إن ما يسمى ببلاد إيران الآن كانت بلادًا تابعة للمذهب السني تمتلئ بالعلماء الكبار الذين قدّموا لهذا الدين أجلّ الخدمات وأعظمها، هؤلاء العلماء كانوا أوعية للعلم حافظين له، أمناء في التحمّل والنقل، فنفعوا وانتفعوا.
ومن هؤلاء المحدثة زينب بنت الشعرية، التي كانت يُشد إليها الرحال من كل البلدان، من أقصاها إلى أقصاها.
الاسم والكنية
فهي “الشيخة الجليلة مسندة خراسان، أم المؤيد حرة ناز زينب بنت أبي القاسم عبد الرحمن بن الحسن بن أحمد بن سهل بن أحمد بن عبدوس الجرجانية الأصل، النيسابورية الشعرية”([1]).
وأبوها كان “صالحًا، مُكثرًا من الحديث، حريصًا عَلَى طلبه”([2])، وكان من أهل التصوف؛ فجمع بين العلم والعمل، ومن حبّه للعلم وأهله غرس في أولاده ذكورًا وإناثًا تلك المحبة، وهذا الشغف، حتى برزوا وأصبحوا قبلة للناس.
أما لقبها فيقول ابن خلكان: “الشَّعْري: بفتح الشين المثلثة وسكون العين المهملة وفتحها وبعدها راء، هذه النسبة إلى الشعر وعمله وبيعه، ولا أعلم من كان في أجدادها يتعاطاه فنسبوا إليه، والله أعلم”([3]).
المولد
ولدت تلك المحدثة الجليلة “سنة أربع وعشرين وخمسمائة”([4])، وهي أصغر من أخيها العالم الثقة الصالح عبد الرحيم الشعري، والذي يسبقها بعدة أعوام؛ إذ اختلف في سنة مولده ما بين سنة خمس عشرة وثمان عشرة وخمسمائة([5]).
أساتذتها وشيوخها
إن أم المؤيد زينب بنت الشعري قد أدركت جماعة من أعيان العلماء، وأخذت عنهم رواية وإجازة، ولم تكتف بالطلب في فن واحد من فنون العلم، بل توسعت في ذلك، فطلبت العلم عند أهل الحديث، وأهل التفسير، وأهل القراءات، وأهل الفقه، ولم يفتها أن يكون للتزكية نصيب في طلبها.
فهي قد سمعت من الصدوق المعمر المسند أبي محمد إسماعيل بن أبي القاسم بن أبي بكر النيسابوري القارئ، وأبي القاسم زاهر وأبي بكر وجيه ابني طاهر الشحاميين من بيت العدالة والرواية، وأبي المظفر عبد المنعم بن عبد الكريم بن هوازن القشيري، وأبي الفتوح عبد الوهاب بن شاه الشاذياخي الشيخ الصالح المأمون، والشيخ الفقيه العالم المسند الثقة أبي البركات عبد الله بن محمد بن الفراوي، والشيخ الثقة الجليل المسند أبي المعالي محمد بن إسماعيل بن محمد الفارسي، والإمام المفتي المعمر الثقة أبي محمد عبد الجبار بن محمد بن أحمد الخواري البيهقي، وغيرهم.
وأجاز لها الحافظ أبو الحسن عبد الغافر بن إسماعيل بن عبد الغافر الفارسي، والعلامة أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري صاحب (الكشاف)، وغيرهم من السادات الحفاظ([6]).
أما شيوخها من النساء فمنهم أم الخير فاطمة بنت زعبل الشيخة العالمة، المقرئة الصالحة المعمرة، مسندة نيسابور، وفاطمة بنت خلف الشحامي، وعائشة بنت أَحمد الصفار([7]).
مذهبها الفقهي
لم أقف على أحد من أصحاب التراجم نسبها إلى مذهب معين، ولكن يغلب على ظني أنها كانت شافعية المذهب؛ إذ إنها روت هي وابناها عن الإمام الفقيه أبي بكر محمد بن علي الطوسي الشافعي([8]).
ومدينة نيسابور كانت مدينة نشأ فيها كبار علماء الشافعية.
وقد أنشئت فيها المدرسة النظامية في القرن الخامس الهجري، والتي كان يدرّس فيها كبار علماء الشافعية.
زواجها
تزوجت المحدثة زينب نجيب الدين محمد بن علي بن عمر الطوسي، وأنجب منها ولدين هما: المؤيد وبيبى، واشتغلوا بالعلم والرواية.
وكانت زينب تكتني بولدها المؤيد فيقال لها: أم المؤيد.
ولكنهما لم يكونا في مكانة أمهما وعلو كعبها([9]).
تلامذتها
يصيب الباحث الذهول إذا وقف على من تتلمذوا على يد الشيخة الجليلة بنت الشعري؛ لأنه سيرى كبار العلماء، وأساطين المحدثين، وسادة الزهّاد وأهل الحقيقة والقرّاء، والساسة والوزراء والسفراء، والذين طاروا بعلمها في الخافقين؛ فقد حدث عنها: ابن هلالة، وأبو بكر محمد بن نقطة، والزكي البرزالي، والضياء المقدسي، والحافظ العلامة شيخ الإسلام ابن الصلاح، والمرسي، وإبراهيم الصريفيني، ومحمد بن سعد الهاشمي، والصدر البكري، وابن النجار المؤرخ صاحب الذيل على تاريخ بغداد، والإسفراييني نزيل دمشق، وأحمد بن هبة الله بن أحمد بن عساكر الدمشقي، وكمال الدين بن طلحة الشافعي، ونجم الدين الرازي شيخ الطريقة والحقيقة، وصدر الدين أبو علي الحسن بن محمد المحتسب الصوفى سفير الدولة.
وأجازت لابن خلكان، وللحسن بن أبي عبد الله بن صدقة بن أبي الفتوح، وللإمام المحدث جلال الدين أبي إسحاق إبراهيم الماراني الكردي المصري، وغيرهم([10]).
علم القراءات
روت الشيخة بنت الشعري كتبًا في علم القراءات، وقد رواها عنها تلاميذها، منها: كتاب الغاية، والذي ألفه الأستاذ الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين بن مهران الأصبهاني ثم النيسابورى المتوفى سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة([11]).
من مروياتها الحديثية
عن زينب الشعرية بسندها أن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- خرج إلى المصلى يستسقي، وأنه لما أراد أن يدعو استقبل القبلة وحول رداءه([12]).
وبسندها إلى عبد الله بن مسعود أنه قال: ما سمعت مناشدًا ينشد حقًّا له أشد من مناشدة محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- يوم بدر جعل يقول: “اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إنك إن تهلك هذه العصابة لا تعبد.
ثم التفت كأن شق وجهه القمر فقال: “كأنما أنظر إلى مصارع القوم عشية“([13]).
وبسندها إلى عثمان t أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم: “أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه“([14]).
من مروياتها
وبسندها إلى أبي عبد الله الأنطاكي أنه كان يقول: إن أقل اليقين إذا وصل إلى القلب يملأ القلب نورًا، وينفي عنه كل ريب، ويمتلئ القلب به شكرًا، ومن الله خوفًا([15]).
وبسندها أن أبا محمد بن ياسين سأل ابن الجلاء عن الفقر، فسكت حتى خلا، ثم ذهب ورجع عن قريب، ثم قال: كان عندي أربعة دوانيق فاستحيت من الله أن أتكلم في الفقر، فذهبت وأخرجته، ثم قعد وتكلم في الفقر([16]).
الكذب عليها
من شهرتها في الرواية كان البعض يزور بعض السماعات وينسبها إليها؛ فهذا علي بن أميرك الخرافي المروزي، قد زور سماعات لزينب الشعرية، فافتضح وما تم له ذلك([17]).
وفاتها
كانت بنت الشعرية صالحة معمّرة مكثرة، حدثت أكثر من ستين سنة، توفيت في جمادى الآخرة سنة خمس عشرة وستمائة بنيسابور، ولها إحدى وتسعون سنة، وقد انقطع بموتها إسناد عال([18]).
([1]) سير أعلام النبلاء، (22/85).
([2]) تاريخ الإسلام، (11/907).
([3]) وفيات الأعيان، (2/345).
([4]) السابق، نفس الصفحة.
([5]) تاريخ الإسلام، (12/1146).
([6]) وفيات الأعيان، (2/344)، وانظر: سير أعلام النبلاء، (20/19، 71، 93، 109، 227).
([7]) سير أعلام النبلاء، (19/625، 20/35، 22/85-86)، وتبصير المنتبه بتحرير المشتبه، (2/661).
([8]) انظر: سير أعلام النبلاء، (21/65).
([9]) تاريخ الإسلام، (12/444).
([10]) انظر: سير أعلام النبلاء، (22/86، 290، 301، 23/55، 89، 126-127، 140-141، 258، 293-294، 312-313)، وتوضيح المشتبه في ضبط أسماء الرواة، (5/192)، وغاية النهاية في طبقات القراء، ص(64)، والوافي بالوفيات، (1/369، 400)، (2/484)، (4/156)، (5/496)، وذيل طبقات الحنابلة، ص(274)، وتذكرة الحفاظ، (4/1444)، ووصل بلاغات مالك لابن الصلاح، ص(9)، وطبقات الشافعية الكبرى، (8/32، 52-53)، وتكملة إكمال الإكمال، ص(33، 50).
([11]) النشر في القراءات العشر، (1/108-109)، وغاية النهاية في طبقات القراء، ص(64، 126).
([12]) تذكرة الحفاظ، (2/415).
([13]) السابق، (2/453).
([14]) السابق، (2/514).
([15]) بغية الطلب في تاريخ حلب، (1/270).
([16]) السابق، (1/425).
([17]) لسان الميزان، (2/193، 119).
([18]) انظر: سير أعلام النبلاء، (22/86)، وتاريخ الإسلام، (13/435)، والعبر في خبر من غبر، (1/246)، وديوان الإسلام، ص(46)، وتوضيح المشتبه في ضبط أسماء الرواة، (5/192)، والوافي بالوفيات، (5/16)، والنجوم الزاهرة، (2/190).