من المسائل المهمة المتعلقة بالعلم والعلماء، من حيث إنهم يمثلون ركيزة أساسية في البناء الحضاري لا يمكن الاستغناء عنها؛ هي المسألة المتصلة بالدور الاجتماعي للعلماء، وبأثرهم في محيطهم، وتأثيرهم على عصرهم وأحوالهم.
والحديث عن هذه المسألة يقتضي أن نقف أولاً مع مفهوم “العلماء” الذين نقصدهم، ومع مفهوم “الدور الاجتماعي” الذي نتحدث عنه.
أما “العلماء” المقصودون بالحديث هنا، فهم كل المشتغلين بالعلم، أيًّا كان هذا العلم، متصلاً بأمور الدين أم الدنيا؛ فهو مفهوم أشمل من علماء الدين أو العلم الشرعي، وأشمل أيضًا من دائرة الأكاديميين؛ ليشمل كل من يشتغل بالعلم على اختلاف مجالاتهم وتخصصاتهم.
وأما “الدور الاجتماعي” المقصود فهو التأثير المتصل بحركة المجتمع، وبالقدرة على توجيهها وإفادتها وتصحيح مسارها؛ سواء كان ذلك من خلال التأثير المعنوي مثل نشر الوعي وتعميم الكلمة النافعة، أو من خلال التأثير المادي مثل تكوين جميعات عمل الخير أو الخدمة المدنية أو العمل التطوعي.
العلماء ليسوا فئة منعزلة
ومن أهم ما يتأسس عليه الدور الاجتماعي للعلماء أن ندرك أن العلماء ليسوا فئة منعزلة عن المجتمع في صوامع أو جزر أو أبراج عاجية. إنهم من المجتمع ويخاطبون المجتمع، ويتماسّون مع حركته، ويتفاعلون مع تغيراته ونوازله.
وحضارتنا الإسلامية لم تعرف تلك الطبقة المشتغلة بالعلم المنعزلة عن محيطها، بل في عهود مبكرة منها لم يكن العلم وظيفة تدر دخلاً بحيث ينقطع لها البعض. ومن يطالع سير العلماء في هذه العهود المبكرة يرى أكابر العلماء يشتغلون بالتجارة وغيرها، ويتخذون من مِهَنهم ألقابًا يُعرفون بها؛ مثل الإمام أبي حنيفة الذي كان يعمل بالتجارة، ومثل ألقاب: القَزَّاز، الفرَّاء، الحدَّاد.
ولهذا قال ابن الجوزي وهو يُعدّد نصائحه لمن سماه “العاقل”: “وينبغي له أن يجتهد في التجارة والكسب، لِيَفْضُلَ على غيره، ولا يَفْضُلُ غيره عليه، وليبلغ من ذلك غاية لا تمنعه عن العلم” (صيد الخاطر، ص: 174). فابن الجوزي ينصح العاقل بأن يجتهد في إعفاف نفسه بالمال الحلال من التجارة، على ألا يشغله ذلك عن طلب العلم.
فالعلم في الموقف الصحيح ليس مدعاة للانعزال، بدعوى التخصص والتفرغ؛ وذلك لأمرين أساسين:
الأول: أن العلم من حيث مضمونه؛ ليس شيئًا نظريًّا يتفاعل بعيدًا عن واقع الناس، سواء العلم الشرعي أو الاجتماعي أو حتى العملي.
الثاني: أن العلم من حيث غايته؛ إنما يخاطَب به المجتمع، ويُراد منه أن يكون أحد الموجِّهات والمرشِّدات لحركة العمران والتطور الحضاري.
والقرآن الكريم واضح الدلالة في بيان أن العلم ليس مفصولاً عن الدعوة، أو “الإنذار” بتعبير الآية الكريمة؛ قال تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (التوبة: 122).
قال البيضاوي: “{وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً}: وما استقام لهم أن ينفروا جميعًا لنحو غزو أو طلب علم، كما لا يستقيم لهم أن يتثبطوا جميعًا؛ فإنه يخل بأمر المعاش. {فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ}: فهلَّا نفر من كل جماعة كثيرة كقبيلة وأهل بلدة جماعة قليلة. {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ}: ليتكلفوا الفقاهة فيه ويتجشموا مشاق تحصيلها. {وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ}: وليجعلوا غاية سعيهم ومعظم غرضهم من الفقاهة، إرشاد القوم وإنذارهم. وتخصيصه بالذكر؛ لأنه أهم. وفيه دليل على أن التفقه والتذكير من فروض الكفاية، وأنه ينبغي أن يكون غرض المتعلم فيه أن يستقيم ويقيم، لا الترفع على الناس والتبسط في البلاد” (تفسير البيضاوي، 3/ 102).
العمل الاجتماعي ساحة مفتوحة
الأمر الآخر الذي يتأسس عليه الدور الاجتماعي للعلماء هو أن العمل الاجتماعي ساحة مفتوحة؛ ثرية عظيمة الثراء، واسعة شديدة الاتساع. ولهذا، فالعمل الاجتماعي:
– أعم من العمل السياسي: الذي يختص بطريقة الحكم ومعادلاته. وبينما العمل السياسي غايته المشاركة في الحكم، وتمكين طائفة ما، أو فكرة ما؛ فإن العمل الاجتماعي غايته الارتقاء بالمجتمع عامةً، وتمكين الإنسانِ كلِّ الإنسان؛ فهو عمل أخلاقي وإنساني بالدرجة الأولى.
– وأعم من دور الدولة: الذي يختص بمجموعة من الوظائف والخدمات الأساس للفرد والمجتمع، وقد لا تتوافر الإمكانات لتغطية ذلك بصورة شاملة. بينما العمل الاجتماعي يأتي متكاملاً مع هذا الدور الأساس للدولة وأجهزتها، ويأتي أيضًا أكثر قدرة على استنهاض الطاقات التطوعية، وعلى حث جميع أبناء المجتمع على البذل والعطاء.
فالعمل المجتمعي لا يُغني عنه دورُ الدولة، والعمل التطوعي يظل متمتعًا بالكثير من الخصائص والسمات التي تمنحه القدرة والفاعلية والمبادرة والإنجاز؛ وذلك بخلاف طبيعة مؤسسات الدولة التي قد تُكبَّل بإجراءات بيروقراطية، أو تصاب بالتكلس وعدم السرعة والفاعلية.
آفاق الدور الاجتماعي
وإذا استقام لنا هذا التوضيح عن أن العلماء ليسوا فئة منعزلة عن المجتمع، وأن العمل الاجتماعي ذو ساحة مفتوحة واسعة؛ فيمكن أن نشير إلى بعض آفاق هذا الدور الاجتماعي للعلماء في هذه النقاط:
- تنظيم محاضرات وندوات عامة مختلفة التخصصات، تهدف إلى نشر المعرفة وتوسيع رقعتها، وإلى التفاعل مع الواقع الاجتماعي بما يعود بالنفع على العلماء والباحثين أنفسهم، ويجعلهم أكثر قدرة على تصور طبيعة المجتمع وما يعتريه من تغيرات.
- المشاركة في جميعات عمل الخير: التي تقدم المساعدة للمحتاجين، وترعى الفئات الضعيفة في المجتمع- مثل الأيتام، وذوي الاحتياجات الخاصة- وتبادر في الأزمات والكوراث إلى دور إغاثي مهم.
- مساعدة الشباب بتنمية معارفهم ومهاراتهم: مثل تقديم محاضرات ودورات عن الحياة الزوجية وبناء الأسرة، أو سوق العمل ومتطلباته.
- المشاركة في حملات خدمة المجتمع: مثل حملات محو الأمية، أو النظافة والتشجير، أو التوعية بأخطار المخدرات، أو التنبيه لكيفية الاستفادة من وسائل التكنولوجيا والتحذير من أضرارها خاصة على الشباب.
- التفاعل مع قضايا الأمة من زاوية توعوية واجتماعية، بما يكفل توضيح أبعادها المعرفية والتاريخية والإلمام بتطوراتها، كما في قضية فلسطين. فضلاً عن المشاركة في حملات التبرع بالمال أو الجهد والخبرة كما يحدث في قوافل الأطباء، لفلسطين أو لأماكن الزلازل والفيضانات.
المهم أن يكون لطبقة العلماء بمختلف تخصصاتهم دور اجتماعي تطوعي.. ينبع من المسئولية الاجتماعية.. ويهدف إلى خدمة المجتمع.. ويبتغي الأجر من الله تعالى..
ولعلنا نختم بهذين الحديثين الشريفين اللذين يفتحان لنا آفاقًا من العمل التطوعي، المطلوب من المجتمع ككل، فضلاً عن العلماء.
عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ، وَأَمْرُكَ بِالمَعْرُوفِ وَنَهْيُكَ عَنِ المُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَإِرْشَادُكَ الرَّجُلَ فِي أَرْضِ الضَّلَالِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَبَصَرُكَ لِلرَّجُلِ الرَّدِيءِ البَصَرِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَإِمَاطَتُكَ الحَجَرَ وَالشَّوْكَةَ وَالعَظْمَ عَنِ الطَّرِيقِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَإِفْرَاغُكَ مِنْ دَلْوِكَ فِي دَلْوِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ” (أخرجه الترمذي في سننه، وصححه الألباني).
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ؛ عِلْمًا عَلَّمَهُ وَنَشَرَهُ، وَوَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ، وَمُصْحَفًا وَرَّثَهُ، أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ، أَوْ بَيْتًا لِابْنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ، أَوْ نَهْرًا أَجْرَاهُ، أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِي صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ، يَلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ” (رواه ابن ماجه والبيهقي، وحسنه الألباني).
فهذان الحديثان يفتحان الآفاق أمام العمل الاجتماعي الذي يعم نفعُه للنفس وللآخرين، ويستمر حتى بعد موت صاحبه.. وما ورد فيهما من أمثلة إنما هي نماذج تدلنا على نظائرها مما يستجد مع كل مجتمع وعصر.
ولا شك أنه بقدر ما يكون للمرء من إمكانات وطاقات، مثل فئة العلماء؛ فإن مساحة العمل الاجتماعي أمامه تكون أكثر انفساحًا وأعظم تأثيرًا..