إن الحكم على أبي لهب بواسطة الوحي وتخصيص سورة عنه قد تعتبر من ضمن المعجزات ذات الأبعاد العميقة في الدعوة، وذلك لما سيترتب عنه من نشر لها بواسطة العدو نفسه، والذي سيكون بشدة غضبه وانفعاله ومعارضته مثيرا لانتباه الآخر ودعوته إلى التحقيق وتمحيص الأمر حتى قد جاء الأمر على غير ما كان يتمناه ومن ثم كان تدميره في تدبيره.
فعن ربعي الديلي وكان جاهليا فأسلم قال: رأيت رسول الله ﷺ في الجاهلية في سوق ذي المجاز وهو يقول:” يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا” والناس مجتمعون عليه، ووراءه رجل وضيء الوجه أحول ذو غديرتين يقول: إنه صابئ كاذب. يتبعه حيث ذهب، فسألت عنه فقالوا: هذا عمه أبو لهب“[1].
وفي رواية أخرى قال: رأيت رسول الله ﷺ بذي المجاز يتبع الناس في منازلهم يدعوهم إلى الله، ووراءه رجل أحول تقدّ وجنتاه وهو يقول: أيها الناس لا يغرنكم هذا عن دينكم ودين آبائكم. قلت: من هذا ؟قيل: أبو لهب”.
بين أبي لهب وأبي طالب تختلف المواقف والمتاعب
فلقد كانت السورة تحديا واستفزازا لأبي لهب، والمستفَز يكون من طبعه أن يمعن في الرد والمعارضة بأقصى وأقسى ما لديه من مساءة وقوة، وذلك طمعا منه في رد الاعتبار ومحاولة عدم السقوط والانهيار.
أما وإنه آيل للسقوط والهوي السحيق لا محالة فإنه عندئذ سوف لن يترك مشجبا أو خيطا يعلق عليه أو يتعلق به إلا وأمسك به وحاول جذبه إلى مقامه ليسقط معه ومن حوله في يأس ما بعده منه وإفلاس ما وراءه من متراس.
فكما يقول محمد رضا: ” وقد أغضبت هذه السورة أبا لهب فأظهر شدة العداوة وصار متهما فلم يقبل قوله في رسول الله ﷺ فكأنه خاب سعيه وبطل غرضه”[2].
وفي الجانب الآخر سيكون أبو طالب عم النبي ﷺ وكفيله بعد جده عبد المطلب، والذي نال من بركته ما قد نال وحظي بصحبته وقربه أسمى حظوظ من أهمها ما كان من إخبار بحيرى إياه عن بشائر نبوته ﷺ وفضله على العالمين.
لكن أبا طالب هذا مهما كان حدبه وحمايته للنبي ﷺ إلا أنه سيبقى دائما في صف المعارضة مع أنها قد كانت في بعدها ذات إيجابية لحد ما بالنسبة إلى الدعوة الإسلامية ومسارها وموقف قريش من الرسول ﷺ وموقفه منهم.
وهنا قد تتداخل ازدواجية المواقف في التعامل مع الدعوة وحقيقة الدين، وأيضا ثنائية المعارضة والتأييد الصادرين من بيت واحد وعائلة وقرابة واحدة، كما أنه سيبدو الاعتدال والتطرف منبسطا بين هذين الجناحين بكل وضوح.
فأبو لهب قد كان يمثل التطرف بكل معانيه ومحمولاته، تطرفا في المعارضة والإيذاء والقطيعة والتحدي، كموقف مثير ومؤثر ومحفز ومستفز للآخر، إما بسلوك نفس المطب والهوي الفظيع وإما بعكسه على نفس المستوى من الحدة توازيا، أي التشبث والتسليم للمعترض عليه تبكيتا وضدا على تطرف المعارض، مما سيؤدي إلى تسريع تنامي ظاهرة المعارضة المتطرفة أو التأييد المطلق بالرغم مما سيترتب عنه من مصاعب ومتاعب.
وهكذا كان الأمر بين أبي لهب المتطرف ومن سار على حافة جرفه وبين أبي طالب المعتدل ومن اختار سبيله، بالرغم من توافق ظاهري وتقليدي بين الفريقين على مستوى الاعتقاد والشرك الموغل في براثن الوثنية المقيتة والمهلكة.
هذه النقطة بالذات ستجعل أبا طالب في صف المعارضة الضمنية، التي أظهرته بلباس المتناقض والمكبل باعتقادات الجماعة ودين الآباء والأجداد في مسلكهم الضال، في حين أنه لم يستطع الخلاص من هذه القيود والولوج إلى عالم الحرية وسعة الدين الصحيح مركز السعادة والنجاة، دين التوحيد الخالص الذي بعث الله به خاتم النبيين والمرسلين سيدنا محمد ﷺ.
ومع هذه الحيرة و التجاذبات فقد بقي أبو طالب شهما في مواقفه وفيا لابن أخيه وصاحبه ومن كان بالأمس القريب تحت كفالته.
أبو طالب والموقف الشجاع ولو من غير اتباع
هذا الدعم وهذه الشهامة، بالرغم من التناقض لديه بين المعتقد والموقف ومتطلباته، سيتجلى بوضوح في هذه المحطة الفارقة والحاسمة بينه وبين قومه، وأيضا بينه وبين ابن أخيه حينما قالت له قريش:”إما أن تكفه أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين، ثم انصرفوا فعظم على أبي طالب فراق قومه ولم يطب نفسا بخذلان ابن أخيه “[3].
فلما تم عرض هذا الخيار المر والمفصلي في تحديد العلاقات بين أبي طالب وبين ابن أخيه لما قال له: “إن قومك قد جاءوا وقالوا كذا وكذا، فابق علي وعلى نفسك ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق أنا و لا أنت، فاكفف عن قومك ما يكرهون من قولك.
فظن رسول الله ﷺ أن قد بدا لعمه فيه، وأنه خاذله ومسلمه، وضعف عن القيام معه، فقال رسول الله ﷺ:”والله يا عم لو وضعت الشمس في يميني والقمر في يساري ما تركت هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك في طلبه” ثم استعبر رسول الله ﷺ فبكى.
فلما ولى قال له حين رأى ما بلغ الأمر برسول الله ﷺ:يا ابن أخي؟ فأقبل عليه، فقال: امض على أمرك وافعل ما أحببت، فو الله لا أسلمك لشيء أبدا. . . “.
يقول ابن كثير: “في ذلك دلالة على أن الله عصمه بعمه مع خلافه إياه في دينه، وقد كان يعصمه حيث لا يكون عمه بما شاء، لا معقب لحكمه. . . “[4].
لهذا السبب قلنا بأن أبا طالب قد كان يمثل جناحا معارضا ولكن بوجه آخر غير المعارضة النفسية المتنافسة أو المتعنتة والقائمة على الإكراه المادي والبدني في التصدي للدعوة، بحيث سيؤثر على تبعاتها الروحية ونتائجها السلبية كحكم عام على باقي المشركين، والمتمثلة بالنهاية في تخفيف العذاب عنه بالرغم من شركه ظاهرا وموته عليه كما أشارت إليه الروايات الصحيحة.
ومن يدري فقد ورد في كتب السيرة أن آخر ما قاله بأنه “على ملة عبد المطلب“[5]، في حين تقول بعض الروايات بأن عبد المطلب قد لجأ في آخر حياته إلى عقيدة التوحيد حيث: “انتهت إليه الرياسة بعد عمه المطلب، وكان يأمر أولاده بترك الظلم والبغي، ويحثهم على مكارم الأخلاق، وينهاهم عن دنيات الأمور، ورفض عبد المطلب في نهاية عمره عبادة الأصنام ووحد الله. . . وكان يكرم النبي ﷺ ويعظمه وهو صغير ويقول: “إنلابني هذا لشأنا عظيما” وذلك مما كان يسمعه من الكهان والرهبان قبل مولده وبعدهّ. . . “[6].
وإذا كان الأمر هكذا وبحسب هذه الوصلة بين الخطابين والنتيجة التي آل إليها أبو طالب من جهة تخفيف العذاب عنه فإن ذلك كان بأنه لم يشهد برسالة النبي سيدنا محمدﷺ وليس مشركا بكل ما تحمل كلمة شرك من عمق وتوافق بين الظاهر والباطن، فكان عذابه مخففا، أخف من عذاب المشركين الذين هم في الدرك الأسفل من النار، لأن الشرك يبقى شركا مهما تخلله من أعمال وتأوله المتأولون من تأويلات، والله أعلم.
وإنه لحوار الشجعان هذا الذي دار بين الرسول ﷺ وبين عمه، فيه المصارحة والاستعداد الكلي للمصارعة والمواجهة لا خيار آخر غيرها، كما أنه قد مثل نقطة حاسمة في اتخاذ القرار.
فالرسول ﷺ في الصمود واستمرار الدعوة من غير التفات لمعارض أو تلكؤ و تردد ومجاملة من أجل انتظار إقناع الآخر والتماس رضاه، والعم أبو طالب في المساندة والتأييد ولو أدى الأمر إلى الصراع المرير والعام مع الكتلة المعارضة من قومه، إذ العلاقة هنا علاقة مبادئ والتزام بحلف الفضول الذي طبع سلوك بني هاشم جلهم في مسارهم التاريخي ونزعتهم السيادية لا السادية، وعلى أساس الأخلاق والقيم كان على رأس قائمتهم وفي مقدمتهم وكذا قائمة كل الكائنات سيدنا محمد ﷺ.
حتى قد ينسب إلى أبي طالب هاته الأبيات المعبرة شعرا وأدبا عن عمق تقديره لشخصية ابن أخيه وما بعث به من دين وما هو عليه من فضائل:
والله إنهم لن يصلوا إليك بجمعهم
حتى أوسد في التراب دفينا
فامضي لأمرك ما عليك غضاضة
أبشر وقر بذاك منك عيونا
ودعوتني وعلمت أنك ناصحي
فلقد صدقت وكنت قدم أمينا
وعرضت دينا قد عرفت بأنه
من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذارى سبة
لوجدتني سمحا بذاك مبينا[7]
[1] ابن كثير: السيرة النبوية ج1 ص462
[2] محمد رضا: محمد ﷺ ص 87
[3] محمد الخضري بك: نور اليقين ص49
[4] ابن كثير: السيرة النبوية ج1ص464
[5] جزء من حديث رواه البخاري في مناقب الأنصار
[6] محمد رضا: محمد ﷺ ص16
[7] ابن كثير: السيرة النبوية ج1ص 464