ليس هناك مضمار أهم من تسابق الأمم في الريادة في العلم والتعليم، فمن ملك تلك الريادة ملك الدنيا، ومن بز فيها غيره عز عليه في كل الشؤون، ولا غرو أن تكون الفكرة أم الخبرة، وشواهد معدلات النمو الاقتصادي كثيرة، فبعض الأمم فقيرة في ثرواتها السكانية والترابية، ولكنها تفوق بمفاوز أمما أخرى كاثرة في عددها، وممتدة في أطرافها، وتنام على ثروات وخيرات لا تحسن استخدامها، فظلت في ذيل الأمم تستجدي غدائها ودوائها من غيرها. والنماذج فيما ذكرنا حاضرة كسنغافورة وكوريا وفنلندة وغيرها، فالعبرة بالإنسان الفاعل والعقل الباصر، والإرادة الجادة.
ومن الغريب أن يكون عموم الأمة الإسلامية في غير ما ذكرنا، وتصنيفات دولها مما يحزن الغيور على دينه وأمته، كيف وهذه الأمة قد افتتح كتابها المقدس بآيات القراءة (سورة العلق)، وختم بآيات الكتابة (أية توثيق الديون)، وبين الموضعين مئات الآيات الداعيات للعلم وإعمال العقل وتسريح الفكر ومد البصر، وتفعيل النظر.
ظل القرآن الكريم ولا يزال الكتاب الدافع للجد والهمة في طلب المعالي، بدء من العلم والتعليم، إذ هما مفتاحا الحضارة، وهما الدالان على آيات الله الباهرة التي تقود إلى الإيمان، ومن ثم ضمان النجاح في الدنيا والفلاح في الآخرة، كما قال تعالى: ﴿كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ﴾ (فاطر، 28).
ونقرأ في ثنايا الكتاب الكريم أن الأمر بالأخذ بقوة وجدية وانتباه ومراعاة إنما ورد أكثره في العلم والتعليم، فمن بين خمسة مواضع جاءت أربعة منها في تعلم الكتاب والعض على الوحي، ومن ذلك قوله تعالى لبني إسرائيل:
﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (البقرة، 63)
﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا﴾ (البقرة، 93).
﴿وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا﴾ (الأعراف، 145).
﴿وإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (الأعراف، 171)، وقوله تبارك وتعالى موصيا نبيه يحي بن زكريا: ﴿يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا﴾ (مريم، 17). ومن أولي العزم الذين ضربوا المثل في تحصيل العلم والجد فيه بالسفر إليه نبي الله موسى في قصته الشهيرة مع الخضر عليهما السلام، وهي السنّة التي سار عليها أهل الحديث في طلب العالي من الإسناد.
وأما مضرب المثل في الجد في العلم والتعليم فهو سيدنا رسول الله ﷺ الذي غير الحياة الثقافية للعرب من أمة أمية لا تكتب ولا تحسب إلى أمة أخرى فاعلة في الحياة العلمية، بدء من إنشائه لهيئة كتاب الوحي، وتقديمه للقراء من الصحابة، وقبول فداء الأسرى بتعليم الصحابة، والأحاديث والوقائع ثرى لا يحصيها العدد، ومن أهمها قوله عليه الصلاة والسلام:” ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما، سهل الله له به طريقا إلى الجنة. وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده. ومن بطأ به عمله، لم يسرع به نسبه” (صحيح مسلم، 2699). ومما روي عنه من طرق بعضها حسن حديث أنس بن مالك: «اطلبوا العلم ولو بالصين، فإن طلب العلم فريضة على كل مسلم» (البغدادي، الرحلة في طلب الحديث، رقم 1).
وشواهدنا من الصحابة الكرام على التشمير والجد في العلم وطلب الحديث كثيرة، ومن ذلك تناوبهم على الحضور، فكان بعضهم يروّي الآخر المشغول برزقه ما سمعه من حديث، ثم تأتي النوبة على الآخر، (البخاري، كتاب العلم، باب التناوب في العلم، رقم 89).
ومن خيرة من تمثل الجد والتشمير عبد الله بن عباس، الذي قال: ” لما توفي رسول الله – ﷺ – قلت لرجل من الأنصار: يا فلان هلم فلنسأل أصحاب النبي، فإنهم اليوم كثير. فقال: واعجبا لك يا ابن عباس، أترى الناس يحتاجون إليك وفي الناس من أصحاب النبي – ﷺ – من ترى؟، فترك ذلك، وأقبلت على المسألة، فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل فآتيه وهو قائل، فأتوسد ردائي على بابه، فتسفي الريح على وجهي التراب، فيخرج فيراني فيقول: يا ابن عم رسول الله، ما جاء بك؟ ، ألا أرسلت إلي فآتيك؟ ، فأقول: لا، أنا أحق أن آتيك، فأسأله عن الحديث. قال: فبقي الرجل حتى رآني وقد اجتمع الناس علي، فقال: كان هذا الفتى أعقل مني ” (مسند الدارمي، 597)
وإذا انتقلنا إلى جيل التابعين وتابعيهم وجدنا شعلة الجد والاجتهاد منطوية في جوانحهم، وتنقل كتب التراجم والطبقات أخبارا أقرب إلى المعاجز في التشمير في تحصيل العلم، مع الزهادة والعبادة المنقطعة النظير. فقد قيل للإمام عامر بن شراحيل الشعبي: من أين لك كل هذا العلم؟، قال: بنفي الاغتمام، والسير في البلاد، وصبر كصبر الحمار، وبكور كبكور الغراب (سير أعلام النبلاء، رقم 113، ج 4 ص 294).
ومن المتوارد المعلوم أن أوائل هذه الأمة كانوا رواد بناء الإنسان والحضارة، وكانوا في الجد وطلب المعالي نجوما في الاهتداء وصوى في الاقتداء، وسطروا صحائف غريبة بل وخرافية في الجد والتحصيل وبناء المعارف. ويكفي العودة إلى كتابين مؤرخين لهؤلاء، وهما حلية الأولياء وطبقات الأصفياء للحافظ أبي نعيم الأصبهاني، وكتاب “صفة الصفوة” لابن الجوزي، أو كتاب الخطيب البغدادي” الرحلة في طلب العلم” فضلا عن الأخبار الموثقة لمجالس الحديث، والتي كانت جامعات شعبية يجتمع فيها الآلاف لسماع سنة النبي ﷺ، حتى أنهم كانوا يباكرون إليها، ولا يبيعون مقاعدهم بجزيل المال، بل إن بعضهم يبقى محصورا حتى لا يضيع مجلسه. بل إن بعض أهل العلم والتعليم كان يستثقل أداء ضروراته التي تزاحمه في طلب العلم، فقد ذكروا بأن إمام العروضيين واللغويين الخليل بن أحمد الفراهيدي كان يقول:” أثقل الساعات علي ساعة آكل فيها.” ومما يذكر أن إمام الدعاة في عصرنا الشيخ محمد الغزالي كان يقرأ الأدب العالمي أثناء تناوله نهمته من الطعام، ويترك جد الوقت للطلب العالي من العلوم المتداولة في الأزهر الشريف.
يحسن بنا التذكير بتجارب العلم والتعليم والإرادة الخارقة في الجد والتحصيل وطلب العلوم ونحن في مفتتح عام دراسي نرجو فيها الغيث والعطاء لأبنائنا وطلابنا في مختلف المدارس والمعاهد والمراكز والجامعات.
فعلى الرغم من توافر وسائل التعليم وشيوع الكتب في الرفوف والمنصات الإلكترونية ووسائل الإعلام إلا أن شيئا من الخذر أصاب الهمم ولوى بالعزائم، مما يوجب نشر سيرة الأوائل في هذا الزمن لشحذ النفوس وتقوية القلوب لأخذ الكتاب بقوة كما هي وصية الله رب العالمين.
فمن تلك الأخبار الموثقة والدرر الفائقة ما وصف به ابن ناصر الحافظ أبا طاهر السلفي بأنه”: كأنه شعلة نار في التحصيل”. ومن عجيب ما ذكروا من جدية ابن الجوزي أنه كان يقضي الحاجات الخادمة للطلب أثناء زيارة بعضهم حتى لا يضيع وقته:” ثم أعددت أعمالاً لا تمنع من المحادثة لأوقات لقائهم؛ لئلا يضيع الزمان فارغاً، فجعلت من المستعد للقائهم قطع الكاغد، وبري الأقلام، وحزم الدفاتر، فإن هذه الأشياء لابد منها، ولا تحتاج إلى فكر وحضور قلب، فأرصدتها لأوقات زيارتهم؛ لئلا يضيع شيء من وقتي” وبهذه الجدية والمثابرة الدائمة خلف وراءه مكتبة إسلامية في مختلف الفنون نافت على الثلاثمائة كتاب.
واستقصاء الأخبار في الجد والتحصيل كثير في كتب المناقب والطبقات والتراجم والبرامج والإجازات، ومن ذلك عناية بعضهم بالكتب المؤسسة للعلوم المختلفة، فقد ذكروا بأن الإمام النووي كان له اهتمام منقطع النظير بكتاب الوسيط في المذهب للإمام الغزالي، وقد نُوزِع مَرّة في نقلٍ عن الوسيط، فقال: تنازعوني في «الوسيط» وقد طالعتُه أربع مئة مرة؟، ونقل السبكي أن المزني تلميذ الشافعي قال:” أنا انظر في كتاب الرسالة منذ خمسين سنة، ما أعلم أني نظرتُ فيه مرَّةً إلا وأنا أستفيد شيئًا لم أكن عرفته”(طبقات الشافعية، ج 2 ص 99)
وأما قراءة البخاري والعكوف عليه فمبلغ العجب، فبعضهم قرأه سبعمائة مرة، وذكروا هذا عن الإمام أبي بكر بن عطية المحاربي (518ه)، والد المفسر عبد الحق بن عطية صاحب المحرر. (عياض، كتاب الغنية، رقم 84)، الذي اعتنى به مالكية الغرب وغيرهم أيما اهتمام، ففي ترجمة عبد الله بن محمد بن أبي القاسم فَرْحون اليعمري (ت 693) أنه قال:” لازمتُ تفسيرَ ابنِ عطية حتى كدت أحفظه” (الديباج المذهب، ج 1 ص 455).
وبعضهم تخصص بالمدونة التي هي الكتاب عند المالكية، فذكر عياض عن ابن التبان أنه درسه ألف مرة (المدارك، ج 6 ص 249)، وليس هذا ببعيد فقد ذكر الحسين الورثلاني (ت1193ه) في رحلته نزهة الأنظار عن الشريف التلمساني (711ه) بأنه كان بمدينة بجاية الجزائرية لوحدها خمسمائة صبية ممن يحفظن المدونة، وأما اللاتي يحفظن ابن الحاجب (المختصر الفقهي الفرعي) فلا يعلم عددهن إلا الله”. وفي الجزائر أيضا يروي المحبي في سيرة علي بن عبد الواحد بن محمد الأنصاري السِّجِلْماسِي الجزائري (ت 1057) أنه شرح البخاري سبعة عشر مرة في الدرس، ومرّ على كتاب الكشَّاف للزمخشري ثلاثين مرة (خلاصة الأثر، ج 3 ص 173).
وفي ختام هذا التطواف الصغير في بعض السير الدالة على ارتباط التعليم في الإسلام وحضارته بالجدية والفعالية وعلو الهمة، فمن الحلول العاجلة للنهوض بمقاييس الجدية في حياة تلاميذنا وطلباتنا في هذه الأيام التي عصفت بهم الدواهي والصوارف عن بلوغ المراتب العليا في دنيا لا غالب فيها إلا مالك الفكرة والخبرة.
- الارتباط بالصلوات، وتنظيم الأوقات بها، فهي مفتاح الخير، ومعراج المعالي، وباب المدد الإلهي للتوفيق، فالمحافظ على الصلوات حري بأن يحافظ على علمه وطلبه، فهي أساس الفلاح والنجاح كله.
- · البكور، وتنظيم النوم، والوفاء بالحاجات الضرورية لاكتمال البدن وقدرته على مغالبة الصعاب.
- · مجافاة الوسائط الاجتماعية قدر الطاقة، فهي التي تسرق الأوقات وتأكل الطاقات، ونفعها قليل.
- · إنشاء مكتبة منزلية تعين على الطلب، وتربط التلميذ بمصادر التعليم، وتلك من فروض الوقت.
- · حضور الدورات والمحاضرات الحاضة على تنظيم الوقت وتطوير القدرات، وهي من الكثرة بمكان.
- · التقلل من التوافه والمغريات والصوارف، ومبارحة المجالس الفارغة والملهيات عن الذكر والفكر.
- · قراءة سير العلماء والمؤثرين من العلماء في حضارتنا أو في غير ها، فالقدوة خير مربي في هذا الزمن.
- · تنظيم المسابقات والحوافز والجوائز في معاهدنا، واعتماد وقفيات خاصة لهذا الأمر الجلل.
- · تغيير الثقافة العامة في مجالسنا، وإحياء سير قراءة الكتب فيها كما هي سنة السلف الصالحين.