يتداولُ النّاسُ عبارة “التعذيبُ لا يَسقطُ بالتقادمِ“، ومعنـى ذلك: أنّ مـرور الـزّمان لا يُسقِط مقاضاة الـمُعذِّبِ ومعاقبتِهِ. وقد تأمّـلتُ هذا القول القانوني والشّرعـي أو القاعدة القانونية[1]، فبَانَ لِـي مَعنـى فـي الدّين عميق، وهو أنّ التقادم بثلاثة أطوار، طَوْرٌ أوّل هو طور الـخلق، وطور ثان هو طور التكليف، وطور ثالث هو طور الآخرة. وهو ما أدلل به علـى أنّ التقادم لا يُسْقِطُ التعذيب ولا التنكيل ولا الظـلم ولا الاضطهاد…
الدّليل الأوّل:
إنّ تقادم معصية إبليس لا تُسْقِط عنه العقوبة الأخرويّة واللّعنة الدّنيويّة، ومعصيته وَقعت فـي طور الخلق قبل التكليف الإنساني بمُهمّة عِمارة الدّنيا، وهذه الـمعصية هـي: عدم سـجوده، وتَوعّده بإغواء بنـي آدم وحملهم على العذاب بناءً علـى ذلك، وهذا نوعٌ من التعذيب لهم، أي تعذيبـهم بالتسبّـب فـي شقاوتـهم الدّنيويّة وعذابـهم يوم القيامة. وهو ما يُعرف فـي الشرع والقانون بالتعذيب بالتسبّب لا بالـمباشرة، بمعنـى أنّه تسبّـب فـي شقاوتـهم وتعذيبـهم. ونَستخلص من هذا التعذيب بالتسبّب، أنّ النّاس الذين يَتسبّبون فـي تعذيب غيـرهم لا يسقط تعذيبـهم بالتقادم، فهم مُؤاخذون عليه ومعاقبون به. وعلـى هؤلاء الانتباه إلـى خُطورة ما يَنتظرهم يوم القيامة وفـي الدّنيا؛ لأنّـهم كانوا سببًا للتعذيب وإن لم يُبَاشروه.
فهذا دليلٌ من العقيدة ومن الوضع الـخلقي الأوّل علـى أنّ إبليس سينالُ جزاءَه يوم القيامة لِـمَا فعله فـي إغوائـهم من عذابات الدّنيا والآخرة، رغم أنّ هذا التعذيب قد تقادم بمليارات السّنوات، وإذا كان التقادم بـهذه الـمُدد الزّمانيّة الطويلة جدّا لا يُسقِط التعذيب، فمِنْ باب أَوْلَـى أنّ التعذيب بسنوات وعقود وحتّـى قرون لا يُسقِط التعذيب أو التنكيل. (وهذا مَعدودٌ من أحكام العقيدة لا من أحكام الشّريعة).
ونَسَقُ هذا الدليل كما تَقرّر فـي عِلْم أُصول الفقه يَندرجُ تحت أَصْل الأَوْلَـى والأَحْرى، فالتقادم الأدنى فـي زمانه أَوْلـى بألا تَسقط معه العقوبـة، من التقادم الأعلـى بالأحقاب الزمانية الضخمة الطويلة… (وهذا الأصل هو من أحكام الشريعة لا من أحكام العقيدة).
وبالـحُكْميـن يَتقرّر وصلُ التعذيب الذي لا يَسقط بالتقادم بالعقيدة والشريعة. وهو نوعٌ من أنواع التأصيل الكـلّـي العالـي الذي يَجدر بيانه لـمجاوزة حالة الفتور فـي الفهم والقصور فـي الأداء التـي آل إليـها حال الاعتقاد والسلوك فـي زمن السّفاهة والتّفاهة.
الدليل الثاني:
إنّ تقادم أفعال الـمعذّبيـن القُدامـى عبـر عُصور التاريخ الـمختلفة، لم يُسْقِط عنـهم الـمؤاخذة والعقوبة، سواء فـي دُنياهم بوعيد الله لهم وحصول ما عُذّبوا به من الزلازل والـخسف.
قال الله تعالـى: ﴿فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [العنكبوت: 40].
كما لا يسقط عنـهم عذاب الآخرة بموجب ما جاء فـي النّصوص الـشّرعيّة، ومنـها قول الله تعالـى: ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْـهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ [غافر: 46]، وقوله تعالـى: ﴿فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَـرُوا فِـي الْأَرْضِ بِغَيْـرِ الْـحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْـهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْـحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْـهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِـي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْـخِزْيِ فِـي الْـحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَىٰ وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ﴾ [فصلت: 15-16].
الدليل الثالث:
إنّ تقادم أفعال الـمُعذّبِيـن فـي عصرنا الـحالـي لم تسقط الـملاحقة والـمحاسبة، وهذا التقادم يصل إلـى عقدين أو ثلاثة عقود أو أكثر، كما هو فـي حالات حيّة، ومنها محاكمة رئيس يوغسلافيا (سابقا) “سلوبودان ميلوسوفيتش” فـي سنة 2002 أمام محكمة خاصة بجرائم الـحرب فـي لاهاي للنظر فـي الـجرائم التـي ارتكبت خلال الـحرب اليوغسلافية فـي تسعينيات القرن الـماضـي. حيث وُجّهتْ إليه عشرات التـهم بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية وجرائم إبادة، واستمرت الـمحاكمة حتـى وفاته بسـجنه فـي مارس/آذار 2006. ومُحاكمة رئيس تشاد السابق حسيـن حبـري الذي حوكم بالسجن الـمؤبد بتـهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية خلال فتـرة حكمه بيـن عامي 1982 و1990 التـي قتل خلالها أربعين ألف شخص، وفق معارضيـن ومنظمات حقوقية دولية. ومحاكمة القائد الصربي “رادوفان كاراديتش” الـملقّب بـــ”سفّاح البوسنة” الذي حكم عليه فـي 2016 بالسجن لـمدة أربعين عاما[2]…
وهذه الـجزاء الدنيوي لا يمنع عنـهم عذاب الآخرة[3] الذي هو جنس من عذاب الدّنيا، بناءً علـى قاعدة “الـجزاء من جِنْس العمل”: جزاءً وِفَاقًا، وهو ما أُبيّنه فـي الدليل التالـي.
وهذا الدليل والذي قبله إنّما هو ضربٌ من دليل العمل، فالأوّل دليل بعيد وهو دليل القدامى، والثاني دليل قريب وهو دليل الـمعاصرين الذين شاهدنا محاكماتـهم الـجنائية رغم مرور السنين والعقود، وهذا الدليل كذلك دليلٌ تَجلّـى فيه وعيدُ الله بتعذيبِ الـمعذّبيـن الـمستبدين والـمجرميـن، وبَرَزَ فيه وعدُهُ بتبشيـر الـمظلوميـن الـمعذبيـن بأنّـهم منصورون ولو بعد حيـن، وهو ما يُحفّزهم علـى دفع التعذيب أو تداعياته، إذا هو حصل وأصبح واقعا لا يُرفع، ويُحفّز كذلك آخرين ليتسبّبوا في هذا الفعل العظيم فـي مقارعة الـمُعذِّبيـن والـمنافحة عن الـمُعذَّبيـن، فيحصل لهم أجر التسبّب فـي منعه بخلاف أجر التسبّب فـي حدوثه، كما هـو منهج إبليس ومن كان من ذريّته الـخَلقيّة أو ذريّته البشريّة التـي علـى منهجه السّقيم وإغوائه الذميم.
الدليل الرابع:
إنّ عذاب الآخرة جَزَاءٌ من جِنْس تعذيب الدّنيا ومن عُموم الـمعصية الدّنيويّة، كالـمعصية الـمالية بافتكاك أراضـي النّاس ظُـلمًا، وحبسهم والنيْل من أعراضهم والتنكيل بـهم في معاشهم ومعادهم، وأرضهم وبحرهم، وكذلك معاصـي ترك الصلوات والزكوات والاحتجاجات والدفوعات فـي عالم السياسات والـمدنيات والـحقوق والحريات، بما يكون تكليفًا بحـسبه.
ولذلك يُعَذَّب فـي الآخرة من كان يُعذِّب النّاس فـي الدّنيا، بل من كان يُعذِّب حيوانًا:
قال رسول الله ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ النّاسَ فـي الدُّنْيا[4]».
وقال: «دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النّارَ في هِرَّةٍ رَبَطَتْها، فَلَمْ تُطْعِمْها، ولَمْ تَدَعْها تَأْكُلُ مِن خَشاشِ الأرْضِ[5]».
ونفسُ أصلِ الأَوْلَـى والأَحْرى الذي ذكرناه فـي الأصول يَنطبِقُ علـى تعذيب الإنسان والـحيوان، فإذا كان تعذيبُ الـحيوان مآله النّار، فإنّ تعذيب الإنسان يكون مآله النّار من باب أَوْلـى وأَحْرى.
وهنالك لفتة بديعة فـي الحديث، وهـي عبارة “النّار” فـي الآخرة التـي تُشيـر إلـى النّار فـي الدّنيا، فالنّار الـجهنميّة هـي من جِنْس النّار الدنيوية فـي الإحراق الـحسّـي الفيـزيائي والإحراق الرمزي الـمعنوي، وفـي تحريق الأشجار والأفكار والقِيَم والإعمار… وكل هذا مدُلّل عليه بمفهومنا الكلّـي للوجود الكوني بأطواره الثلاثة وبدوائر أخرى جديرة بالاعتبار والاستذكار والاستدلال والإعمال والتأويل والتنـزيل….
وهو ما يَندرج تحت معنـى الـمعنـى أو مقصد الـمقصد الذي نُحقّق النظر فيـه منذ زمن غيـر قليل، ونـخرج منه أحيانا ما بدا زهوه واستوى إلـى حدّ ثمره.
والربط بيـن الآخرة والدّنيا فـي عذاب الـمعذّبيـن هو الدليل الـموالـي:
الدليل الـخامس:
وصلُ الآخرة بالأُولـى بناءً علـى وضع الـخَلْق، وهو الثلاثية الكونية التـي حُقِّق النظر فيـها واعتبارها إطارا مرجعيا كلّيا لأفعال الدّنيا، ومنـها فعلُ التعذيب والتخطيط له والتسبّب فيه والتحريض عليه… وعلـى كـلّ عاقلٍ أن يتدبّر هذا لينجو من عذاب الله وعذابات الدّنيا فـي خزي الضميـر وانفكاك النّفس وشرود البال والتيه العقلـي والارتعاش العضوي والتـرك العائلـي بموجب ما تسبّب فيه لـمن عذّبه وشارك فـي عذابه الـجسدي والنفسـي والعائلـي والـمهـنـي… يا ليت قومـي يعلمون…
ومفادُ هذا الوصل أنّ التعذيب لا يَسقُطُ إطلاقًا فـي الدّنيا ولا فـي الآخرة، لا يَسقُطُ في الدّنيا بموجب أحكام الشّريعة التـي بَيّنت أحكامه وأحواله وما يَلزم منه من التقنين والتنفيذ والتقاضـي والضغط الـمدنـي والـحقوقـي… ولا يَسقط في الآخرة بموجب إرادة الـخالق الـجزائية التـي يُجازي بـها الظالـميـن الذين عذّبوا غيـرهم ونكّـلوا بـهم، وبموجب إرادته الـخلقية التـي خُلِق فيـها الإنسان ليكون كريمًا ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِـي آدَمَ﴾ [الإسراء: 70]، ولكي لا يُعَذِّب ولا يُعَذَّب، وبذلك تتكامل إرادات الله الثلاثة، إرادة خلقية وإرادة جزائية وإرادة تشريعية تكليفية (الأمر والنهـي، أي الأمر بالكرامة وحفظ الـحقوق والنـهـي عن الإهانة ودوس الـحقوق وتغليظ تحريم التعذيب…)، وهو ما عبّـرنا عنه باجتماع العقيدة والشريعة فـي التأصيل للتقادم الذي لا يُسقط جريمة التعذيب، ضمن الأدلة السابقة، وبأدلة أخرى وإفادات دقيقة أخرى، قد نعود إليها في الـمـدارسة الـجديدة للعقيدة الـموصولة بالشريعة، أحكامًا ومقاصدًا، نظرًا وعملًا.
الـختام:
لست أدري لـماذا لا يُجْمَعُ بيـن العقيدة والشّريعة فـي منع التعذيب ودرء عقوباته فـي الدّنيا والآخرة؟ ولـماذا لا يَحرص الـمُسلم علـى نجاته من عذاب جهنّم من هذه الـمعصية التعذيبية، كما يتحرّى من معصية ترك صلاته وصوم شهره. إنّ هذا التفريق انفصامٌ نَكِدٌ وفَهمٌ مريض وانحراف جلل مؤذنٌ بخسارة كبـرى قد لا يَعبأ بـها من عَذَّبَ غيـره بالـمباشرة أو التسبّـب أو باللامبالاة فـي البيان والتوعية وفعل الـمُمكن بحسب الوسع وبموجب الصفة وذمّتـها الشّرعيّة والأخلاقيّة والقانونيّة والوجوديّة. فاعْتَبِـرُوا يا أهل الله وعباده، وإيّاكم ومُتابعةَ إبليس وتعذيب النّاس والسكوت عن ذلك.