كيف قرأ الحداثيون العرب مناسك الحج ؟ الحج شعيرة إسلامية لكنه كان موجودا لدى الديانات السابقة على الإسلام، وهو لم يوجد قط إلا في ديانة كبيرة لأنه يستلزم انتشار الديانة في أماكن متعددة كما يستلزم قِدمها وانتظام العمل بها في الأزمنة المتعاقبة عامًا بعد عام أو موسمًا بعد موسم، ولا يتهيأ هذا وذاك إلا لديانة تأصلت في مكانها وزمانها كما يفترض العقاد. والصلة بين حج الإسلام وحج الأديان السابقة أو الوثنية هو موضوع أثير لدى المستشرقين الذين انطلقوا في دراساتهم من مسألة انتحال الإسلام شعائر الحج من الأديان السابقة مع صبغها بصبغة إسلامية، وتابعهم فيها الحداثيون العرب ومنهم محمد شحرور وعبد المجيد الشرفي والطيب تيزيني وغيرهم، وفي السطور التالية نبين مسألة الحداثيين والحج، رؤاهم الحداثية حول الحج ومناسكه ومدى التأثر بالفكر الاستشراقي.
الحج بين الإسلام والأديان السابقة
نقطة الانطلاق في المقاربات الحداثية هي إعادة تعريف مفهوم الحج على نحو يخالف التعريف اللغوي أو التعريف الشرعي، وفي هذا الصدد يذهب شحرور إلى أن “الحج عبارة عن شعيرة بدأها إبراهيم ولم تكن قبله..، والحج تحديداً مورس قبل البعثة النبوية، وكان معلوماً عند العرب قبل البعثة وأيام البعثة النبوية”، على حين يذهب حسن حنفي إلى أن صيغة فعل (حج) لها بضع معاني من بينها “جادل وانتصر على الخصوم، ومن اللفظ أيضا الحِجاج أي الجدل، والحُجة أي الدليل، فالحج دليل… فالحج دلالة ومعنى وليس شعيرة ونسكاً، والدلالة أهم من الدال، الدلالة فعل في العالم وجهاد فيه”.
ورغم الاختلاف بين التعريفين إلا أنهما يشيران إلى مسألتين جوهريتين في الفهم الحداثي للحج وهما اقتباس الإسلام جل مناسكه من الأديان والوثنيات السالفة، والثاني ضرورة إخضاعه لمقتضيات العقل وأدلته وفتح الباب أمام تأويل الشعائر أو إبطالها بزعم مراعاة المصلحة.
ومسألة اقتباس الشعائر نجدها لدى جل الحداثيين، فهذا عبد المجيد الشرفي يرى أن “الحج من هو من الطقوس التي كانت تمارسها العرب قبل الإسلام، فتبناها الإسلام وأضفى عليها الإسلام معنى جديدا منسجما مع التوحيد، ومع ذلك لا يمكن إنكار ما بقيت تحتوي عليه مناسك الحج من رواسب الذهنية الميثية -الأسطورية- ونقصد بالخصوص ما فيها من رجم للشياطين ومن هدي”[1].
ولهذا يفترض الطيب تيزيني أن شعائر الحج في الإسلام تمثل فرعا من أصول سابقة استقى منها وتأثر بها[2]، وهذه الشعائر انتخبها الرسول بعناية حيث لم يكن موقفه من الفكر والسلوك السابقين عليه “عدميا ولا محايدا ولا عشوائيا”، لقد وجد نفسه أمام مجموعة متعددة من العقائد وأنماط السلوك والتفكير، وكان عليه إخضاعها للضابط الإسلامي بحيث يفضي ذلك إلى نمط جديد من السلوك والتفكير[3]، وهو ما يعني أنه تم تلفيق هذه الشعائر وصياغة دين جديد منها.
وترجع جذور هذه الأقوال إلى كتابات المستشرقون لاسيما المستشرق فنسنك الذي ادعى أن اهتمام الرسول بالحج لم ينشأ إلا متأخرا في غزوة بدر ورام من ورائه إلى تحقيق أغراض سياسية، وادعى أيضا أن مستوحى من حج العبرانيين واستدل على ذلك بأن الوقوف وعرفة وحتى ألفاظ الحج مثل التشريق والتروية هي شعائر ذات منشأ يهودي.
مكانة الحج
يتأسس على القول باقتباس شعائر الحج التعاطي معه باعتباره فريضة هامشية أقل شأنا من الفرائض الأخرى، وحول هذا المعنى يقرر محمد عابد الجابري أن من الشريعة ما هو فرض لا يدخل الإنسان الإيمان إلا به كالشهادة، ومنها ما هو فرض يُخرج من الإيمان بتركه كالصلاة، ومنها ما هو فرض يُضعف الإيمان ولا يزيله كترك الحج ومنها ما هو دون ذلك، لكنها جميعا داخلة في أحكام الإسلام وإن تفاوتت في قوتها[4].
ويعزز من هامشيته كونه مرتبطا بالاستطاعة وهو ما جعل الحداثيون يظنون أن الحج اختياري وليس إلزامي، وفي هذا الصدد يقول شحرور “الحج شعيرة يتقرب بها الإنسان من الله، وهي ليست إلزامية وإنما مرهونة بالاستطاعة.. فأنت تفرض على نفسك الحج، أي تحدد الوقت المناسب لتقوم بأداء الشعيرة”[5] ويشاطره الرأي أحمد صبحي منصور زاعما أن الفقهاء كتبوا آلاف الصفحات في تحديد شروط المستطيع وحدود الاستطاعة فأقحموا أنفسهم بين الله وعباده، والمسألة ليست كذلك لأن تقدير الاستطاعة متروك إلى قلب المؤمن وحده.
التأويلات الحداثية للحج
يعمد الحداثيون في كتاباتهم إلى تقديم تأويلات حداثية للحج وشعائره تقطع مع التأويلات التراثية وتتوسل بالمناهج الحديثة، ومن هذه التأويلات:
1. دعوى عمومية الحج لجميع البشر: يعتقد فريق من الحداثيين أن تأدية الحج إلى بيت الله الحرام لا يخص المسلمين وإنما هو للناس على اختلاف دياناتهم و قصرها على المسلمين ليس إلا مظهرا من مظاهر التعصب السني وأنهم بذلك حوّلوا الاسلام دين الله جل وعلا الى دين محلى لا يسع لغيرهم كما يفترض أحمد صبحي منصور[6]، ويؤيد شحرور دعوى عمومية الحج ذاهبا إلى أن الله تعالى يقول (ولله على الناس حج البيت) ولم يقل المسلمين، وهذا ما يتعارض مع قول الله تعالى (إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) لذا نراه يعمد تفكيك الآية بنقلها من سياق العموم إلى الخصوص مدعيا أنها تخص المشركين الذين كانوا يحجون ويكبرون بألفاظ تنم عن الشرك، وهذه التكبيرات لم تعد موجودة الآن، والادعاء أن النجس هو ما يخرج من الفم ولا يتعلق بالجسد الإنساني أو حتى الحيواني، فجسم الحنزير محرم لكنه ليس نجسا كما يظن.
2. أشهر معلومات أم أيام معدودات: يتفق معظم الحداثيون على أن شعائر الحج لا يلزم تأديتها في مفتتح ذي الحجة، وإن هناك متسع لأن تؤدى في الأشهر الحرم تخفيفا للزحام وهذا قول كل من: عبد المجيد الشرفي وجمال البنا، وشحرور وصبحي منصور، وقد ذهب الأخير إلى أن موسم الحج يمتد لأربعة أشهر تستهل بذي الحجة، وهذه الأشهر تلي ذي الحجة مباشرة، وحجته أن الرسول حج حجة الوداع في شهر ذي الحجة الحرام سنة 10 هجرية وفيه نزل إعلان البراءة من كل المشركين وأعطى المشركين مهلة أربعة أشهر هي الأشهر الحرم، والمفهوم أن يسرى الانذار في الشهور التالية لتكون الأشهر الحرم هي: ذو الحجة، محرم، صفر، ربيع أول، فليس معقولاً أن ينذرهم الله بأشهر سابقة هي شوال وذو القعدة. وهذا الاقتراح يتجاهل كون الحج محكوما بأمرين هما الوقوف بعرفة[7] وتحديد يوم النحر، ولهذا يحاول جمال البنا حل لهذا المشكل ذاهبا إلى أن حديث الرسول (الحج عرفة) لم يحدد ميعادا وإنما حدد مكانا، وإنما المشكلة في يوم النحر، وهنا أيضا يعوزنا النص القرآني ولكن لدينا سنة متبعة عن الرسول، ورغم هذا يمكن النظر للأمر عقليا قياسا على الصلاة، فالصلاة لها وقت لكنه وقت متسع يسمح أن يؤدي الإنسان الصلاة خلاله، والحج يمكن أن يكون كذلك إذا أخذنا بظاهر قوله تعالى (الحج أشهر معلومات).
3. إبطال المناسك: يؤمن الحداثيون أن مناسك الحج هي مناسك مجسدة من بقايا الوثنية القديمة وأن الإسلام انتقل بالعبادة من التشخيص إلى التجريد كما يفترض شحرور ولذا فإننا حين نقيم الشعائر فنحن نقيم “شكلا رمزيا فطريا” ليس إلا، ومن هنا يمكن التخلص منه إذ لا يجوز للإنسان المعاصر الذي يتبرم من فعل الرجم أن يقوم به رغم عدم اقتناعه حسب اعتقاد الشرفي[8] وكذلك يجوز له أن يتحرر من الإحرام الذي يكشف عوراته ويعرقل حركته ذلك أن الإحرام بالحج يعنى أن تجتمع الحرمات الثلاث معا وهي: الحرم المكاني وهو بيت الله الحرام ، والحرم الزماني هو الشهر الحرام ، والحرم الإنساني وهو القلب محل التقوى، كما يقترح صبحي منصور، ومعنى ذلك إبطال الحج ومناسكه المعروفة والدعوة إلى “الحج العقلي” أو القلبي الذي لا يدور حول المناسك وإنما حول العقل وأهوائه.
ملاحظات ختامية
عرضنا فيما سبق مقولات المفكرين الحداثيين ورؤاهم حول الحج عرضا توخينا فيه الموضوعية قدر المستطاع واجتهدنا في نقل الأفكار كما ذكرها أصحابها، وبقي أن نقدم بعض ملاحظات بشأنها.
الملاحظة الأولى
تتعلق بالتماهي شبه التام بين أفكار الحداثيين والمستشرقين، مثل الزعم باقتباس الشعائر من اليهودية، وأن الرسول لم يأبه لأمر الحج إلا متأخرا ولدواعي سياسية، وأن الأشهر الحرم في الإسلام ليست هي الأشهر الحرم لدى العرب. وأما ما شذ فيه الحداثيون فهو قولهم جواز تمديد أيام الحج إلى الأشهر الحرم، وجواز إسقاط بعض مناسكه مثل الذبح والرجم، ولذلك حبذ أركون ” الحج العقلي” الذي لا محل فيه للمناسك التقليدية، وهذه الأقوال هي امتداد لأقوال المستشرقين وفرع عنها بل هي التجلي المعاصر لأفكار المستشرقين في عصر ما بعد الاستشراق.
الملاحظة الثانية
تتصل بمسألة انتحال الإسلام شعائر الحج من اليهودية، وهو ما يتجاهل حقيقة أن الحج عبادة لها وجود قبل الإسلام وأصله دعوة إبراهيم وقد جاء الإسلام ليصحح ما أصاب مناسكه عبر العصور وما خالطه من شرك ووثنية فهو لم يأت ليهدم ما جاءت به الديانات ولكن ليبني عليه ويعيده لأصله التوحيدي، ومن هنا تأتي المقارنة مع اليهودية حيث أبقى الإسلام ما أبقى منها ونسخ ما نسخ، وقد خالف الحج في الإسلام حج بني إسرائيل من جوانب عدة
- أولها أن الحج في بني إسرائيل إنما كان وسيلة لتدعيم سلطان الهيكل وكهانه وإمدادهم بالأموال والقرابين كما ورد في العهد القديم، وليس في الإسلام شيء من ذلك.
- وثانيها أن مواقيت الحج اليهودي كانت ثابتة في الربيع أيام الزرع والحصاد بحيث تؤدى الإتاوات منها إلى الكهنة، وأيام الحج في الإسلام متغيرة حسب التقويم القمري.
- وثالثها أن شعائر الأضحية كما يرتبها الكهان الإسرائيليون تتجاوز الاعتراف بوجود الشيطان إلى تقديم القربان إليه، فإذا كان يوم الكفارة جاءوا بجديين وفضلوا أحدهما بالقرعة فتقربوا به إلى الله، ثم تقربوا بالآخر إلى عزازيل؛ أي الشيطان[9].
وفي الأخير يمكن القول إن تصور الحداثيين العرب للحج ومناسكه مستقى من الفكر الاستشراقي، مع استثناءات محدودة يمكن اعتبارها امتدادا لهذا الفكر.