أقامت كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة قطر بتاريخ 18 – 19 مايو 2014 مؤتمرها الأول في قاعة ابن خلدون بجامعة قطر بعنوان : الدراسات الإسلامية الجامعية في دول العالم الإسلامي: تحديات وآفاق.

هدف المؤتمر كما هو واضح من عنوانه ومن المحاور الأساسية التي قام عليها إلى دراسة واقع التحديات التي تحيط بالدراسات الإسلامية في جامعات دول العالم الإسلامي، من مثل ضعف مستوى من يلتحق بأعظم تخصص في الإسلام، أو ضعف خريجي هذه التخصصات الذين يتوقع منهم قيادة العالم وتربية الأجيال، ومن مثل تحديات المناهج والاعتماد الأكاديمي؛ الاعتراف بمناهجها الدراسية، وباعتمادها الأكاديمي، والتي تأخذ في الغالب معايير عالمية وقد توضع هذه المعايير ممن ليسوا من متخصصي هذه الدراسات ولا يعرفون كنهها وطبيعتها ولا قِبل لهم بحقيقتها، فمن التحديات التي قد تنتج عن هذا العشوائية باسم العلم والتقدم، أو الترقيع، أو ضربات الخبط.

كما هدف المؤتمر إلى استشراف مستقبل الدراسات الإسلامية في جامعات العالم الإسلامي، ودفع عجلتها إلى مزيد إصلاح؛ بإيجاد حلول لأغلب هذه التحديات دون التفريط بمكانة التخصص وبأهمية الإصلاح ومواكبة العصر.

خلفية تاريخية للتعليم في عهد السلف الصالح

 يجدر بالذكر أن المرحلة الأولى من مراحل تلقي العلم وتبليغه إلى الناس تمثل في دور النبي صلى الله عليه وسلم في الرسالة، وكانت حدودها الزمانية في الفترة الأولى مفتوحة، وغير مقيدة مكانيا. حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم يجوب مكة كلها، ويبلغ من التقى به. ثم توسعت الدعوة من بكة إلى ما حولها، فشمل الطائف –مجتمع عربي آخر- والحبشة – مجتمع إفريقي- ويثرب (مجتمع متعدد الأعراق والأجناس والأديان) ومن ثم إلى قدوم الوفود إلى المدينة، وإلى الأعاجم بمكاتبة ملوكها.

تأتي المرحلة الثانية من مراحل التعليم في المدينة المنورة؛ حيث قام للإسلام قائمة، وأصبح دين ودولة. وأصبح المسجد قلعة الحكم، والتعليم والقضاء والإفتاء؛ حيث كان المقر الرئيسي والقصر أو الديوان الذي يقصده الناس، فمن المسجد يعلم النبي، وإلى المسجد يبحث الناس عنه، وفيه يستقبل الوفود.

وبما أن محمدا ابن عبد الله آخر النبيين، كان لزاما على أمته المتمثلة في الجيل الأول من الإسلام؛ صحابة الرسول، والتابعين من بعد أن يواصلوا مهمة تحصيل العلم وتعليمه، لأن الإسلام مستمر بعد وفاة النبي، والتبشير والإنذار شرط المؤاخذة والمحاسبة، فلا عذاب ولا نعيم حتى يبعث رسولا؛ لئلا يكون للناس على الله حجة يوم القيامة، بأن يقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير، ولا علم لهم بكيت وكيت. فواصل الصحابة مهمة الرسول من بعد بآيات قرآنية وبأحاديث نبوية كثيرة. وكان المسجد آلية ذلك أيضا ومقره والمنطلق الأساسي كما كان من ذي قبل؛ فقضايا المجتمع ترجع إلى المسجد لإيجاد حلول وأجوبة، والمسجد هو الذي يكون ويربي ويعلم.

ومن أكبر سمات هذه المرحلة هو أن الحلقات في المسجد اتسعت وتفرعت وتعددت بعد وفاة النبي. فعرف الناس مجلس ابن عباس، وابن مسعود، وأبي بن كعب، وابن عمر.. إلى آخرين. وبهذا لم يكن هناك مرجعية واحدة لتلقي العلم كما في زمن النبي، وإن كان الجميع طلبته وتخرجوا على يديه الشريفتين.

 المرحلة الثالثة: ثم أتت مرحلة جديدة في حياة التابعين، ببدء تدوين العلم وكتابته بجانب البيان الشفوي في المسجد، وبالتوسع في نطاق العلم ودائرته. فلم يك هناك علوم الوحي فقط؛- أي علوم القرآن والسنة. لأن تبيين الصحابة والتابعين للقرآن والسنة لا يعتبر قرآنا ولا سنة، لكن يعتبر علما، ونحن متعبدون بالعمل به؛ ورغم ذلك يبقى تبيينهم للقرآن والسنة معارف الوحي، أو علوم القرآن والسنة، وليس قرآنا ولا سنة.

أجل، فمن أكبر سمات هذه المرحلة الإقبال على علوم أخرى غير علوم الوحي البحتة، فاهتم بالرياضيات، والفلسفة وباللغات وبعلم الكيمياء والفلك، وكان ذلك بداية تجاوز “نحن أمة أمية”؛ لأن هذا خبر عن واقع كان قائما وبدأ يتغير، وليس مدحا بحد ذاته أو ذما. وكان ذلك أيضا بداية بناء حضارة جديدة لم يشهدها البشرية من قبل؛ الحضارة الإسلامية. ولما بدأ الناس تجاوز الحد في هذا، وتزايد الاهتمام على العلوم الطبيعية أو التطبيقية بدأ بعض العلماء ينبه على خطورة هذا المرض الجديد ونادوا إلى إحياء علوم الدين.

ميلاد التعليم الحديث في مقابل التعليم التقليدي

 والتاريخ يطول، ليتحول مقر العلم والتعليم رسميا من الكعبة المشرفة، ومن المسجد النبوي، ومن المسجد الأقصى ومن مسجد بني أمية، ومن مساجد بغداد، والكوفة والبصرة، ومن قيروان، وإفريقيا، ومن مسجد تمبكتو الكبير، ومن مسجد جني (إلى هذه المدينة يرجع أصل الكاتب)، ومن الزيتونة، ومساجد الأندلس، ومن مسجد الأزهر الشريف -نشأت سنة 970، بغرض تعليم العلوم الإسلامية عموما، والترويج للفكر الشيعي خصوصا، ثم تبنى المذهب السني هذه المهمة بعد غلبة صلاح الدين الأيوبي سنة 1171.- إلى أبنية مدنية جديدة تعرف بالمدارس والجامعات، وأسست لذلك وزارات للاهتمام بشؤون التعليم الذي يؤدي إلى التربية وبناء مجتمع مثالي معاصر ومتحضر. ولعل هذا التحول بذاته ليس محمودا كما أنه ليس مذموما بذاته. لكنها تولد إشكالية الأصالة والمعاصرة، والتراث والتجديد. وهنا يكمن دور الفقيه في التعامل مع الجديد، وهنا يتُحدى الدين في بناء حضارة مع دعوى التمسك بالقديم للقديم. وليس آراء العلماء في كل جزئية من الجزئيات السابقة منك ببعيد. وهنا يصعب التفرقة بين النص والزمن. وكل هذا بمجمله من الظواهر الطبيعية للحياة. الحياة لا تقف على وتيرة معينة، إنما تغيير مستمر. والإسلام كامن في نصوصه ومبادئه التي تؤهله لمواكبة كل زمن ومكان.

ورغم هذا، إلا أن المتتبع يقف على أن ميلاد الاهتمام الحديث بالتعليم أتى نتيجة سلبيات كثيرة، منها:

–  دعوى غربية في أكثرها، فالمستعمر هو من أقدم بالفكرة وساعد عليها بعد أن احتك بالأندلس واستفاد من العلم الإسلامي وأدرك أهمية العناية بالعلوم ودور ذلك في بناء الحياة.

–  أن ذاك واكب نظرية العلمانية، فاهتم بالعلم بعيدا عن الرؤية الدينية.

–  المجتمعات الإسلامية لم ترحب بالفكرة لا كما ولا كيفيا، ولَيْتهم اهتموا بها منذ البدء، فأخذوا بالجيد وأبعدوا الإشكالات، لأن هذا ما سيؤول إليه الأمر كما سنرى.

إلا أن الواقع فرض نفسه، فاهتم الطبقة العليا من المجتمع بالتعليم، رغبة في الزعامة وإعداد أولادهم لقيادة الدولة، وللحصول على فرص وظيفية لم تك ليتسلمها إلا من يحمل وثيقة تخرج من هذه المعاهد والجامعات. وهكذا أقصي النظام التعليمي الذي كان الاهتمام به دينيا، ومنبعه ديني، وانبثق من الدين؛ وغذي بالدين؛ بل الدين روحه.

مرحلة إصلاح التعليم الحديث

 وبعد أن فرض الواقع نفسه، ولم يعد ترك المساجد والكتاتيب ودور تعليم القرآن والسنة وعلوم الوحي والعلوم الطبيعية للالتحاق بالمدارس والجامعات الحديثة إشكالية، بل أصبح شرفاً ومطمع الجميع، انبثقت مرحلة جديدة في حياة الأمة، وهي مرحلة الدعوة إلى إصلاح التعليم في العالم الإسلامي. ومرت هذه المرحلة بطورين اثنين؛ الأول منهما يكمن في دعوى إصلاح مناهج التعليم في جامعات العالم الإسلامي، وبخاصة الجامعات الإسلامية التقليدية، مثل الأزهر الشريف والزيتونة.

والطورالثاني هو بناء جامعات إسلامية يضاهي الجامعات الغربية لكن بمنهج إسلامي؛ بإبعاد السلبيات التي لازمت نشأة التعليم الحديث، المشار إليها آنفا.

في الطور الأول من مراحل الإصلاح أخذ كوكبة يعرفون في الفكر الإسلامي المعاصر بالإصلاحيين، وسميت مدرستهم بالمدرسة الإصلاحية؛ يدعون إلى إصلاح التعليم التقليدي وأنه غير مواكب للعصر وسمته الأولى التخلف وعدم بناء حضارة، ومهمته إخراج دراويش ومساكين، على رأس هؤلاء الدعاة محمد عبده، وجمال الدين الأفغاني، وما قصة الإصلاح عنك ببعيد.

ومطلب الإصلاح في هذا هو إدخال علوم طبيعية واللغات إلى التعليم الإسلامي التقليدي، وإعداد خريجين لسوق عمل مناسب، شأنه شأن التخصصات الأخرى في العالم المتحضر.

بينما عرفت مدرسة دعاة الإصلاح في الطور الثاني بأسلمة المعرفة، أو إسلامية المعرفة، من مثل إسماعيل راجي الفاروقي ومحمد نقيب العطاس، والمعهد العالمي للفكر الإسلامي كمؤسسة. ومطلبهم هو بناء جامعات إسلامية يضاهي الجامعات الغربية لكن بمنهج إسلامي؛ بإبعاد السلبيات التي لازمت نشأة التعليم الحديث، المشار إليها آنفا. وكان ذلك فعلا توصية مؤتمر رابطو العالم الإسلامي بمكة سنة 1977، فتم إنشاء الجامعة الإسلامية في المدينة، والجامعة الإسلامية العالمية في ماليزيا، والجامعة الإسلامية في النيجر، والجامعة الإسلامية في إسلام أباد.. وما تبع.

خاتمة البحث

 يجد المتتبع لتاريخ إصلاح التعليم في العالم الإسلامي أن هذا المؤتمر إحدى دعواتها الإصلاحية في هذا العصر. فجدير بهذا أن يدخل تاريخ دعوات الإصلاح وفي ميدان الدراسات السابقة لإصلاح التعليم الإسلامي، فيحسب هذا في صفحة منظميها، وبخاصة لو علم أن هذا المؤتمر هو الأول من نوعه منذ نشأة كلية الشريعة إلى يومنا هذا –حسب علم الباحث-. ومن الجدير بالذكر أن الكثير ممن قدم ورقة علمية هم من خارج تخصص الدراسات الإسلامية نفسها.

ومما يلاحظ أيضا بوضوح أن المؤتمر امتاز بطريقة فريدة في طريقة تنظيمها قياسا على أغلب المؤتمرات العالمية المعاصرة -حسب علم الباحث-، أولا من حيث طريقة اختيار أصحاب الأوراق، فأغلبهم ممن يتبوأ المناصب العليا في مؤسساتهم (ذوي خبرات)، أو من ذوي الألقاب العلمية الرنانة في العالم الأكاديمي (أ.د). ومن حيث عدد المشاركين ثانيا، إذ قدم فيه سبع عشرة ورقة، ولعل هذا العدد يعتبر قليلا في عالم المؤتمرات ذوات السمة العالمية، لكن المناقشات الجادة التي تبعت كل جلسة أضفت طابعا جماليا آخر.

ويذكر للمؤتمر تنوع دول ومؤسسات من حضره، فمنهم العربي، والإفريقي، والتركي، والأوربي، والهندي. وبالجملة فإن الأبحاث المقدمة أراها -وقد حضرتها كلها- قيمة وثرية وأنها جديرة بالاختيار جملة.

إلا أن من الأمر التي يلاحظ أيضا هو اكتفاء المؤتمر بلغة واحدة، ولعل هذا عودة إلى الأصل باعتبارها لغة الدين، وإلا سيفتح هذا إشكالية أن الحديث عن العالم الإسلامي اليوم أو قضية من قضاياها وبخاصة التعليم لا بد وأن يتضمن لغة العصر، وهي الإنجليزية التي فرضت نفسها في الحقول الأكاديمية والبحثية وفي عالم المعرفة اليوم.

وبعد كل هذه الخطوات الجادة في إصلاح التعليم الإسلامي في جامعات العالم الإسلامي إلا أن ثمة تحديات كثيرة تقف أمامه. ولا بد من المواصلة للتقليل من هذه التحديات وهذا دور العاملين في هذه الحقول قبل غيرهم. كما أن طبيعة هذه المسؤولية دينية قبل أن تكون ومسؤولية مهنية أو أكاديمية.