الحج طريق إلى الوحدة فهو موسم التطبيق العملي لوحدة الأمة الإسلامية؛ حيث تذوب الفوارق من لون وجنس ولغة، وتعلن الوحدة في الوجهة والنية، وفي الأقوال والأعمال، وفي الزي والهيئة، وفي الوقوف والحركة، إضافة إلى أنه يحمل في طياته ما يؤدي إلى التقاء وائتلاف النفوس وتقوية الروابط، مع الأمر الأكبر وهو ارتباط الأمة بخالقها، واتباعها لشرعه، وإعلائها للموازين الإسلامية، وإلغائها للمقاييس الأرضية”.

إن الكريم من بني البشر ليهش لزائريه وقاصديه إذا قصدوا بيته، وإن المحبّ ليفرِّغ نفسه من المشاغل إذا دعاه حبيبه لزيارته.

هذا هو حال بني الإنسان، فما بالك برب الأرباب -سبحانه- الذي له المثل الأعلى في السموات والأرض؟!

ومنذ أن نادى إبراهيم الخليل -عليه السلام- في الناس بعدما أمره ربّه بقوله: ﴿وأذّنْ فِي النَّاسِ بالحَجّ﴾ [الحج: 27] : “يا أيها الناس كُتب عليكم الحجّ، فأسمع من في أصلاب الرجال وأرحام النساء، فأجابه من آمن -من سبق في علم الله أن يحج إلى يوم القيامة: لبَّيك اللهمّ لبَّيك”([1]).

فتتابع الناس ملبين النداء، فلم ينقطعوا عن البيت لا في شِركٍ ولا إسلام إلا ما كان من انقطاعٍ في أيام القرامطة([2]) حينما استولوا على الحجر الأسود عام 317هـ، ومنعوا الناس عن الحج.

الحج طريق إلى الوحدة، والإسلام دين يدعو إلى الوحدة والقوة، وينبذ التفرّق والضعف، يقول الله تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾[آل عمران: 103].

وقال -صلى الله عليه وآله وسلم: “الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ، يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا”([3])، وقال: “تَرَى الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى عُضْوًا تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى”([4])، وفي رواية لمسلم: “الْمُؤْمِنُونَ كَرَجُلٍ وَاحِدٍ إِنِ اشْتَكَى رَأْسُهُ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ”([5]).

قال الحافظ ابن حجر: “قال ابن أبي جمرة: الذي يظهر أن التراحم والتوادد والتعاطف وإن كانت متقاربة في المعنى لكن بينها فرق لطيف، فأما التراحم فالمراد به أن يرحم بعضهم بعضًا بأخوة الإيمان لا بسبب شيء آخر، وأما التوادد فالمراد به التواصل الجالب للمحبة كـ: التزاور والتهادي، وأما التعاطف فالمراد به إعانة بعضهم بعضًا كما يعطف الثوب عليه ليقويه”([6]).

و لأن الحج طريق إلى الوحدة فهو عبادة جماعية لم تُفرض في الإسلام إلا بعد أن بدأت تظهر دولة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وتتضح معالمها وتبرز قوتها؛ فقد قيل: إنها فرضت سنة ست من الهجرة عام الحديبية([7])، أي: بعد أن أصبح المسلمون ندًّا لقريش؛ فقد استكملت البنيان وشرع رسول الله في إرسال الرسل لملوك وأمراء الدول الكبرى المعروفة آنذاك([8]).

وقيل: فرضت سنة تسع أو عشر من الهجرة([9]).

وكل هذا يعني أنها لم تفرض إلا بعد أن قوي المسلمون، وأصبح لهم شوكة، وهذه الشوكة لا تكون إلا بعد أن تم الاتحاد تحت راية النبي -صلى الله عليه وآله وسلم.

والملاحظ أن آيات الحج في سورة الحج تلاها الجهاد، وتلا الجهاد التمكين، يقول -تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ﴾[الحج: 39-41].

فكأن الحج مفتاح الجهاد، والجهاد مفتاح التمكين، يقول ابن حيان: “الحج من الأعمال الشاقة المفنية للمال والبدن”([10])، وكذا الجهاد مهلك للمال والبدن.

وقد ربط رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- بين الحج والجهاد حينما سُئِلَ: أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ:”إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ”. قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ:”الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ”. قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ:”حَجٌّ مَبْرُورٌ”([11]).

والجهاد له عدته، وكذا الحج له عدته، فالقوة والمال والوحدة والترابط وترك الأهل والسياحة في الأرض عوامل مشتركة بينهما.

وها هي ذي أرض الحرم قد ازينت بوفود الحجيج الذين هوت قلوبهم إليها، فلبوا نداء ربهم -جلّ جلاله، وتركوا الدنيا بزخارفها وشهواتها، واتجهوا إلى ربهم شعثًا غبرًا يرجون رحمته ويخافون عذابه، ارتفعت أصواتهم بالتلبية والدعاء… هانت عليهم كل المشاق ليقفوا بين يدي الواحد القهار في حرمه الذي جعله مثابة للناس وأمنًا.

الكل يرجع إلى الحرم ليحط رحاله بين يدي الله طالبًا الصفح والمغفرة… راجيًا الثواب.

الكل يضرع للرحمن… الكل يناجي مولاه…

ما أعظم هذا الموقف وأجلّه!

والمسلم الذي يقف أمام شعيرة (الوقوف بعرفة)، تلك الشعيرة العظيمة، والتي هي أعظم مناسك الحج لتتراءى له بعض الخواطر والمعاني التي يود أن يسجلها:

أولاً: عرفة مظهر التوحيد

الحج طريق إلى الوحدة فعرفة مظهر التوحيد لله؛ فكل من في الموقف يناجي إلها واحدًا، لا يعدل معه أحدًا، ولا يتقرب بعبادة لأحد سواه.

لذلك كانت التلبية والنداء صادعة بهذا؛ الكل يرفع بها صوته، ويلهج بها لسانه: “لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك”.

عرفة مظهر التوحيد في عالم الشهادة، وكذلك كان من قبلُ في عالم الغيب؛ ففي عرفة أخذ الله -عزّ وجلّ- الميثاق من بني البشر على ألوهيته، قال -صلى الله عليه وآله وسلم: “أخذ الله -تبارك وتعالى- الميثاق من ظهر آدم بـ(نعمان) -يعني: عرفة- فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها, فنثرهم بين يديه كالذر, ثم كلمهم قبلا قال: ﴿ألست بربكم قالوا: بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين. أو تقولوا: إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون﴾”([12]).

وعَنْ أَبِى نَضْرَةَ قال: حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ خُطْبَةَ رَسُولِ اللَّهِ -- فِي وَسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَقَالَ:”يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلاَ إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلاَ لاَ فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ، وَلاَ لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلاَ لأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلاَ أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلاَّ بِالتَّقْوَى…”([13]).

ثانيًا: طريق الرسالات واحدة

الحج طريق إلى الوحدة ومناسك الحج منذ أن رفع أبونا إبراهيم -عليه السلام- قواعد البيت والكل يسير على هديه، ويسلك دربه، ولا يحيد عن طريقه إلا من سفه نفسه، وكل الأنبياء -صلوات الله عليهم- عرفوا لعرفة قدره، وجعلوا هذا اليوم علمًا للتوحيد، يقول -صلى الله عليه وآله وسلم: “أفضل ما قلت أنا والنبيون قبلي عشية عرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد, وهو على كل شيء قدير”([14]).

ثالثًا: اليوم المشهود

يوم عرفة يوم يشهده العالم بأسره فيرى اجتماع المسلمين في صعيد واحد، لباسهم واحد، ونداؤهم واحد، فيرى عزة الإسلام وعزة المسلمين.

وكذلك تشهده الملائكة في السماء؛ فهذا أكبر اجتماع تعبدي لله -جل وعلا- على مدار العام، يرى الملائكة هؤلاء الناس الذين سالت دموعهم خشية من ربهم، وندمًا على ذنوبهم، وطمعًا في استجابة دعائهم، وعندها تتصل الأرض بالسماء، فالكل يسبح بحمده، كل المخلوقات تلجأ لمن خلقها ورزقها ويسر لها سبلها.

ألا يستحق أن يكون هذا اليوم يومًا مشهودًا؟ بلى. قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم: “اليوم الموعود يوم القيامة، وإن الشاهد يوم الجمعة، وإن المشهود يوم عرفة، ويوم الجمعة ذخره الله لنا، وصلاة الوسطى صلاة العصر”([15]).

يقول أحد النصارى عن مدى جدوى التنصير في البلاد الإسلامية: “سيظل الإسلام صخرة عاتية تتحطم عليها سفن التنصير النصرانية ما دام للإسلام هذه الدعائم: القرآن، واجتماع الجمعة الأسبوعي، ومؤتمرالحج السنوي”([16]).

وفي هذا المؤتمر مجال لرسم السياسات العامة للأمة، ومناقشة المشكلات، والإرشاد والتوجيه من خلال الخطب في موسم الحج، كما كان في الخطبة النبوية الجامعة في حجة الوداع.

وأخيرًا؛ فإن موسم الحج موسم التطبيق العملي لوحدة الأمة الإسلامية؛ حيث تذوب الفوارق من لون وجنس ولغة، وتعلن الوحدة في الوجهة والنية، وفي الأقوال والأعمال، وفي الزي والهيئة، وفي الوقوف والحركة، إضافة إلى أنه يحمل في طياته ما يؤدي إلى التقاء وائتلاف النفوس وتقوية الروابط، مع الأمر الأكبر وهو ارتباط الأمة بخالقها، واتباعها لشرعه، وإعلائها للموازين الإسلامية، وإلغائها للمقاييس الأرضية”([17]).

وفي الختام فإننا لا بد أن نذكّر أن شعور المسلم بأخيه المسلم قضية أكّد عليها رسول الله في مواطن كثيرة، فالدعاء للمسلمين بالنصرة ورفع البلاء في شتى الأماكن والبقاع من القربات التي يتقرب بها الحاج إلى ربّه، فكم من مبتلين حبسوا عن الحج، وكم من المظلومين منعهم الظالمون عن أداء المناسك، وكم وكم وكم… إلخ.

وفي هذه الزحمة التي تقرب إلى الأذهان صورة يوم الحشر يكون المسلم لينًا رفيقًا بالمسلمين من حوله فلا يزاحمهم، ويصبر عليهم.

ونداء خاصٌّ للأغنياء بأن يعينوا من أموالهم من لا يستطيعون أداء الفريضة؛ فلو فعلوا ذلك لكان حج من أعانوهم في ميزان حسناتهم.

فكم من فقير منعه فقره عن حج بيت الله واكتحال عينيه برؤية الكعبة المشرفة…

وكم من رجل يحنّ إلى زيارة البيت والمقام والسعي والطواف ولكن أنى له السبيل إلى ذلك…


([1]) تفسير الطبري، (18/ 606).

([2]) “القرامطة حركة باطنية هدامة تنتسب إلى شخص اسمه حمدان بن الأشعث ويلقب بقرمط؛ لقصر قامته وساقيه، وهو من خوزستان في الأهواز، ثم رحل إلى الكوفة. وقد اعتمدت هذه الحركة التنظيم السري العسكري، وكان ظاهرها التشيع لآل البيت والانتساب إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق، وحقيقتها الإلحاد والإباحية وهدم الأخلاق والقضاء على الدولة الإسلامية” [الموسوعة الميسرة، (1/378)].

([3]) أخرجه البخاري في “الأدب”، باب: “تَعَاوُنِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا”، ح(6026)، من حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه.

([4]) أخرجه البخاري في “الأدب”، باب: “رَحْمَةِ النَّاسِ وَالْبَهَائِمِ”، ح(6011)، من حديث النعمان بن بشير -رضي الله عنه.

([5]) أخرجه مسلم في “البر والصلة والآداب”، باب: “تَرَاحُمِ الْمُؤْمِنِينَ وَتَعَاطُفِهِمْ وَتَعَاضُدِهِمْ”، ح(6753)، من حديث النعمان بن بشير -رضي الله عنه.

([6]) فتح الباري، (10/439).

([7]) زاد المعاد، (2/96).

([8]) انظر: السابق، (1/116).

([9]) السابق، (2/96).

([10]) البحر المحيط، (1/631).

([11]) أخرجه البخاري في “الإيمان”، باب: “مَنْ قَالَ: إِنَّ الإِيمَانَ هُوَ الْعَمَلُ…”، ح(26)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه.

([12]) أخرجه أحمد في “مسند عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، عن النبي ”، ح(2455)، وقال شعيب الأرنؤوط في تعليقه على “المسند”: “رجاله ثقات رجال الشيخين غير كلثوم بن جبر من رجال مسلم وثقه أحمد وابن معين، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال النسائي: ليس بالقوي. ورجح ابن كثير وقفه على ابن عباس”.

([13]) أخرجه أحمد في “مسنده”، ح(23536)، وقد صحح إسناده شعيب الأرنؤوط في تعليقه على “المسند”.

([14]) أخرجه الطبراني في “الدعاء”، ح(874) من حديث علي -كرّم الله وجهه، وقد ذكره الألباني في “السلسلة الصحيحة”، (4/7).

([15]) أخرجه الطبراني في “المعجم الكبير”، (3/298) من حديث أبي مالك الأشعري–رضي الله عنه، وقد حسنه الألباني في “صحيح الجامع”، ح(8200).

([16]) مالك إبراهيم بابكر: الحج والوحدة المنشودة، موقع قصة الإسلام.

([17]) د. علي عمر بادحدح: الحج مؤتمر الأمة، موقع قصة الإسلام.