لا يزال العالم اليوم يلهث وراء مصطلحات التجديد والحداثة؛ التي تَذهبُ بالعقولِ وتأخذ الأفئدةَ بدعوى التقدم والرقي.. وقد انتشرت موجات عاتية من المصطلحات الوافدة والموضات السافرة والتغني بمنجزات الغرب وتحريف الكلم عن موضعه بانتهاج مناهج التقعر في الكلام، واستخدام أساليب تتنافى والذوق العام، وتصطدم بصحيح اللغة ومورد الكلام.
أمام هذا اللهث والانقياد والمتابعة للغرب حذو القُذَّةِ بالقُذَّة[1] حتى صار الاستسهال عنوان المرحلة فطال كل شيء حتى العبادات.. أمام الغزو -بصوره المختلفة- الذي يحيطنا من كل جانب مستهدفًا مكامن عزتنا ومواطن فِخارنا (اجتماعيًا واقتصاديًا وثقافيًا)، معتمدًا على التكنولوجيا باعتبارها مظهرًا من مظاهر التقدم، مستخدمًا أساليب الحداثة والرقي؛ فقد بات الاهتمام باللغة العربية -مثلاً- مثار سخرية وازدراء والتمسك بها رجعية وعودة للوراء.. أمام كل هذا تتجدد الحاجة لتقنين هذا الأمر الذي بُحث كثيرًا من قبل لحاجتنا الآنية لما يشد العود ويجدد الأمل فى تراث أمتنا العتيق وموردنا العذب ومنهلنا الطيب.. حتى تبرأ الأمة من سقم وتسيقظ من سبات.. فماذا عسنا أن نجني جراء إضاعتنا لثرواتنا وتراثنا وأعمارنا؟
ومع زيادة الإقبال عالميًا على وسائل العصر ومستجداته في كل المجالات علميًا واقتصاديًا واجتماعيًا وثقافيًا، بما يعنى الكثير من الوسائل والأدوات والمصطلحات بل والثقافات أمست الحاجة ملحة لضبط مصطلح «الحداثة» ومدلولاته، ومن ثم معرفة كيفية، ونسب التعاطي معه بما يحفظ علينا ثقافتنا وديننا.
مفهوم الحداثة
فالحداثة في اللغة مصدر حدث: الْحَدِيثُ: نَقِيضُ الْقَدِيمِ. وَالْحُدُوثُ: نَقِيضُ الْقُدْمَةِ. حَدَثَ الشَّيْءُ يَحْدُثُ حُدُوثًا وَحَدَاثَةً، وَأَحْدَثَهُ هُوَ، فَهُوَ مُحْدَثٌ وَحَدِيثٌ، وَكَذَلِكَ اسْتَحْدَثَهُ. وَأَخَذَنِي مِنْ ذَلِكَ مَا قَدُمَ وَحَدُثَ؛ وَلَا يُقَالُ حَدُثَ، بِالضَّمِّ، إِلَّا مَعَ قَدُمَ، كَأَنَّهُ إِتْبَاعٌ، وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: لَا يُضَمُّ حَدُثَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْكَلَامِ إِلَّا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَذَلِكَ لِمَكَانِ قَدُمَ عَلَى الِازْدِوَاجِ[2].
وإن كانت الحداثة تعنى عند أهل العلوم والأدب:”الْمُعاصَرَةُ وَتَبَنِّي أَشْكالٍ وَأَساليبَ حَديثَةٍ في الكِتابَةِ تُلائِمُ مَفاهِيمَ العَصْرِ”، فإنها تعدت هذا لتشمل التحديث والتجديد في كل مجالات الحياة وإطلاق العقل طاقته ليجول بخاطره لما وراء المتوقع، فهي- مثلاً- عند كمال أبو أديب[3]: ” طرح للأسئلة القلقة التي لا تطمح إلى الحصول على إجابات نهائية، بقدر ما يفتنها قلق التساؤل وحمى البحث، فهي إذًا جرثومة الاكتناه الدائب القلق المتوتر، وهي حمى الانفتاح”[4].
لكنها في اصطلاح الغربيين تدور حول عدة معانٍ أبرزها أنها: “انفجار معرفي لم يتوصل الإنسان المعاصر إلى السيطرة عليه، كما عند “رولان بارت”[5]
كما أنها وردت بمعنى تجسيد صورة نسق اجتماعي متكامل، وملامح نسق صناعي منظم وآمن، وكلاهما يقوم على أساس العقلانية في مختلف المستويات والاتجاهات، كما عند «ماركس» و«إميل دور كايم»، و«ماكس فيبر»، لكن «جيدن» اعتبرها: تتمثل في نسق من الانقطاعات التاريخية عن المراحل السابقة حيث تهيمن التقاليد والعقائد ذات الطابع الشمولي الكنسي”[6].
وقد اعتبر الفيلسوف الألماني «كانت» وهو من آباء الحداثة الغربية أن شرط الحداثة والتنوير اللازم هو “الحرية”، فى دلالة على أن العقل عنده يجب أن يتحرر من سلطة المقدس ورجال الكهنوت والكنيسة وأصنام العقل”.[7]، فيما يرى ناصيف أن الحداثة “هي حالة خروج من التقاليد وحالة تجديد، وتتحدد الحداثة في هذا المعنى بعلاقتها التناقضية مع ما يسمى بالتقليد أو التراث أو الماض.[8]
مفهوم الحداثة في الإسلام
ومصطلحات التجديد هذه وإن كانت جديدة نسبيًا على ثقافتنا نحن المسلمين من جهة اللفظ، فإنها قديمة من حيث الأصل والمضمون بقدم هذا الدين؛ ففي واقع الأمر استودع الله دينه ما يدعو لمواكبة ما يستجد من أمور ومعايشة الواقع باحترافية واقتدار.. بل إن الإسلام سبق لحث أتباعه على صنع الجديد واعدًا بالثواب والأجر الجزيل.. لكن وأمام حالة الضعف العامة التي مُني بها المسلمون أصبح من الصعب نسبيًا تَصدُّر هذه المجالات واكتفينا بالمشاركة في صناعة أدوات الحداثة ووسائلها أحيانًا، والمتابعة والاستهلاك أحيانًا أُخر!
لكن، وبالنظر للتعاريف السابقة التى اعتمدت على ذويع حالة الضعف، فإن يتجلى ما بين هذه المدلولات المتعددة للحداثة من مساحة تؤكد التحلل والتحرر من الثوابت بإطلاق سراح العقل في مجالات الحياة، وهذا الأمر وإن كان ظاهره التقدم والرقي والوقوف على نهايات التطور، فإن باطنه من قبله العذاب إن لم يُضبط بضابطٍ شرعيٍ وعرفيٍ يتفقُ وتعاليم ديننا وتقاليد وعادت شعوبنا العربية والإسلامية.
ومن هنا وجب بيان منطلقاتنا نحن المسلمين قبل الولوج في هذا البحر الذى لا ساحل له، مصطحبين ما ذخر به الإسلام من معانى التعايش والتقدم مستنيرين بنصوص الوحي الزاخرة، بما يغلق الطريق أمام موجات التغريب الساحقة وطعنات التشويه المتوالية، فمفهوم الحداثة العربية والإسلامية يتعين بجملة من العناصر التي ينبغي أخذها في الاعتبار في عملية النهوض الحضاري: وأوّل هذه العناصر هو الوحي؛ قرآناً وسنة، وثانيها هو الواقع العربي الإسلامي، وثالثها هو الانطلاق من الإنسان. ورابعها هو الانفتاح على العالم.
فمفهوم الحداثة إذًا عندنا يعتمد على النموذج المعرفي للإنسان باعتباره الأساس الذي يقوم عليه ومن أجله، وهو ما يختلف -في اعتقادنا- مع المفهوم الغربي الذي يستبطن العلمانية، ويستبعد كل أثر للدين في حركة الحضارة.[9]
واقع مخزٍ
وبعد وقوفنا على مفهوم الحداثة بين الإسلام والغرب؛ بين الأصل والفرع، يجدر بنا وصف ما عليه الحال الآن.. فإننا وإن كنا بصدد ظاهرة عالمية تجتذب العالم أجمع فإنه يعنينا في المقام الأول ما عليه حال المسلمين تجاه هذا الأمر، فمن غير الخفى ما ابتلي به بعض المسلمين من الانسياق التام وراء هذه المصطلحات حتى باتوا دعاة للغرب في بلادنا، فقذفت بهم الحيرة إلى متائه من الشطحات هي ظلمات بعضها فوق بعض، فتاهت بهم السبل وكثرت بهم الأزقة وتخطفتهم الدروب بمسميات شتى ودعاوى متغايرة، التقدم والحداثة إحدى صورها ووسائلها حتى وجدوا أنفسهم صرعى على أعتاب ما ذهبوا يبغونه.
نعم، إن واقع أمتنا اليوم لينبئ عن تردٍ مزرٍ، “فإذا ما بحثت عن أمتنا في حقول المعرفة فلا تجدها٬ وفي ساحات الإنتاج فلا تحسها٬ وفي نماذج الخلق الزاكي والتعاون المؤثر٬ والحريات المصونة٬ والعدالة اليانعة… فتعود صفر اليدين!! بماذا شغلت نفسها؟ بمباحث نظرية شاحبة٬ وقضايا جزئية محقورة٬ وانقسامات ظاهرها الدين وباطنها الهوى.. واستغرقها هذا كله٬ فلم تعط عزائم الدين شيئًا من جهدها الحار٬ وشعورها الصادق.. فكانت الثمرات المرة أن صرنا حضاريًا وخلقيًا واجتماعيًا آخر أهل الأرض فى سلم الارتقاء البشرى!!”.[10]
فقد أطلت التكنولوجيا الحديثة برأسها على رأس البسيطة وراحت تُبرِق عيونَ المسلمين الذين لم يكن لهم يد في صناعتها، وهنا مكمن الخطر وموضع الشرر، وفي سبيل ذلك أجمع الغرب عدتهم وراحوا يكيدون لكل ما يرتبط بالمسلمين وتاريخهم ولغتهم كيدًا.. وانطلقوا وهو يتخافتون حتى ساد القوم ببضاعتنا وتبوأوا مكانتنا.
وهو ما أردت التنويه إليه حتى لا تجرفنا رياح التغريب لوادٍ غير ذى زرع فنصبح وقد صرنا ألعوبة في يد الغرب تتلقفنا أياديهم، ننشد ودهم ونتغنى بإنجازاتهم دونما اعتبار لدين أو عرف، وهو ما يعد مسخًا نوعيًا وسَحْقًا للثوابت والأركان.
سمات الحداثة المنشودة
ولهذا، فأوّل سمة من سمات الحداثة المنشودة هو أن تكون قائمة على المرجعيّة الدينيّة، المبنيّة أساسًا على التوحيد، على اعتبار أنه “يمثّل حجر الزاوية في تكوين وبناء الرّؤية الكلّية عن الكون والحياة والإنسان، وفي الوقت نفسه يحقّق قدرة كبيرة على صياغة المفاهيم الضرورية، لبناء فاعلية الإنسان، وتشكيل دافعية العمران والتسامي فيه، وإيجاد المنطلقات المعرفية، والثقافية السليمة لدى الإنسان.”[11]
فلا يمكن حل أزمة الفكر إلا بالتوحيد، ولا يستنير الفكر إذا لم تنعكس أشعة التوحيد عليه، ولا يهتدي السلوك الإنساني إلا به، ولا يرتقي إلى معارج التزكية إلا بسلالمه، ولا يبلغ العمران إلا بسلوك سبيله، ولا تتحقّق عدالة إلاّ بعد اليقين به، ولا تقوم دعائم حرية أو تحرّر أو مساواة إلا على قوائمه. فهو (أي التوحيد) ينعكس على الفكر فيقيّمه، وعلى التصوّر فينقّيه، وعلى الاعتقاد فيصحّحه ويطهّره، وعلى الوجدان فيحرّره، وعلى السلوك فيعدّله، وعلى الخلُق فيحسّنه، وعلى الحياة فيجعلها حياة طيبة، وعلى نظم الحياة فيجعلها صالحة قائمة على الهدى، والحق، والعدل، والأمانة، وتساوي الخليقة ووحدتها، ووحدة الحقيقة ومناهجها.[12]
وعليه، فلابد أن تعتمد الحداثة على التراث الإسلامي بكل ما يحمله من رؤية معرفية، ومنظومة قيمية، وفلسفة في الوجود فهو أصل الرسالات ومبتغى الرسل والديانات وبه وحده النجاة وبتعاليمه وحده تسمو طبائعنا وترسو سفينتنا وسط هذه الموجات العاتية والصفات النابية.