بأنّ الشعر وارث البنوة، وأنه ليس من زمرة الشعراء الذين ينتجون كل كلأ، ويهيمون في كل واد، ويغنون على غصن، وينظمون في كل موضوع، سواء أوافق ذلك عقيدتهم أم لا، ويمدحون كل شخص، ويظلون إلى آخر حياتهم لا يعوفون أنفسهم ولا يعلمون ورسالتهم(2).
بل هو من أولئك النخبة النادرة من الشعراء الملهمين العظام من أمثال مجد الدين السنائي، وجلال الدين الرومي الذين اتخذوا الشعر وسيلة للتعبير عن معان يطرقها أصحاب المعرفة من الحكماء والفلاسفة ـ و كرس إقبال نفسه لشرح التعاليم القرآنية والمبادئ الإسلامية وايقاظ المسلمين من سباتهم العميق.
صلة إقبال بالقرآن الكريم
فالقرآن هو الكتاب الذي أكثر إقبال قراءته في حياته، وتلاه أكثر بكثير من الكتب الأخرى، وكل عمل يكرره الإنسان يترسخ في ذهنه، ويسيطر على فكره كل وقت، ويؤثر في عقليته، ولذلك عندما بدأ إقبال نظم الشعر والتعبير عن أفكاره ، صار يتخذ من قصص القرآن ومعانيه مدادا، ويكثر من الإشارة إلى القرآن، ويزين أبياته ما شاء الله له أن يزين بآيات القرآن، وكان يعتز باقتباسه منه وأخذه عنه، واستغنائه بنظم ما تضمنه من معان عن نظم شعر يتقلب في القالب المعهود من فنون الشعر، ولا نراه مبالغا حين يدعي أنه لا يعرب في شعره عن شيئ سوى القرآن، إنه يقول :
كرد دلم آئينه بي جوهر است
ور بحر فم غير قرآن مضمر است
روز محشر خوار ورسوا كن مرا
بي نصيب از بوسه باكن مرا (3)
يعني إن كان قلبي مرآة غير مصقولة وإن كان مقالي يتضمن غير القرآن فلك أن تؤاخذني- سيدي يا رسول الله يوم القيامة واحرمني من سعادة تقبيل قدميك المباركتين.
وكيف كان إقبال مرتبطا بالقرآن يتجلى لنا من هذه العبارة “وذات يوم سأل عنه أحد ” يا إقبال! قد طالعت كتبا مختلفة تتناول الدين والاقتصاد والسياسة والتاريخ والفلسفة وغيرها من العلوم، فإي كتاب وجدته أرفعها وأسماها مكانة” وكان إقبال آنذاك جالسا على الكرسي فقام من مكانه وذهب إلى داخل الحجرة، وخرج حاملا في يديه كتابا، فوضع ذلك الكتاب في يد السائل وقال له “ذلك الكتاب هو القرآن الكريم“(4)
وكان شاعر الشرق إقبال رحمه الله يقرأ القرآن بصوت مرتفع منذ صغره، وكان أثره باديا على وجهه، وفي شيخوخته حزن جدا على ضعف صوته، لأنه عاق دون تلاوة القرآن الكريم بصوت عال، وفي آخر حياته كانت الكأس قد طفحت وفاضت، فكلما قرأ أحد القرآن أمامه بصوت جميل رق قلبه وفاضت عينه واهتزت مشاعره، وانهمرت الدموع على خديه رقة وتأثراً(غلام مصطفى خان، إقبال اور قرآن، شيخ غلام علي ايند سنز، لاهور 1990م ص 167) .
وكان شديد الاعتداد بكلام الله تعالى والاهتمام به، ويلقي ضوءا على ذلك ما رواه هو نفسه قائلا : “مرة دعاني الدكتور لوكس- عميد كلية ايف سي بلاهور(آنذاك) إلى حفلة كليته السنوية، التي تبعتها حفلة شاي، وعندما جلسنا لتناول الشاي أتاني الدكتور لوكس وقال لي : أريد أن أتحدث إليك عن أمر مهم، فلا تغادرنا بعد تناول الشاي مباشرة.
وعندما انتهينا من الشاي أتاني الدكتور لوكس، وذهب بي إلى ركن الغرفة وسألني أخبرني يا أيها الدكتور: هل المفاهيم القرآنية نزلت على رسولك محمد ﷺ فقط، وبناء على أنه لم يكن يعرف من اللغات سوى اللغة العربية كسا تلك المفاهيم ثياب اللغة العربية، أم نزل القرآن عليه في حروفه وكلماته كما هي؟ فقلت له: لا بل نزل القرآن عليه مع كلماته. فقال الدكتور لوكس متحيرا: يا إقبال من الغريب أن رجلا مثقفا مثلك يعتقد ويتيقن أن القرآن أنزل على الرسول مع كلماته!
فقلت له ” نعم أتيقن ذلك أيها الدكتور! قد استنتجت من الاستلهام الشعري أنه لا يأتيني إلا بأكمله، مفاهيم وكلمات معاً، فلماذا لا ينزل القرآن مع كلماته على النبي عليه الصلاة والسلام”(5) هذا النموزج يدل على اعتناء اقبال بالقرآن وايمانه به، واعتباره فصل الخطاب الذي يجب العودة إليه في كل أمر من أمور الدنيا أو الدين، وفي رأيه لا يستطيع أحد أن يكون مسلما بدون استمساكه بعروة القرآن الوثقى التي لا انفصام لها. وفي كلماته:
كر تو مي خواهي مسلمان زيستن
نيست ممكن جز به قرآن زيستن(6)
يعني “إذا أرادت أن تعيش عيش مسلم فلا يمكنك ذلك إلا باعتصامك بحبل القرآن
نلاحظ في شعر اقبال من تأثيرات القرآن الكريم الحديث الشريف ومن تأثيرات اللغة العربية وآدابها الإسلامية تأثيرا واسعا عميقا يظهر في أخذه من مئات الآيات والأحاديث والكلمات والمصطلحات والمقتبسات والمفاهيم العربية المنظومة في دواوينه الشعرية، ثم لا يخفى على أحد أن اللغتين الأردية و الفارسية اللتين نظم إقبال بهما تكتبان بالحروف العربية وهما مليئتان بالكلمات والمفردات و المصطلحات القرآنية.
ولا يستطيع أحد أن يتقنهما بدون معرفة اللغة العربية والإتقان فيها. فكل ما قدم إقبال من دواوين شعره بالأردية والفارسية يرجع أساساً إلى إتقانه اللغة العربية وآدابها بعد معرفته بالقرآن والحديث. وهكذا كان عند إقبال اعتزاز شديد في الشعر العربي يقول أبوالحسن الندوي ” كان اقبال معجباً أشد الإعجاب بالشعر العربي القديم فقد أعجبه صدق الشعر العربي وواقعيته وما يشتمل عليه من معاني البطولة والفروسية. وكان يحفظ الكثير من أبيات ديوان الحماسة وغيرها. وكان يري أن العقل العربي كان أقوى على فهم الإسلام فهما صحيحا وأجدر بحمل أمانته”
التعبير القرآني في أشعار إقبال
استخدم شاعر الشرق إقبال في العديد من الأبيات الآيات القرانية وبهذا الصدد نقوم بذكر بعض النماذج من أبياته علي سبيل المثال هو يقول :
توهم ازبار فرائض سر متاب برخوري از "عنده حسن المآب" در اطاعت كوش اى غفلت شعار مى شود از جبر، پيدا اختيار (7)
واستعمل إقبال في هذه الأبيات جزءا من سورة آل عمران “زيّن للناس حب الشهوات من النساء والبنين …والله عنده حسن المآب “” في ذكر أن الطاعة هي الخطوة الأولى من مراحل تربية الذات. لذا يجب على الإنسان أن لا يستنكف من أداء الواجبات كي ينال حسن المآب.
وهكذا استخرج الشاعر في هاتين بيتين جزء من سورة المائدة الآية 69 {لا تخف إن الله معنا}.
- قوّت إيمان حيات افزايدت درد “لا تخف عليهم” بايدت
- چون كليمى سوى فرعونى رود قلب او از “لا تخف” محكم شود(8)
- وأيضا يفسر سورة الإخلاص ويرشد الناس إلى التوحيد في هذا البيت التالي
- گر نسب را جزو ملت كرده اى رخنه در كار اخوّت كرده اى
- هر كه پا در بند اقليم وجدّ است بى خبر از “لم يلد ولم يولد” است(9)
يقول إقبال إن أداء الزكاة يفنى حب المال في نفس الإنسان ويُعرّفه على المساواة، ولا يمكن ذلك إلا إذا قوى القلب بمضمون الأية الرقم 92 من سورة آل عمران {لن تنالو البر حتى تنفقوا مما تحبون} (10) فإذا حصل ذلك يزداد المال ويزكو وتقل ألفة الإنسان بالمال والذهب وتذهب عنه الحرص والطمع، واخرج إقبال قطعة هذه من القرآن الكريم واستخدمها في بيته مثل:
حب دولت را فنا سازد زكات
هم مساوات آشنا سازد زكات
دل ز "حتى تنفقوا" محكم كند
زر فزايد، الفت زركم كند(11)
وهكذا في قصيدة آخرى هو يقول:
هيچ خير از مردكِ زركش مجو
لن تنالوا البر حتى تنفقوا
وفي القصيدة “خفتكان خاك ” (سؤال للنائمين في التراب)
ديد سي تسكين پاتا هي دل مهجور بهي
"لن تراني" كه رهي هين يا وهان كي ذور بهي؟(12)
نظم أيضاً في اللغة الفارسية:
درين وادى زمانى جاوداني
زخاكش بى صور رويد معانب
حكيمان با كليمان بر دوش
كه اين جاكس نكويد "لن تراني"
وقد نظم الشاعر هذا البيت وفي ذهنه هذه الآية المباركة “ولمّا جآء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب ارني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر الى الجبل فإن استقرّ مكانه فسوف تراني فلما تجلّى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا. فلما أفاق قال سبحنك تبت إليك وأنا أول المؤمنين”(13)
الشاعر والقيلسوف إقبال كان حريصا دائما إلى الوحدة والتماسك وعدم الإختلاف بين الأمة ونجد عند أبياته هذه الفكرة واضحة علي سبيل المثال:
ما زنعمت هاى او اخوانشديم
يك زبان ويك دل ويك جان شديم(14)
ويقتبس الشاعر مفهوم هذا الشعر من الآية “واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آيته لعلك تهتدون (آل عمران 103) ومن الآية “إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون(15)
وهكذا قال الشاعر عن الذين اشتشهدوا ضد الأستعمار لا تحزنوا لما أصابكم وأنتم الغالبون والعاقبة لكم إن كنتم مومنين بالله ورسوله متبعين بشرعه وفي الحقيقة قام بتفسير و ترجمة الآية المباركة هذه “ولا تهنوا ولا تحزنوا وانتم الأعلون ان كنتم مؤمنين” هو يقول :
خرقه ى "لا تحزنوا" اندر برش
"أنتم الأعلون" تاجي برسرش(16)
وهناك الآلاف من الأبيات الشعرية التي استخدم فيها الكلمات من القرآن الكريم . ومن سورة الحاقة أخذ هذه الكلمة في هذا البيت:
"صرصر ۓ ده با هوائ باديه
"انهم اعجاز نخل خاوية"
ومن سورة الروم “هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن اليها” استخرج “نفس واحدة” في هذا البيت ” آب ونان ماست از يك مائدة دودئ آدم “كنفس واحدة” ( كليات669)
واقتبس بعض الألفاظ من هذه الأية القرآنية “الم تر الى الذين بدلوا نعمت الله كفرا واحلوا قومهم دار البوار. جهنم يصلونها فبئس القرار ” إقبال يقول :
جنتى جستند در بئس القرار
تا احلوا قومهم دار البوار"(115 كليات )
وكذلك في الأبيات التالية مليئة بالألفاظ القرآنية
قطع كردى امر خود را در زُبر
جاده پيماىئ الى شئي نُكر(كليات123)
مى ندانى آيه أم الكتاب
امت عادل ترا آمد خطاب( كليات139)
ديدم جو جنك پردهء ناموس او دريد
دز "يسفك الدماء" خصم المبين نبود(310كليات)
مجو مطلق درين دير مكافات
كه مطلق نيست جز نور السموات (546كليات)
مه و سالت نمى ارزد بيك جو
بحرف "كم لبثتم" غوطه زن شو (كليات547)
بعل و مردوخ ويعوق ونسر وفسر
رم خن ولات ومنات وعسر وغسر(676كليات)
از شريعت "احسن التقويم" شو
وارث ايمان ابراهيم شو (827كليات)
حق أن ده ك "مسكين و أسير" است
فقير وغيرت او دير ميراست(916كليات)
قلب مومن را كتابش قوت است
حكمتش "حبل الوريد "ملت است (101كليات)
ويتجلى لنا مما سبق إن إقبال استخدم في دواوينه آية قرانية فلا نقلب صفحة أو صفحتين إلا ونراه في بيت من أبياته يرشدنا إلى مدلول قرآني أو جزء من آية قرآنية مستشهدا بما فيها ودافعا للشبهات بالنيات. كان لسانا لدين الله في دنيا العجم، يفسر القرآن بالحكمة، ويصور الإيمان بالشعر. وجعل إقبال شعره وعاء لمفاهيم قرآنية كثيرة، ولا نجد شاعرا إسلاميا آخر يباريه في هذا عبر القرون الماضية.
وخير دليل على ذلك ما قاله د. حسين مجيب المصري عن تعلق إقبال بكتاب الله الخالد: “ولا نعرف ولا نكاد، من الشعراء العربية والفارسية والتركية من جعل كتاب الله في شعره مثل تلك المنزلة التي جعلها إقبال له، أو على التجديد، لم ينط أحد به تفكيره وتعبيره في ثبات ودوام، ولا قصر عليه اهتمامه على أنه النبع الأوحد الذي يستقي منه شعره، والنبراس الذي لا يحمل سواه لهداية من ضلوا السبيل في الداجي، بعد انقطاعهم عن ركب الهدى وهم ينقلون خطاهم وراء خير من هدى”(17).