يناقش أستاذ الاقتصاد ستيفن سميث من خلال كتابه “الاقتصاد البيئي: مقدمة قصيرة جدًا” موضوعًا من المواضيع المهمة في الحياة المعاصرة، ولعل أهمية هذا الموضوع تكمن في علاقته الوطيدة بالاقتصاد الذي يمثل ركنًا أساسيًا في عالم الناس اليوم، هذا بالإضافة إلى وفرة العوامل التي تهدد البيئة، وندرة السياسات البيئية الجادّة.
يعرف الاقتصاد البيئي -الذي يعدّ حقلًا ثانويًا من حقول الاقتصاد- بأنه علم “يختص بالدراسات النظرية أو التجريبية للآثار الاقتصادية للسياسات البيئية الوطنية في جميع أنحاء العالم، وتشمل تكاليف وفوائد السياسات البيئية البديلة لمعالجة تلوث الهواء، ونوعية المياه، والمواد السامّة، والنفايات الصلبة، والاحترار العالمي”.
ذكر ستيفن في مقدمة كتابه -التي جسّدت حقيقة العنوان؛ فجاءت “قصيرة جدًا”- أن الكتاب يهدف إلى “توصيل الأفكار الرئيسية إلى قاعدة من الجماهير”، وتناول “العلاقة بين النشاط الاقتصادي والبيئة”، سعيًا إلى وضع سياسة بيئية؛ تسهم في تحسين حياة الأجيال الحالية والمقبلة.
العلاقة بين الاقتصاد والبيئة
خصّص ستيفن الفصل الأول للحديث عن العلاقة بين النشاط الاقتصادي والبيئة، وبدأ حديثه بحادثة بيئية حدثت في لندن 1952م؛ سماها “الضباب الدخاني”، ورغم أن لندن “معروفة لزمن طويل بدخانها الكثيف حساء البازلاء”، إلا أن هذه الحادثة البيئية -التي تسبّبت في توقف أغلب مظاهر الحياة في المدينة- كانت وراء سنّ قوانين جديدة في المجال البيئي، إذ “نصّ (قانون الهواء النقي) لعام 1956م على وجود مناطق لا دخانية في أنحاء متعددة من لندن، واقتضى أن يحول سكان المنازل محارق الفحم المفتوحة إلى أفران مغلقة تعمل بأنواع وقود لا دخاني”.
هنا أشار ستيفن إلى أن التدابير والقوانين التي تم سنّها “فرضت تنظيمًا صارمًا على خيارات التدفئة على مستوى المنازل”، ولكنها في نفس الوقت “ألحقت هذا بمعونة مالية هائلة لمساعدة المنازل على التحول السريع من محارق الفحم المفتوحة إلى صور تدفئة أنظف”، وقد أتت هذه القرارات الصارمة أكلها؛ فبعد سنوات قليلة “أصبح الغلاف الجوي في لندن حاليًا أنظف بكثير مما كان عليه عام 1952م، حيث انخفضت مستويات تلوث الهواء بالجسيمات إلى أقل من 1 % من المستوى الذي كانت عليه في الخمسينيات”.
طرح ستيفن سؤالًا جوهريًا حول تدمير البيئة؛ هو: لماذا يؤدي اقتصاد السوق غير المنظم إلى تدمير البيئة؟ ومن النقاط المهمة التي أشار إليها ستيفن في هذا السياق “التأثيرات الخارجية”، ومن الأمثلة التي ضرب لها أن “المصنع الذي يقوم بتصريف نفايات سائلة سامة في بحيرة قد يضرّ بأسباب عيش مزارع الأسماك، لكن الضرر الذي يلحق بأرباح الأسماك لا يدخل في حسابات المصنع المسبّب للتلوث وخياراته الخارجية”.
كيفية مكافحة التلوث البيئي
في الفصل الثاني؛ بدأ ستيفن حديثه عن “النظرية الاقتصادية للسيطرة على التلوث” بسؤال نظري؛ هو: ما مستوى التلوث الذي يقبله المجتمع؟ ثم أتبعه بسؤال أقرب إلى الجانب العملي؛ هو: إذا كان سعر مكافحة التلوث هائلًا، فإلى أيّ مدى نمضي قدمًا؟ ثم أردف قائلًا: يتطلب الوصول إلى بيئة أنظف دفع تكاليف، من حيث الموارد المستخدمة في تركيب أجهزة مكافحة التلوث وتشغيلها، والتكاليف الأعلى المترتبة على إنتاج سلع نظيفة عوضًا عن البدائل الأرخص.
وفي هذا الإطار؛ ناقش ستيفن إجابة خبراء الاقتصاد على الأسئلة التي طرحها في بداية هذا الفصل، وقال إن إجابة الخبراء ستضمن “تقييمًا لكل جنيه يُنفَق على مكافحة التلوث ومنافعه”، ثم أشار إلى نقطتين مهمتين؛ الأولى: ضرورة “تقديم نمط التكاليف والمنافع بطريقة تتماشى بالتأكيد مع نمط الذنب والبراءة، فليس كل مسببي التلوث مؤسسات تجارية”. الثانية: أن “المبادئ البيئية التي لا تراعي التكلفة لن تجدي في النهاية في معالجة بعض المشكلات البيئية الأكثر إلحاحًا”.
ثم أشار ستيفن إلى دراستين؛ الأولى تدخل ضمن سياق السّجال حول كيفية مكافحة التلوث البيئي؛ وهي دراسة أعدّها رونالد كوز حملت عنوان: “مشكلة التكلفة الاجتماعية”، اعترض فيها كوز على “الرأي التقليدي” الذي يطالب بحل المشكلات البيئية عن طريق الحكومات، وقال كوز إن مكافحة التلوث ينبغي أن تتم من خلال “التفاوض الفردي بين الأطراف”، دون اللجوء إلى الحكومات. ورغم المشروعية الضئيلة لهذه الدراسة من زاوية، إلا أن الواقع من زاوية أخرى يؤكد تهافُتها؛ وصعوبة الاعتماد عليها، فالشعوب اليوم لا يمكن أن تُحكم بدون قانون، وإلا عمّت الفوضى والنزاعات.
أما الدراسة الثانية فتتعلق بالحد من الأمطار الحمضية؛ التي كانت تمثل “قضية سياسية كبرى” في أوروبا، لأن محطات الطاقة –حسب ستيفن- كانت “مصدرًا لنحو ثلاثة أرباع ثاني أكسيد الكربون في أوروبا”، إلا أنّ “الإجراءات التي اتُّخذت منذ عقدين قلّلت كثيرًا مستوى تلوث الأمطار الحمضية”. وهذا يُنبهنا إلى ضرورة إيجاد سياسات بيئية جادّة تسعى للحد من مخاطر التلوث البيئي. وسعيًا إلى تخفيض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون؛ قدّم ستيفن مقترحات؛ أبرزها: استخدام وقود تشغيل يحتوي على نسبة أقل من الكبريت، وإنشاء محطة طاقة جديدة تستخدم تقنيات حرق أقل تلويثًا.
أدوات السياسة البيئية
تحدث ستيفن عن السياسة البيئية وأدواتها، وقال إن “التنظيم التقليدي للتلوث الصناعي على طريقة القيادة والتحكم أدّى إلى تحسينات هائلة في العديد من المشكلات البيئية؛ على مدى العقود الماضية”، واقترح لهذا التنظيم ثلاث صور: الأولى: أن يفرض على الشركات استخدام تقنيات معينة لخفض التلوث. الثانية: أن توضع حدود للتركيزات الملوِّثة في تدفقات النفايات السائلة. الثالثة: أن تفرض قيود على إجمالي الانعاثات السائلة.
ونبّه ستيفن هنا إلى نقطة مهمة تتعلق بضرورة ما أسماه “تخطيط الضرائب البيئية وتطبيقها”، وقال إنه “يمكن بدقة متناهية توجيه الضرائب البيئية القائمة مباشرة على الانبعاثات المقاسة، بحيث تحقق الأهداف البيئية المنشودة من السياسة”، ولعل مثل هذه السياسات البيئية يُصبح رادعًا للشركات والأفراد على حد السواء، وسببًا في تحسن الواقع البيئي، وبالتالي الحفاظ على الإنسان.
الاحترار العالمي وتغير المناخ
توقّف ستيفن عند ظاهرة “الاحترار العالمي” التي يمكن أن تهدد العالم في أيّ لحظة، وقال إنها “عملية ديناميكية؛ تتطور على مدى فترة زمنية طويلة، ويترتب عليها دمار ناتج عن تراكم مخزون ثاني أكسيد الكربون وغيره من غازات التدفئة في الغلاف الجوي”، وهنا نبّه إلى الدمار الضخم الذي سيَلحَقُ بالأجيال المقبلة؛ في ظل غياب سياسات تحد من نشوب ظاهرة الاحترار العالمي المدمرة.
وأشار ستيفن أيضًا إلى ظاهرة “تغير المناخ”؛ وما يسببه من الفيضانات والحرائق، وقال إنه “قد ينطوي على زيادة في عدم استقرار أنماط المناخ، ووقوع أحداث عنيفة بتواتر وشدة أكبر؛ مثل الأعاصير والفيضانات وحرائق الغابات”. ولعل هذا الخطر البيئي هو ما جعل أكثر من 150 دولة تُشارك في قمة الأرض 1992م؛ وتتعهد بـ “العمل لدرْء التأثيرات البشرية الخطيرة”، ولعل هذا السبب نفسه هو الذي جعل لندن تنشئ عام 1984م “حاجز التايمز” بتكلفة تجاوزت 530 مليون جنيه إسترليني، من أجل حماية المدينة من مخاطر الفيضانات.