حين تصل إلى الآية الحادية والسبعين من سورة الزمر، ومن بعد أجواء تشريف الأرض وإشراقها بنور ربها يوم القيامة، تبدأ أنت قارئ السورة تعيش مشهداً مستقبلياً، إذ إن الحديث عن المستقبل كما يعرفه الجميع، هو توقعات لما يمكن أن يحدث، باعتبار أن المستقبل غيب، ولا يعلم الغيب إلا الله.
لكن في القرآن يحدث العكس، حيث يشرح لك القرآن المشهد المستقبلي في تلك الآية على شكل حدث وقع وانتهى، على عادة القرآن الكريم حين يتحدث عن المستقبل بصيغة الماضي، وفي ذلك دلالة على أن هذا المشهد أولاً سيقع كما هو مصور ومكتوب فيه بدقة متناهية، وفي ذلك إعجاز لغوي عرفه العرب وهم أهل لغة، فلو لم يكن مستساغاً الحديث عن المستقبل بصيغة الماضي، لاعترض كفار قريش على الآيات هذه وما شابهها، لكنهم عرفوا أنه كلام لا يقوله بشر فعجزوا عن الإتيان بمثله، فضلاً عن الاعتراض عليه، ثم للدلالة أخيراً على أن مثل هذا العلم لا يملكه سوى خالق، ومثل هذا الكلام لا يقوله إلا خالق، ومثل هذا الوصف لا يوصفه إلا خالق.
وكيلا يضيع منا خيط الموضوع، نرجع إلى المشهد المستقبلي الذي أرغب في الحديث عنه اليوم، ونبدأ بالتساؤل ونقول: ما هو هذا المشهد؟، بعد أن تتكوّر الشموس وتُطمس النجوم وتُخسف الأقمار، ويعود الكون إلى ما كان عليه من ظلام دامس، تشرق أرض المحشر، ولكن بنور ربها، نور عظيم يضيء الأجواء يومها، من بعد أن يقوم الناس من مراقدهم المتنوعة، لتشرق تلك الأرض بالنور الإلهي، إيذاناً بتجلي الحق سبحانه وبدء مشهد القضاء بين الخلق.
يأتي كل إنسان معه كتابه، إما بيمينه أو شماله، ثم يأتي الله بالأنبياء والمرسلين، والشهود من الملائكة وغيرهم، ليشهدوا على ما يحدث في مشهد الفصل والقضاء (وأشرَقتِ الأَرضُ بنور رَبّهَا ووُضِعَ الكتابُ وجِيءَ بالنَّبيّينَ والشُّهَداء وقُضِيَ بَينَهُم بالحَق وهُم لا يُظلَمُون).
تقسيم الحشود إلى فريقين
بعد أن يقضي الله بين الناس بالحق، ويتعرف كل إنسان على نتيجته، وإلى أي فريق ينتمي، يبدأ المشهد التالي المنتظر، ضمن سلسلة من مشاهد يوم القيامة المتنوعة، والتي لا يعلم مدة كل مشهد سوى العليم الخبير سبحانه.
فريق أول كبير محتشد يتم تجميع أفراده بطريقة معينة، لتبدأ الملائكة الكرام بعدها تحريك تلك الحشود على شكل جماعات وفرق وأحزاب، تتحرك جماعة تتبعها أخرى باتجاه الموقع الذي بذل أنبياؤها ورسلها جهودهم وأوقاتهم في التحذير منه، لكن لم تكن هناك استجابة أو تفاعل إيجابي، فها هم اليوم يعيشون نتيجة صدودهم (وسيق الذين كفروا إلى جهنم زُمَرا) والعياذ بالله من جهنم.
ثم ماذا بعد؟
تصل الحشود تلك على شكل جماعات وأحزاب – كما أسلفنا – إلى أبواب جهنم السبعة (لكل باب منهم جزء مقسوم) ليجدوا خزنتها بالانتظار يسألونهم (أَلم يأتكم رُسُل منكم يتلونَ عليكم آياتِ ربكُم وينذرُونَكُم لقاءَ يومِكم هَذا)، فتكون الإجابة وقلوبهم حسرة وندم وألم أن (بلى). نعم، أبلغونا وأنذرونا وأقاموا الحجج والبراهين والأدلة على صدق ما نراه اليوم، ولكننا كنا أشقياء، كذّبناهم وعذّبناهم وقتلنا بعضهم واتخذناهم مادة للسخرية والتندر، وها هو المشهد يتحقق، وصدق الأنبياء والمرسلون، ها نحن اليوم في عميق الشقاء والبلاء، فاعترفوا بذنوبهم، ولات حين مناص.
يدخل فوج إلى جهنم، ليجد فوجاً آخر قد سبقه، تدخل جماعة، ثم تجد أخرى قد سبقتها، وهكذا في مشهد رهيب (كلما ألقي فيها فوجٌ سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير . قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير)، ثم يبدأ التساؤل بين بعضهم البعض (وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير) نعم، لو كنتم تسمعون وتعقلون ما كنتم فيما أنتم عليه الآن.
الوقت ليس للتعقل أو التفكر، هذا أمر فات أوانه، قد كان مطلوباً منكم ذلك في الدنيا، حيث عمل ولا حساب، لكن اليوم حساب ولا عمل، وهكذا حتى يختم الله المشهد بعد اعتراف أهل الكفر بذنوبهم وظهور نتائجهم النهائية، بقوله تعالى (فاعترفوا بذنبهم فسحقاً لأصحاب السعير)، ويا لها من نهاية بائسة مظلمة، هي حصائد أفعالهم وأقوالهم في حياة، كان لهم من الوقت والمال والصحة الكثير الكثير للحيلولة دون الوصول إلى هذه النتيجة (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور).
الفريق الثاني
ننتقل بعد ذلك في السورة نفسها، لنجد الفريق المقابل لذاك الذي تم دفعه وسوقه إلى جهنم، فريق آمن أفراده بأنبياء الله ورسله، وإن اختلفت درجات إيمانهم وأعمالهم، لكنهم أدركوا صدق الأنبياء وصدق رسالاتهم، آمنوا بما جاءوا به، وصدقوهم وعزّروهم ونصروهم واتبعوا النور الذي أُنزل معهم، وإن مثل هؤلاء، من تلك صفاتهم وتلكم كانت أعمالهم في الحياة الدنيا، فإنه لا شك أن النتيجة النهائية المتوقعة تسعدهم ولن يخيب الله ظنهم.
إذن هم بانتظار لحظة الحصول على السعادة الأبدية، ونيل الجائزة المنتظرة، ولكن قبل تلك اللحظة، يصور القرآن بداية كيف يكونون يومها بقوله تعالى (وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زُمَرا) أي جماعة بعد جماعة – كما قال ابن كثير في تفسيره – المقربون ثم الأبرار، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، كل طائفة مع من يناسبهم: الأنبياء مع الأنبياء والصديقون مع أشكالهم، والشهداء مع أضرابهم، والعلماء مع أقرانهم، وكل صنف مع صنف، كل زمرة تناسب بعضها بعضا.
ثم يتحرك الحشد الفائز على شكل جماعات وأحزاب وفرق، حتى يصل ذلكم الحشد الكبير إلى دار الخلود، جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين، لكنهم يصلونها وأبوابها ما زالت مغلقة، إنهم من فرط سعادتهم يريدون دخولها فور الوصول إليها، فكيف السبيل لذلك وأبوابها مغلقة؟، فيعلمون حينها بصورة وأخرى أنه لابد من أن يستأذن أحد خزنة الجنة، وحصول الإذن أو تصريح الدخول، فيتجه الناس إلى أولي العزم من الرسل، فلا يجدون من أعطاه الله شرف ذلك الأمر إلا عند نبي الرحمة محمد ﷺ ، القائل كما ثبت في صحيح مسلم: “آتي باب الجنة يوم القيامة فأستفتح، فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد. يقول: بك أمرتُ ألا أفتح لأحد قبلك”، ثم تُفتح أبواب الجنة الثمانية، ليدخلها الفائزون مستبشرين سعداء، في مشهد ثالث يصفه القرآن بقوله تعالى (حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين)
تستقبلهم الملائكة بالترحاب والتحايا، كل فرد معه مرشده من الملائكة ويُذهب به إلى مكانه المخصص، حيث السعادة الأبدية، التي لا شقاء ولا عناء بعدها أبدا، وتدخل عليهم الملائكة من ها هنا وها هنا للتهنئة بدخول الجنة – كما في تفسير ابن كثير – فعند دخولهم إياها، تفد عليهم الملائكة مسلّمين مُهنئين لهم بما حصل لهم من الله من التقريب والإنعام، والإقامة في دار السلام، في جوار الصديقين والأنبياء والرسل الكرام (سلام عليكم بِما صبرتم فنِعم عُقبى الدَّار).
خلاصة الحديث
أي عاقل منا لا شك أنه سيعمل لمثل تلك النهاية المبهجة وتلك النتيجة الباهرة، فمن منا لا يريد أن تتلقاه الملائكة بالسلام والترحاب؟ ومن منا لا يريد سعادة أبدية لا شقاء بعدها أبداً؟ ومن منا لا يريد أن يفوز بالجنة ويبعده الله عن النار؟، لا شك أنه لا أحد منا يرغب في غير ذلك، لكن تلك النتيجة تحتاج إلى عمل دؤوب مستمر لا ينقطع، كما يعرف ذلك كلنا، ونحن نسعى للنتائج الدنيوية الباهرة في أي عمل، أليس إن أراد أحدنا النجاح وتحقيق إنجاز، يعمل ويجتهد في عمله، ويستمر بالعمل، ثم العمل، ثم العمل، ولكن بشكل صحيح؟.
إنه المنطق نفسه مع الأعمال المطلوبة المقربة للجنة، عمل مستمر صحيح، ونية خالصة لا يشرك أحدنا مع الله فيه أحداً أو شيئاً.. اعمل إذن حتى تنال رضا الله، فإن رضي عنك، فقد فزت فوزاً عظيماً، وقد جاء في الحديث المتفق عليه، أن رسول الله – ﷺ – قال: إن الله يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك وسعديك، والخير في يديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تُعطِ أحداً من خلقك؟ فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: يا رب، وأي شيءٍ أفضل من ذلك؟ فيقول: أحلّ عليكم رضواني، فلا أسخطُ عليكم بعده أبداً، وتلكم هي الجائزة المنتظرة، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، جعلني الله وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.