ثمة افتراض شائع أن الحراك النسوي الذي شهده العالم الإسلامي منذ أواخر القرن التاسع عشر كان بعيدا عن الصفة الإسلامية، وهو الافتراض الذي تعزز بفعل عوامل أبرزها رغبة النسوية المهيمنة في نفي الطابع الإسلامي عن التحركات النسائية الأولى، وبدورنا فإننا نسعى هاهنا إلى استعراض بعض الرموز والتنظيمات النسوية التي يستشف منها أن بعض الحراك اتسم بالطابع الإسلامي وربطته بالتيار الإصلاحي وشائج الصلة، ولنشرع بالحديث عن الحراك في الدولة العثمانية التي ظهر بها تيار نسائي اسلامي كانت أبرز رموزه السيدة فاطمة جودت (1862-1936).
فاطمة جودت: نقض الرؤية الاستشراقية بشأن المرأة المسلمة
ولدت فاطمة جودت في الاستانة عام 1862، وهي ابنة الوزير الإصلاحي أحمد جودت باشا صاحب فكرة تقنين الشريعة، وقد تعلق بها أبيها لما ظهر عليها من أمارات النجابة والذكاء، وأحضر لها معلمين ومعلمات فتلقت عنهم أصول القراءة والكتابة التركية والفارسية وأضافت إليهما العربية والفرنسية في مرحلة الصبا.
جمعت فاطمة بين العلوم الشرعية والعلوم الحديثة فدرست التوحيد والكلام والمنطق والفقه إلى جوار الحساب والهندسة والموسيقى، وبفضل هذا التكوين المعرفي المتميز شرعت في الكتابة والنشر، وكان أول آثارها ترجمة رواية عن الأدب الفرنسي، ولكنها تضع اسمها عليها “صونا واحتجابا” كما تقول زينب فواز، ويبدو أن النجاح الذي أصابته الرواية شجعها على الاستمرار فراحت تكتب المقالات لجريدة (ترجمان حقيقت) وتذيلها باسمها، فكانت من أوائل النساء العثمانيات اللواتي اقتحمن مجال الكتابة، كما كانت أول امرأة تلتحق بالهلال الأحمر العثماني وتشارك في دعم الجنود العثمانيين.
وكانت لها محاورات مهمة مع بعض السائحات الغربيات لمدينة استانبول سجلتها في مجموعة مقالات عام 1892 ثم صدرت في كتاب (نساء المسلمين)، وقد حقق الكتاب انتشارا كبيرا فترجم إلى العربية والفرنسية والانجليزية، وهو من أوائل الكتب التي اتجهت إلى دحض الأفكار الاستشراقية حول المرأة حيث ركز على تناول قضايا: الرق والحجاب وتعدد الزوجات والطلاق وتعليم المرأة مبينا موقف الإسلام منها، ويهمنا في هذا الكتاب مسألتين على جانب من الأهمية:
الأولى: التزام المرجعية الإسلامية في مناقشة هذه القضايا، وتوجيه الانتقادات للمتغربات العثمانيات باعتبارهن أحد دواعي تشوه صورة المرأة المسلمة لدى الغرب، وفي هذا تقول فاطمة: “إن لدينا في الوقت الحاضر عددًا من النساء اللواتي يعرفن اللغة الفرنساوية لا لأجل اكتساب المعارف والعلم وإنما رغبة منهن أن يكن افرنجيات محضا.. فإذا رغب إليهن أحد في الحصول على المعلومات المتعلقة بأصول المعيشة الإسلامية، مما يكن نبذنه نبذ النواة، سكتن عن بيان استقامة وطهارة الدين الإسلامي”.
والثانية: كون الكاتبة من الرائدات اللواتي تناولن قضايا المرأة، وقد استبقت بكتابها كُتابًا آخرين أثارت مصنفاتهم جدلا ونعتوا بأنهم أول من أثار قضايا المرأة في العالم الإسلامي، وفيما نرجح لم تكن فاطمة نموذجا وحيدا وإنما كان هناك نسوة أُخريات في العالم العربي دافعن عن حقوق النساء والتزمن المرجعية الدينية، وعبرن عن أنفسهن من خلال إنشاء الصحف والجمعيات النسائية.
التيار النسائي الإسلامي وتنظيماته المؤسسية
شهدت مصر في حقبة ما قبل الحرب العالمية الأولى، ظهور عدد من المجلات والجمعيات النسائية التي تصنف ضمن المرجعية الإسلامية، وسنحاول هنا تقديم بيان موجز بها مع مراعاة تاريخ ظهورها
– مجلة الريحانة (1907): وهي أول دورية نسائية تتبنى النهج الإسلامي في التعاطي مع قضايا المرأة وقد أصدرتها السيدة جميلة حافظ، وتفردت (الريحانة) بمعالجة قضية المرأة ضمن قضايا الأمة؛ حيث نظر القائمون عليها لقضية المرأة باعتبارها واحدة من قضايا الأمة وليست قضية مستقلة في ذاتها، ومن ثم لم يتبلور خطابهم باتجاه المطالبة مطالب فئوية تخص النساء، ولذا يكن مستغربا أن تنافح (الريحانة) مثل غيرها من روافد تيار النهضة عن المفاهيم الإسلامية مثل الأمة والخلافة التي تعرضت لهجوم أنصار التحديث والاتجاه القومي الذين دعوا لقطع الصلات مع الدولة العثمانية، وقصر الانتماء على الوطن بحدوده الجغرافية الضيقة.
– جمعية ترقية المرأة (1908): لم تكن الريحانة التجلي الوحيد للتيار الوليد؛ ففي العام التالي اجتمع بعض النسوة في منزل فاطمة راشد- زوجة الكاتب محمد فريد وجدي– لتكوين جمعية ترقية المرأة كأول منظمة نسائية من نوعها تقام في مصر، وقامت العضوات بإصدار مجلة نسائية حملت اسم الجمعية ترأست تحريرها فاطمة راشد.
كان جل عضوات الجمعية من نساء الطبقة الوسطى، إذ تشير سجلاتها أنهن كن زوجات أفندية أو بهوات، وهذه مسألة هامة تفيد أن التيار النسائي الإسلامي تكون من أبناء الشريحة الوسطى، على حين تكونت الحركة النسوية -الحداثية- من نساء النخبة وهو ما جعلها تعاني انفصالا عن القاعدة النسائية العريضة التي كثيرا ما ادعت تمثيلها.
انطلقت (ترقية المرأة) في معالجتها لقضايا المرأة من المرجعية الإسلامية؛ فطالبت بتطبيق أحكام الشريعة فيما يتعلق بالإرث، وحق النساء في الإعالة من قبل الزوج أو المؤسسات الرسمية، وتبنت الدعوة إلى التوسع في تعليم الإناث، وذهبت إلى حد المطالبة بعدم قصر التعليم الديني على البنين، لكنها من الجانب الآخر رفضت دعاوى الاختلاط بين الجنسين، وعارضت عمل المرأة خارج البيت إلا تحت إلحاح الضرورة ووفق اشتراطات موضوعية وضوابط أخلاقية معينة.
ومن الأطروحات الجريئة التي تبنتها الجمعية اشتراطها على كاتبات المجلة التوقيع بأسمائهن على المقالات، رغم أن العرف السائد كان أن تخفي الكاتبة هويتها الحقيقية تحت أسماء مستعارة، وقد استندت الجمعية إلى الشريعة الإسلامية لدعم موقفها حيث اعتبرت أن نشر المرأة لأسمها ليس مسموحا فحسب بل هو فرض وعود للعرف المعمول به أيام النبوة حيث كانت أسماء النساء معروفة ومعلنة.
– حزب العفاف النسائي (1910): كانت جريدة (العفاف) أهم منبر للتعبير عن التيار الوليد حيث استمرت في الصدور لمدة عشرة أعوام، وقد أفلحت في جذب طائفة من أهم الكاتبات المعبرات عن هذا التيار مثل: فاطمة راشد، سارة الميهية، ملك حفني ناصف.
حاولت العفاف تقديم طرح عصري لقضايا المرأة لا يتنافى مع المبادئ الشرعية، ومن ثم تبنت الدعوة إلى تأسيس (نادي للسيدات) لتتباحث النساء خلاله شئونهن، وهي الفكرة التي تطورت فيما بعد إلى الدعوة إلى تأسيس أحزاب نسائية على غرار أحزاب الرجال، ولم تكتف الجريدة بطرح الفكرة نظريا وإنما بادرت إلى تأسيس (حزب العفاف) وعهدت للسيدة زكية الكفراوية إدارة شئون الحزب وتسلم مراسلاته لحين انتخاب رئيسة له.
وعلى الرغم من أن مصير الحزب يعد مجهولا إلا أننا نعلم أن جرأة الجريدة جعلها عرضة للانتقادات من جانب بعض الأصوات التي ارتأت فيها خرقا للتقاليد الإسلامية المتعلقة بأدوار النساء، الأمر الذي دفع رئيس تحريرها سليمان السليمي أن يؤكد على هويتها الإسلامية، وأنها تصنف نفسها باعتبارها مدافعا عن عفة المرأة في مواجهة التيار الداعي إلى السفور.
– جريدة فتاة النيل (1913): قبيل اندلاع الحرب العالمية الأولى بعام واحد نجحت سارة الميهية في إصدار جريدة (فتاة النيل)، وقد أبدى السيد رشيد رضا إعجابا بها على صفحات المنار وحث الفتيات والعائلات على الإقبال على قراءتها، ولا غرابة في ذلك فقد نافحت الجريدة عن الحجاب وانتقدت حالات السفور المتزايد في المدن الإسلامية، وتفردت بمعالجة نقدية لبعض القضايا الاجتماعية المتعلقة بالمرأة مثل الزار والثأر.
تعد سارة الميهية رئيس التحرير واحدة من أهم الكاتبات الإسلاميات اللواتي برزن خلال هذه الفترة حيث ساهمت بالكتابة في عدد من الدوريات الإسلامية كشفت من خلالها عن موهبة أدبية كبيرة، وكانت سارة قد انفردت بتخصيص باب للرسائل في فتاة النيل ضمنته خطابات من شقيقتها وصديقاتها ومعلمتها، وما يستوقفنا فيها هو رغبتها في تخطي حاجز الفصل بين العام والخاص، فمن غير المألوف حتى ذلك الوقت أن تنشر كاتبة موضوعات تنتمي للمجال الخاص -وخاصة إن كانت لا تستخدم اسما مستعارا- وهو ما يشف عن رغبتها الإفصاح عن هويتها الذاتية بكل الأدوات المتاحة.
خلاصة القول، أن الحراك النسوي الذي شهده العالم الإسلامي منذ أواخر القرن التاسع عشر كان -في جانب منه على الأقل- حراكا إسلاميا قادته بعض النساء من الطبقة الوسطى اللواتي استشعرن خطورة دعاوى نزع الحجاب والاختلاط ومحاكاة الحياة الاجتماعية الغربية، ورغم جهودهن التي بذلنها فإنها لم تلق سوى الإعراض والإقصاء من جانب النسوية المهيمنة.