الحقوق والإنسانية والأخلاق تمهد الطريق إلى حوار الأديان والحضارات، وهي ملتقى المنظمات الدينية ومؤسسات المجتمع المدني والحقوقية.
ويلتقي مصطلح “حوار الأديان” بمصطلح “مؤسسات المجتمع المدني” أو “المؤسسات الحقوقية” في الحرص على رفاهية الإنسان وحقه وسعادته وتقديم الحياة الأمثل والسعيدة للإنسان. فلعل المنظمات الدينية تنطلق من التعاليم والإرشادات الدينية المطلقة، بينما تنطلق الأخرى من الإنسانية والفطرة، ومن ردات الفعل العملية تجاه الأزمات الواقعية. ففي الوقت الذي تتفق فيه هذه الأطراف على الإنسانية ومكافحة الأزمات ولو -نظريا- نجد مفارقات بينها في أمور ستأتي.
ويترتب من جماع ذلك أن يعرف حوار الأديان بأنه: تفعيل المبادئ الأخلاقية في الأديان لتعزيز السلم والتعايش والعيشة الكريمة، ونبذ العنف والإرهاب، والسعي لتكريس حياة كريمة بمكافحة الأزمات الإنسانية التي لا يرضاها الدين من اضطهاد وظلم وتمييز عنصري وغيرها.
قواعد علمية للتعامل مع المصطلحات
من الضروري البدء بتجاوز الأحكام المسبقة على المصطلحات المكوّنة لعنوان هذا المقال، وتجميد الحكم فيها بُرهة، ومن ثم إلقاء النظر على بعض القواعد العلمية التي ينبغي مراعاتها في التعامل مع المصطلحات، ومنها:
- لا مشاحة في الاصطلاح، إذ العبرة بالمعاني. وكل مصطلح استُحدِث بعد أن لم يكن لا يُنكرُ عليه بمجرد الاستحداث، بل يُقوّم معناه، فما وافق الدين عمل به وما لا فلا.
- الحكم على الشيء فرع عن تصوره: إذ التصور يَسبق التصديق. على سبيل المثال؛ لإصدار موقف متعلق بمصطلح “العقيدة” “الربوبية” “الربا” “الشيوعية” لا بدّ من معرفة مسبقة لمعاني هذه المفردات عند أهل الفن ومن وضع المصطلح.
- فاقد الشيء لا يعطيه، وإنك لا تجني من الشوك العنب. يترتب من القاعدة السابقة أعلاه، أن من لا يعرف هذه المصطلحات، ولا معانيها، لا يمكنه الحكم عليها حكما صحيحا وإن وافق حكمه الصواب اتفاقا وقدرا. الذي لم يقرأ عن علم “المقاصد” ولا يعرف معناه لا يمكن الحكم عليه، والذي لم يسمع بالغُبن والغرر وخيار الشرط وخيار المجلس لا يمكن أن يَصدُق حكمه فيها علميا.
- الأصل أن التعريف المعتمد يكون بالمنهج الوصفي لا المنهج النقدي: هناك بعض المصطلحات يوجد فيها مفهومان اثنان مختلفان من حيث المعنى. أو بعبارة أخرى يوجد في الحكم على بعض المصطلحات موقفان اثنان مختلفان لا يجتمعان. يجد المتتبع أن أحد المفاهيم قائم على المنهج الوصفي بينما الآخر قائم على المنهج النقدي. ويلاحظ أن النقد متراخ عن الوصف ومتأخر عنه. في هذه الحالة علميا يجب تبني المفهوم القائم على الوصف لدى التعريف، ومن ثم بيان الموقف الشخصي العلمي من هذا المفهوم إما قبولا وإما رفضا؛ يعني أصف الأمر أولا كما هو، ثم أنتقد.
يجدر الإشارة إلى أن نقدي لا يلغي المفهوم الأول، ولا يمكن أن يكون نقدي تعريفا جديدا للمفهوم السابق. إذ لكل مصطلح واضع ومُنشِئ، مثاله تعريف “الوسطية”، “التجديد” “التيسير” “مقارنة الأديان” “الفكر الإسلامي” إذا وُجد فيها تعريفان اثنان مختلفان تماما فالمنهج العلمي يقول لي أن أتبني التعريف الأول والأسبق وهو الذي يقوم ابتداء على الوصف، لا التعريف الثاني الذي يكون ردا ونقدا والذي يأتي غالبا كردة فعل للتعريف الأول القائم. هنا لا أتحدث عن التعريفات التي ترد من بعدُ شرحا وتفصيلا وتوضيحا للتعريف السابق، لا بل التعريف الذي يلد لهدم التعريف السابق كليا.
مفارقات بين مؤسسات المجتمع المدني والمنظمات الحقوقية وبين والهيآت الدينية
التقعيد والتأصيل أهم أحيانا من الحكم، إذا صح المعيار صحّ ما يتبع، والعكس بالعكس. ألفت النظر إلى بعض ما أجده من المفارقات:
- الجهات الدينية تهتم بالأصل وبما ينبغي أي “المثالية”، وقد يقلّ فيها الاهتمام العملي إذا حدث أو كثر نقيض الأصل الذي تدعو إليه، بينما المؤسسات المدنية ومنظمات حقوق الإنسان تنطلق من الواقع المظلم لإصلاح الحال، يعني: الدروس الدينية والخطب والمواعظ التي تكرّس ليل نهار أهمية حسن معاملة الزوج لزوجه، وقيام الآباء بواجب المسؤولية الشرعية تجاه أولادهما، وعدالة المجتمع في التعامل مع الناس من حيث تساوي الفرص، ونبذ العنصرية، ومحاربة الفقر والبطالة، والتعايش السلمي ..
لكن ماذا لو وُجد في المجتمع من خرج عن هذه الأمور، كيف يُصلح حاله، إلى أين يتجه، كيف يسترد حقّه الديني، وكيف تطبق هذه الدروس التي تخاطب في الأصل ضمير الإنسان؟ نجد أن المنظمات الدينية أقل حضورا في مقابل المؤسسات المدنية التي قد لا تكرّس نظريات هذه الأمور، لكن عندها ملفات بأرقام موضحة حالات اضطهاد المرأة، والعنف الأسري، والبطالة، والمهاجرين، والنازهين وغيرها، فأجد أن هذه مفارقة.
- المؤسسات المدنية ومنظمات حقوق الإنسان أقوى تأثيرا في الواقع من الهيئات الدينية، فهي التي أنهت مسمى العبودية –كلّيّا- رغم أن الأديان ضدها نظريا، وهي التي خرَجَت بمسمى حقوق الإنسان رغم أن الدين لم يأت إلا لإرشاد الإنسان ومنحه كامل حقوقه والموازنة بين حقوقه وحقوق الآخرين، وتعمل هذه المؤسسات على أرض الواقع لتعضيد هذه الأمور..
- أغلب هذه المؤسسات الدينية لا تنطلق من منظور ديني، بل منظور إنساني وفق الفطرة والعقل، ومع ذلك أحدثت ما أحدث، بينما المنظمات الدينية تنطلق من منظور ديني، ثواب وعقاب، جنة ونار، دنيا وآخرة. ومن هنا على قدر إحسان المنظمات الحقوقية والمجتمعية التي ترجع إلى فضل الفطرة والعقل؛ لها إساءات، لأنه لا سقف للحق عندهم، وإن تعلق بحق العامل، وحق الشذوذ.. فهذه مفارقة عند الكاتب.
حوار الأديان جمعٌ بين الحقيقة الواقعية وبين هذه المفارقات
في حين يرفض أكثر مؤسسات المجتمع المدني، ومنظمات حقوق الإنسان مبدأ الدين في الحكم واتخاذ القرار والقيادة، يسعى في الوقت نفسه إلى:
- إعطاء كل متدين حقه في أن لا يظلم في اتباع الدين الذي يراه واختاره، أو وُلد عليه على أقل تقدير إن لم يكن قد اختار دينه. ويسميه “الحرية الدينية” وحرية الأقليات الدينية..
- التعامل مع المنظمات الدينية والقادة الدينين في تحقيق ما يسعد به الإنسان، ويضمن به حقه، بتفعيل المبادئ والقيم الإنسانية في الأديان.
- التعاون مع الهيئآت الدينية في إحداث تغييرات داخلية ومجتمعية إقرارٌ بدور الدين وتأثير الخطابات الدينية على الفرد والمجتمع.
العلاقة العلمية بين هذه المنظمات المدنية، والمؤسسات الدينية هي أن بعض أعمال المؤسسات الدينية تعدّ من أعمال المؤسسات المــــدنية، والعكس بالعكس: فبعض أعمال المؤسسات المدنية تعدّ من أعمال المؤسسات الدينية.