التوفيق بين الدين والعلم، أحد مسارات حركة الفكر الإسلامي إبان النهضة الأوروبية، والاحتكاك العنيف مع مشروعها السياسي والتغريبي على العالم – بصفة عامة – والعالم الإسلامي بصفة خاصة. واتخذ هذا الاتجاه –التوفيق بين الدين والعلم- عدة وجوه منها: النزعة التأصيلية لموقف القرآن / الإسلام من العلم، ومظهره: البحث في آيات  العلم / والطبيعة وما يرتبط بهما وإبرازهما في الكتابات والنتاجات الفكرية، وكذلك البحث في الأحاديث النبوية التي ترتبط بذات الموضوع، كما ظهر في “الإسلام والمدنية” محمد فريد وجدي.

أما الوجه الثاني لهذا المنحى فتمثل في دفع التفسيرات العلمية للقرآن الكريم إلى حد المبالغة والاعتساف (كما في تفسير طنطاوي جوهر وتفسير سورة الفيل عند محمد عبده).

والوجه الثالث: ظهر في مرحلة الردود على مزاعم “التغريبيين” و “المتغربين” التي كانت تقدح في الإسلام وتصفه بأن من عوامل تخلف المسلمين وترد إليه حالة الجمود الفكري والخرافة التي سادت العالم الإسلامي آنذاك.

وكان هذا الوجه الأخير “مرحلة الردود” بمثابة تأسيس “لعلم كلام إسلامي” جديد في العصر الحديث يحاول الإجابة / والرد على مزاعم الحركة التغريبية (الاستشراق والتبشير) والمتشبهين بهم من المسلمين (المتغربين).

وتتناول هنا أحد كتابات هذا الاتجاه التي جاءت تحت عنوان “الدين والعلم” الذي ألفه بالتركية أحمد عزت باشا(1855-1924) أحد رجالات الدولة التركية، ونقله إلى العربية حمزة طاهر.

منهجية كتاب “الدين والعلم”

تتعلق منهجية “الدين والعلم” بدوافع الكاتب نفسه التي دفعته لإنجاز هذا الكتاب المهم في توقيته، وأظن – أيضًا – أن أهميته تنسحب على بعض ظواهر عصرنا الحالي في أمتنا، – كما سيتضح لاحقًا – فسبب  تأليف الكتاب كما يوضحه – المؤلف – في مقدمته، هو حالة “تنازع الملل والنحل التي كانت تعيش في الدولة العثمانية، ويُرى من الناشئة التي تدعىّ لنفسها التنور، اشتداد العداء نحو الدين  باسم “اللاديني” والاستمساك بنظريات الإلحاد والإنكار[1].

ومن هنا جاءت منهجية الكتاب. تحاول تحقيق هدفين رئيسين هما: الأول، إثبات كون الدين لا ينافي العقل أو الحكمة، والعلم والمعرفة، والثاني: معرفة الله بمعرفة آثاره في الخليقة، وما تحتويه من عظمة غير محددة.

ومن هنا – أيضًا – جاءت منهجية الكتاب – تحدها المعالم التالية:

1- ربط المعقولات بالكونيات في إثبات ومعرفة وجود الله.

2 – الاستفادة من المكتشفات العلمية في بيان إعجاز القرآن. (والحقائق العلمية المقطوع بصحتها).

3 – بيان الحقيقة الاجتماعية للإسلام والقيمة الاجتماعية للقرآن والسنة النبوية.

4 – التعريف بالمذاهب: الفلسفية التي ينتمي إليها أصحاب المزاعم ومناقضتها للعقل والنقل في التصورات الفكرية بل ومخالفتها للحقائق العلمية ذاتها.

5 – بيان الأغاليط التي اعتمدتها المذاهب الفلسفية القديمة والمعاصرة وتفوق الإسلام عليها.

6 – المنهج المقارن بين الإسلام وغيره من الأديان في مناقشة بعض القضايا الكونية.

7 –  بيان أن الحقيقة الدينية غير مغايرة العقل والحكمة، وأن بعض الاختلافات الدينية نجم عن عدم إدراك العظمة الإلهية كما يليق بها.

أقسام الكتاب

ينقسم الكتاب إلى أربعة أبواب رئيسة، الباب الأول: يتناول العقائد متضمنة على طريقة المقارنة المنظور الإسلامي مع المنظور الفلسفي اليوناني والغربي المادي الحديث، ورد مزاعم الماديين على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وباقي العقائد الدينية مثل: اليوم الآخر، والبعث والنشور، والقدر،…

أما الباب الثاني فيتضمن أركان الإسلام: الصلاة، الزكاة، الحج، ومقارنة الإسلام مع سائر الأديان وبيان تميز ورجحان الإسلام. والباب الثالث فهو رد على الماديين في مسائل : الغيب، والمعجزات كالإسراء والمعراج، والقرآن، ومبادئ الإسلام.

ويأتي الباب الرابع: عبارة عن كلمة يوجهها المؤلف إلى الداخل الإسلامي بخاصة إلى الفرق الإسلامية التي اشتد العداء بينها وأصبحت ثغورًا يدخل أعداء الملة منها إلى الإسلام لينالوا منه من خلال اختلافاتهم الكلامية والتأويلية، وتضمنت هذه الكلمة –أيضًا- دعوة  إلى تهذيب الاختلافات والاتفاق على الأصول الجامعة والالتفاف حولها. ويحذر في هذا الصدد بقوله “…إذا ظل سالكو المذاهب المختلفة في حنق مستمر، فإن خصومنا سوف ينهضون للاستفادة من هذه الحالة”[2].

مادية الثواب الأُخروي

         من الطعون الموجهة للقرآن-والتي جاءت ضمن ثبت الردود- تأكيد القرآن على الطبيعة المادية للجزاء الأخروي، بل في صورة إشباع شهوات –أيضًا-، حيث أشار إلى الحور العين، والطعام والشراب والأرائك المريحة وهكذا… مما اعتبره الطاعنون نقصًا أو قصورًا فيه.

أما الرد الذي جاء به الكتاب، فهو أن الجزاء والثواب يكون من طبيعة التضحية أو الاحتياج للإنسان الذي امتثل وصبر وجاهد في سبيل طاعة الله تعالى وقت نزول القرآن في متابعة الحوادث التي أحاطت بوقت النزول.

“إن القرآن يخاطب جمهور الناس، وليس طبقة أو نخبة من الناس بعينها – وكان السواد الأعظم من المخاطبين وقت نزوله يطلبون الماء من السّراب، ويتحسرون على الحضارة طول العمر، ويحاولون وقاية أنفسهم من حرارة الشمس، وبرودة الليل، بالكهوف والأخبية، ويئدون بناتهم تقربًا إلى آلهتهم، زاعمين أنهم يحبون النساء. وجزاء الإنسان نيل مرامَهُ  ومآربه، فماذا يكون التعويض لمن منع عنه نعيم الدنيا، غير أنهار الجنة وأشجارها الوارفة الظل، وشراب الكوثر، والقصور والحور والغلمان؟ فماذا يتصور سكان بريطانيا ويوميرانيا من قرى أوروبا المتمدينة في هذا العصر، لذة ونعيمًا أكثر مما ذكر للبدو من الأعراب منذ أكثر من ثلاثة عشر قرنًا؟!.ثم إن اللطائف الأخروية التي يعسر على الناس فهمها بعقولهم الدنيوية يفهمونها تشبيهًا”.

كما لم يقتصر القرآن على ذكر الثواب الأخروي في جانبه المادي فقط، بل ذكر قسما أخر لا يقل عنه في التكرار والمساحة وهو الجانب المعنوي “فقد بشر خواص الأمة بأن رضوان الله فوق كل نعيم { وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ } [التوبة / 72]، وأن النفس لا تدري – فوق ما تقدم – ما أخفى لها من نعيم وملاذ خفية {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[السجدة / 17] فالآيات المبينة لثواب الآخرة تبشر كل امرئ بنيل ما يراه غاية للسعادة. فخواص الأمة يفهمون منها ما يتصورونه من نعيم علوي في الآخرة. والأمنية الأخروية الأعلى عند المسلمين هي تجلي نور جمال الله[3].

وهكذا يصنف – الكاتب – مستويات تناول الثواب الأخروي في القرآن بما يتناسب مع الحاجة البشرية المادية والمعنوية وبما يتلاءم في الوقت ذاته  مع الطبيعة البشرية للإنسان التي تحمل في باطنها الجانبين معًا: الجسد (المادة) والروح (المعنويات).

الإسلام والترقي

         ومن الطعون التي حاول “التغريب” و”المتغربون” ترديدها “هو أن الإسلام مانع للترقي والتحضر والحضارة”، ويصف الكاتب هذا الطعن بأنه “جدُ غريب، فالأوامر الإلهية والسنن النبوية، مرغبة في السعي والجهاد، مانعة من العطل والكسالة، ومؤثرة للأغنياء الشاكرين، على الفقراء الصابرين، كقوله تعالى {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ }[الأنفال/60] وقوله جل شأنه {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر/9] وقوله {وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص/77]، وقوله – صلى الله عليه وسلم “الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها” و”طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة”.

وينفي الكاتب أن يكون حال المسلمين حاكمًا على الإسلام وعلى طبيعته المؤثرة للترقي والمدنية، فحالة المسلمين “إنما نشأت من طروء الفساد على نظمهم القديمة”[4].

إن المسلمين لم يطوروا أنفسهم ونظمهم واستكانوا للتقليد والجمود وتوقف إبداعهم العقلي عن تطوير أحوالهم ونظم معيشتهم. لهذا رضوا بالاستكانة والفقر الحضاري والمادي، وهو ما يخالف طبيعة هذا الدين، الذي يحارب الفقر بكافة أشكاله، فكان – صلى الله عليه وسلم- يستعيذ من الفقر والعيلة” إن غايات الدين هي أمن الناس وسعادتهم، وسطوة الأمة وقوتها”[5].

القرآن والكشوف العلمية

من المطاعن التي أشار إليها الكتاب – أيضًا – هو أن هناك عددًا من الآيات لم تفهم وقت نزولها ولم يتمكن أحد مما أنزلت فيهم تفسيرها، كقوله تعالى  {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا}[يس/38] و{كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}[الأنبياء/33].

ويجيب الكاتب بقوله: الحقيقة أن بعض مدلولات القرآن، لا تزال غير معلومة، وغير ثابتة ثبوتًا قاطعًا حتى اليوم… فعلى سبيل المثال مقدار زمن “يوم” الخلقة؟ لقد استعملت كلمة “يوم” مصطلحًا لعهد تاريخي، فتركيب أيام العرب يدور في الألسن على هذا المعنى فإذا تم تناوله من الناحية العلمية فمعنى اليوم دور بالقياس إلى الأرض”. لقد ثبت اليوم بألة التصوير خمسمائة مليون من الثوابت على صفحة السماء، ويقدر عدد نجوم المجرة بمليار وخمسمائة مليون من نجم ومدادُ أدوارها وأيامها مختلفة، فليس ثمة سبب لقياس مقدار ملك الخليقة بمقياس الأرض ومساحتها. فيوم الخلقة على هذا أهو دور من أدوار المجرات التي تدور مليارات السنين؟ أم لحظة غير منقسمة لدورة  ذرة من ذرات الإيدروجين الكهربية حول البروتون؟ ولا فرق بين هذين الزمنين بالنسبة إلى الأبدية.

وهكذا أوضحت الكشوفات العلمية مدلولات واسعة لألفاظ “السماء” و”اليوم” و”الأرض”… وقياسًا على ظهور الحقائق الفرقانية مع الترقيات العلمية الأخيرة، واعتراف عالم المدنية ببعض الآيات القرآنية، يحكم بأن حقائق هذه الآيات سوف تنكشف واحدة واحدة مع مرور الزمان، ويتجدد إعجاز القرآن مستمرًا مادامت القرون “كل يوم هو في شأن”.

خاتمة

كتاب “الدين والعلم” من الكتب المهمة التي أدعو القارئ الكريم إلى قراءتها، لاسيما في ظل صحوة تيارات الإلحاد ومحاولة غزو عالمنا الإسلامي بها، والتي أصبحت أكثر مؤسسية من ذي قبل، مع ضعف اليقين في المشروع الإسلامي الذي مني بالهزيمة أو الفشل في أكثر من مكان في داره وداخل بيته، فالحاجة الحضارية تظهر ضرورة التعامل العقلي مع الظاهرة الإيمانية في الداخل، والتعامل العلمي مع محاولات  غزو التيارات الإلحادية في الخارج والتي وصلت -كما ذكرنا- إلى عقر دار المسلمين.


[1] أحمد عزت: الدين والعلم، ترجمة: حمزة طاهر، القاهرة، لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1948، ص1.

[2] المرجع السابق، ص186.

[3] المرجع السابق، ص169.

[4] المرجع السابق، ص157.

[5] المرجع السابق، ص157.