خلاصة أقوال العلماء في التهنئة بالسنة الهجرية الجديدة أنها على ثلاثة اتجاهات، الأول: المنع المطلق؛ على اعتبار أنها بدعة. والثاني: الجواز المطلق؛ لأن ذلك من العادات التي لم يأت فيها نهي صريح. والثالث: الجواز إن كان ردا على من هنأك، وترك الابتداء بالتهنئة للغير، لعدم ورودها عن السلف الصالح. التهنئة بالسنة الهجرية من المسكوت عنه، فلم يرد فيه حكم بالنفي أو الإثبات، وهو خاضع لاجتهاد الفقهاء من عموم نصوص القرآن والسنة، ودلالات الألفاظ فيهما، كما أنه خاضع للإلحاق والقياس بمعناه الواسع، وكذلك للقواعد الأصولية والفقهية والقواعد العامة.
أولا التهنئة بالسنة الهجرية في النصوص الشرعية
ليست هناك نصوص صريحة ومباشرة في الكتاب والسنة تتناول حكم التهنئة بالسنة الهجرية، لكن هناك نصوص يمكن الاستفادة منها في بيان هذا الحكم، و من ذلك:
- قوله سبحانه وتعالى: {وَذَكِّرۡهُم بِأَيَّىٰمِ ٱللَّهِۚ} [إبراهيم: 5] جاء في «تفسير الرازي (3/ 506): «وَالتَّذْكِيرُ بِأَيَّامِ اللَّهِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِتَعْدِيدِ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى» وجاء أيضا في «تفسير الرازي » (19/ 65):«قال الواحدي: أيام جمع يوم، واليوم هو مقدار المدة من طلوع الشمس إلى غروبها، وكانت الأيام في الأصل أيوام فاجتمعت الياء والواو وسبقت إحداهما بالسكون، فأدغمت إحداهما في الأخرى وغلبت الياء.
- المسألة الثانية: أنه يعبر بالأيام عن الوقائع العظيمة التي وقعت فيها. يقال: فلان عالم بأيام العرب ويريد وقائعها وفي المثل من ير يوما ير له معناه من رؤي في يوم مسرورا بمصرع غيره ير في يوم آخر حزينا بمصرع نفسه وقال تعالى: {وتلك الأيام نداولها بين الناس} [آل عمران: 140] . إذا عرفت هذا، فالمعنى عظهم بالترغيب والترهيب والوعد والوعيد، فالترغيب والوعد أن يذكرهم ما أنعم الله عليهم وعلى من قبلهم ممن آمن بالرسل في سائر ما سلف من الأيام، والترهيب والوعيد: أن يذكرهم بأس الله وعذابه وانتقامه ممن كذب الرسل ممن سلف من الأمم فيما سلف من الأيام، مثل ما نزل بعاد وثمود وغيرهم من العذاب، ليرغبوا في الوعد فيصدقوا ويحذروا من الوعيد فيتركوا التكذيب. واعلم أن أيام الله في حق موسى عليه السلام منها ما كان أيام المحنة والبلاء وهي الأيام التي كانت بنو إسرائيل فيها تحت قهر فرعون ومنها ما كان أيام الراحة والنعماء مثل إنزال المن والسلوى وانفلاق البحر وتظليل الغمام.
- ثم قال تعالى: {إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور } (إبراهيم : 5) والمعنى أن في ذلك التذكير والتنبيه دلائل لمن كان صبارا شكورا، لأن الحال إما أن يكون حال محنة وبلية أو حال منحة وعطية فإن كان الأول، كان المؤمن صبارا، وإن كان الثاني كان شكورا. وهذا تنبيه على أن المؤمن يجب أن لا يخلو زمانه عن أحد هذين الأمرين فإن جرى الوقت على ما يلائم طبعه ويوافق إرادته كان مشغولا بالشكر، وإن جرى بما لا يلائم طبعه كان مشغولا بالصبر» انتهى.
- وقال الطاهر ابن عاشور في «التحرير والتنوير» (25/ 341): «وقد يطلق أيام الله في القرآن على الأيام التي حصل فيها فضله ونعمته على قوم، وهو أحد تفسيرين لقوله تعالى: {وذكرهم بأيام الله} [إبراهيم: 5]» فبان أن التذكير بالوقائع العظيمة من السنن المشروعة، وهي إما أن تكون وقائع في أيام محن زالت، ومثالها أحداث الهجرة وما كان فيه الصحابة من الاضطهاد والتعذيب، أو أيام منح؛ فيها نعم الله على عباده. فصح شرعا التذكير بالأيام التي وقعت فيها الوقائع العظيمة محنا ومنحا، وهو ما ينطبق على الهجرة النبوية. والآية بعد التأمل تصلح أن تكون نصا في واقعة الهجرة أو غيرها.
- وفي «تفسير ابن كثير (4/ 478): «{وذكرهم بأيام الله} أي: بأياديه ونعمه عليهم، في إخراجه إياهم من أسر فرعون. وقهره وظلمه وغشمه، وإنجائه إياهم من عدوهم، وفلقه لهم البحر، وتظليله إياهم بالغمام، وإنزاله عليهم المن والسلوى، إلى غير ذلك من النعم. قال ذلك مجاهد، وقتادة، وغير واحد» ومثله ما من الله تعالى على الصحابة والأمة من بعدهم من خروج المسلمين من بطش المشركين وتعذيبهم، ووقوعهم في الأسر والقتل، فهيأ لهم الهجرة إلى المدينة، واتخذوا موطنا يأمنون فيها على أنفسهم، ويقيمون فيها شرائع الله.
- وقال الطاهر ابن عاشور في «التحرير والتنوير» (2/ 172): «فقد جعل الله للمواقيت المحدودة اعتبارا يشبه اعتبار الشيء الواحد المتجدد، وإنما هذا اعتبار للتذكير بالأيام العظيمة المقدار كما قال تعالى: وذكرهم بأيام الله [إبراهيم: 5] ، فخلع الله على المواقيت التي قارنها شيء عظيم في الفضل أن جعل لتلك المواقيت فضلا مستمرا تنويها بكونها تذكرة لأمر عظيم، ولعل هذا هو الذي جعل الله لأجله سنة الهدي في الحج، لأن في مثل ذلك الوقت ابتلى الله إبراهيم بذبح ولده إسماعيل وأظهر عزم إبراهيم وطاعته ربه ومنه أخذ العلماء تعظيم اليوم الموافق ليوم ولادة النبيء ﷺ ويجيء من هذا إكرام ذرية رسول الله وأبناء الصالحين وتعظيم ولاة الأمور الشرعية القائمين مقام النبيء ﷺ في أعمالهم من الأمراء والقضاة والأئمة» ثم إن في التهنئة بالسنة الهجرية تذكير بأحداث الهجرة التي ربما تنسى، وهو مقصود التذكير، فالتذكير لا يكون إلا من نسيان، أو خشية من النسيان لاستمرار التذكر.
- جاء في «التحرير والتنوير» (13/ 189): «والتذكير: إزالة نسيان شيء. ويستعمل في تعليم مجهول كان شأنه أن يعلم. ولما ضمن التذكير معنى الإنذار والوعظ عدي بالباء، أي ذكرهم تذكير عظة بأيام الله. وبأيام الله أيام ظهور بطشه وغلبه من عصوا أمره، وتأييده المؤمنين على عدوهم، فإن ذلك كله مظهر من مظاهر عزة الله تعالى. وشاع إطلاق اسم اليوم مضافا إلى اسم شخص أو قبيلة على يوم انتصر فيه مسمى المضاف إليه على عدوه، يقال: أيام تميم، أي أيام انتصارهم، فأيام الله أيام ظهور قدرته وإهلاكه الكافرين به ونصره أولياءه والمطيعين له» والهجرة تذكير بنصر الله تعالى لرسوله والمؤمنين ونجاته وأصحابه من المشركين.
ثانيا : القياس
ولعله أيضا يضاف إلى النص القياس على أمر الله تعالى موسى – عليه السلام- أن يذكر قومه بأيام الله التي أعز فيها عباده المؤمنين، وخذل فيها الطغاة الظالمين. فدلت الآية بنصها، وكذلك بالقياس على الأحاديث التي صاحبتها على جواز التذكير – ومنه التهنئة- بالهجرة والعام الهجري.
فدل النص والقياس على جواز التهنئة بالسنة الهجرية والتذكير بـ الهجرة النبوية. بل نص الشيخ الطاهر ابن عاشور إلى حكمة تعظيم ليلة القدر، فقال:«وهذا تعليم للمسلمين أن يعظموا أيام فضلهم الديني وأيام نعم الله عليهم، وهو ممائل لما شرع الله لموسى من تفضيل بعض أيام السنين التي توافق أياما حصلت فيها نعم عظمى من الله على موسى قال تعالى: وذكرهم بأيام الله [إبراهيم: 5] فينبغي أن تعد ليلة القدر عيد نزول القرآن» «التحرير والتنوير» (30/ 462).
ثالثا: مفهوم البدعة المذمومة
أما الاستدلال على أن التهنئة بالسنة الهجرية من البدعة، فهو خلل في مفهوم البدعة، والذي عليه العلماء في أمر البدعة، أنه ما لم يقم الدليل على إيجابه أو استحبابه، فما قام الدليل على الإيجاب أو الاستحباب، فليس ببدعة، وإن لم يكن على عهد النبي ﷺ، فالاستدلال المطلق ببدعية مالم يكن على عهد النبي ﷺ خلل في مفهوم البدعة.
قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (4/ 107 – 108): (البدعة في الدين هي ما لم يشرعه الله ورسوله وهو ما لم يأمر به أمر إيجاب ولا استحباب، فأما ما أمر به أمر إيجاب أو استحباب وعلم الأمر به بالأدلة الشرعية فهو من الدين الذي شرعه الله وإن تنازع أولو الأمر في بعض ذلك وسواء كان هذا مفعولا على عهد النبي أو لم يكن فما فعل بعده بأمره من قتال المرتدين والخوارج المارقين وفارس والروم والترك وإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب وغير ذلك هو من سنته».
وقال ابن حجر الهيتمي في «الفتاوى الحديثية 281»: (البدعة هي ما لم يقم دليل شرعي على أنه واجب أو مستحب سواء فعل في عهده – ﷺ – أو لم يفعل كإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب … )» الضابط الثاني في مفهوم البدعة مصادمته لأصل الشريعة بالمخالفة، أما لم يكن مخالفا لأصل من أصول الشريعة فليس بلازم أن يكون بدعة.
قال ابن الجوزي في تلبيس إبليس، ص: 16: (البدعة عبارة عن فعل لم يكن فابتُدع، والأغلب في المبتدعات أنها تصادم الشريعة بالمخالفة، وتوجب التعاطي عليها بزيادة أو نقصان)» وأكد ابن رجب الحنبلي على المعنى ذاته في ( جامع العلوم والحكم: 266)فقال:«وأما ما كان له أصل من الشرع يدل عليه فليس ببدعة شرعا وإن كان بدعة لغة…وأما ما وقع في كلام السلف من استحسان بعض البدع فإنما ذلك في البدع اللغوية لا الشرعية)».
ولعل ابن رجب – رحمه الله- فسر إفراط بعض أهل العلم في إطلاق البدعة على كل أمر محدث، فهو بدعة من ناحية اللغة؛ لأنه مشتق من الابتداع، ولكنه ليس بدعة من جهة الدين.
وإذا اصطحبنا الحث على التذكير بأيام الله تعالى في قوله تعالى: ( وذكرهم بأيام الله)، وتعظيم العلماء من الصحابة وغيرهم للوقائع والأحداث التي لها شأن في الأمة، ومنها ما لم يقع في زمن النبي ﷺ من كتابة المصحف ولم يأمر به النبي ﷺ، وكان أبو بكر قد اعترض عليه ابتداء، وقتال مانعي الزكاة، وتضمين الصناع، والتقاط الإبل، وغيرها من الأحداث التي أقرتها الأمة في زمن الصحابة ومن بعدهم، من بناء المآذن والمحاريب في المساجد وغيرها، واتخاذ كثير من الوسائل حتى في العبادات ولم تعد بدعة مذمومة، لأن التهنئة بالسنة الهجرية ليست بدعة بالمعنى الشرعي.
رابعا: التهنئة بالسنة الهجرية والعادات
كما أن محل البدعة – في الغالب- يقع في العقائدة والعبادات، أما غالب العادات، فهي على أصل الإباحة، إلا ما جاءت فيه النصوص بإثباته أو نفيه، فالحكم هنا راجع إلى النص وليس إلى العادة، ولو كان ذلك من العادات، أما العادات المسكوت عنها، فلا يمكن اعتبارها بدعة مطلقة، إلا إذا اجتهد في حكمها؛ استدلالا بالنصوص والأدلة الشرعية.
والتهنئة بالسنة الهجرية هو من العادات الحسنة؛ لما فيها من التذكير بواقعة الهجرة النبوية، التي كانت أساسا لنشأة دولة الإسلام، وهي جزء من السيرة النبوية، والتذكير بأحداث السيرة ليس من البدعة في الدين، بل هي مما حث عليه الشرع.