إن الإنسان في سفر مستمر إلى الله جلَّ ذكره منذ أن خُلق إلى أن يصل إلى مثواه الأخير في القبر ودار البرزخ، وإلى مستقره في الجنة أو في النار؛ لأن الدنيا ليست بدار مُقام، وليست هي الدار التي خُلق الناس من أجلها. ولأجل هذا، فإن الإنسان وهو مسافر إلى الله تعالى يحتاج إلى زاد يوصله إليه: {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب} [البقرة: 197].
وبالإضافة إلى التقوى، وهي مفتاح الخير في الدنيا ومفتاح الجنة في الآخرة، فإن الإنسان يحتاج إلى الزهد في الدنيا، والهمة العالية إلى ما عند الله تعالى، والاجتهاد المتواصل في الطاعة، والمداومة على الأعمال الصالحة، وامتلاء القلب بمحبة الله تعالى وتعظيمه وإجلاله وخشيته.
وللأسف الشديد، نجد في هذا العصر أن الحضارة المادية الغربية طغت على كل شيء؛ فزيَّنت للناس متاع الدنيا وزهدتهم في الآخرة، حتى سكر كثير منهم بحب الدنيا، إلا القليل ممن عصمهم الله جل ذكره، وجَدُّوا في الاستعداد لما أمامهم من المساءلة والحساب والعقاب. وخلَّفوا وراءهم ذوي الهمم الفاترة والعزائم الخائرة، تتخطفهم الشياطين ويستولي عليهم الهوى، وتلعب بهم أمواج الأماني الكاذبة حتى تلقي بهم في ساحل الآخرة وهم من الخسارين: { إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا } [الإنسان: 27].
وهذا اليوم الثقيل هو الآخرة، أي يدعون خلف ظهورهم العمل للآخرة، وما لهم من النجاة من عذاب الله يومئذ(1).
وعليه، فالكيس الفطن من تزود من الدنيا بزاد ينجيه من أهوال ذلك اليوم، وهو على يقين جازم بلقاء الله تعالى، مستعداً للموت الذي قد يأتي في أية لحظة. فطوبى لمن أتاه الموت وهو على استعداد وأُهبة، يرجو الله تعالى والدار الآخرة.
ويا شقاء من جاءه الموت وهو في لهو وغفلة، طويل الأمل، سيء العمل، يسوِّف ويتمنَّى التأخير والإمهال حتى يفاجئه الموت، فيقطع أمانيه ويكشف له الحجب والحقائق المُرَّة كما هي، وينزله من مراكب الأحلام والأماني إلى شاطئ الحسرة والندامة.
فالسعيد إذاً من استعد للسفر إلى دار الخلود بفعل الطاعات، والمواضبة على الفرائض، واجتناب المعاصي، والمسارعة إلى مراضي الله تعالى، والإبطاء عن مساخطه، حتى إذا جاءه الموت فرح بقدومه على الله جل شأنه، واستبشر بالوصول إلى ذلك المأمول، إلى جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين. قال تعالى: { ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود * لهم ما يشـاؤون فيهـا ولدينـا مزيـد } [ق: 34-35].
على أن حب الدنيا هو مكمن الداء، والآفة العويصة التي تُزَهِّد في الآخرة، ولم يسلم من هذا الداء الوبيل في هذا العصر إلا القليل من الناس. ذلك أن حب الدنيا يزيد عند كثير من الخلق على حب البقاء فيها؛ إنه حب التمتع بلذاتها، والخوف من ذهابها، وهو سبب الجبن والخوف، والهَمِّ والحزن، وهي أدواء كان النبي ﷺ يستعيد منها، وعلاجها يحتاج إلى محاسبة ومجاهدة وصبر.
وتفاصيل هذا العلاج:
- أن يديم الإنسان النظر في المقابلة بين الدنيا والآخرة: { كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون * في الدنيا والآخرة } [البقرة: 219-220]. فيدرك بعد هذا التأمل والنظر أن الدنيا حقيرة ودنيئة ومتقلِّبة وسريعة الزوال، ويدرك فضل الآخرة وشرفها وبقاءها ودوامها وخيرها. ولن يدرك هذا دفعة واحدة، ولا بمرة، ولا بمرتين، ولا بثلاثة، بل بالدوام والمعاودة، والتكرار والمراجعة.
- الإلحاح في الدعاء، وأن يسأل العبد الله تعالى أن يفتح بصيرته، ويحبِّب إليه لقاءه، ويحبب إليه الزهد في الدنيا الفانية، ويمنحه الثبات والعزيمة للتجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود.
- ترك المعاصي، والإكثار من الطاعات، والتعوّد على العمل الصالح والمداومة عليه.
- تصفح حال الزاهدين في الدنيا من السلف الصالح، ودراسة سيرهم وفهمها، والاقتداء بها، لأنها مواعظ حيَّة ومنارات للسير في الطريق الصحيح.
على أن الذي يعين على محاسبة النفس والزهد في الدنيا هذه الحقيقة الكبرى وهي: أن الدنيا فانية والآخرة باقية. فالدنيا كَحُلِم نائم رأى في المنام ما يحب ثم استيقظ فلم يجد شيئاً. فنسبة الحلم إلى اليقظة من جهة الزمان شيء لا يذكر؛ دقائق إزاء سنون وعقود من العمر. ومع ذلك فإن اليقظة لها حَدٌّ تنتهي عنده، والآخرة سرمدية لا حدَّ لها ولا نهاية لها. ومن جهة نوعية المتاع والنعيم فإن الدنيا متاعها قليل مشوب بالمنغصات والأكدار والأحزان وأما الآخرة فنعيمها دائم، مليء بالمسرات والأفراح، والحبور والسرور.
ولأن الأعمار في الدنيا قصيرة جدًّا، جاء وصف مدة بقائها في الدنيا كأنها عشية أو ضحاها، وكأنها ساعة من نهار. قال تعالى: { كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها } [النازعات: 46]. وقال تعالى: {كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون } [الأحقاف: 35]. وقـال تعالـى: {ويـوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة } [الروم: 55].
هذه هي حقيقة الدنيا؛ فعمر الإنسان فيها يمر بسرعة كلمح البرق أو كطرف العين، فهي لحظة فانية ولقاء عابر. ولن يشعر الإنسان بهذه الحقيقة إلا في حالة الاحتضار والموت، والانتقال إلى الآخرة: { كـلا إذا بلغـت التراقـي * وقيل مـن راق * وظن أنه الفراق * والتفت الساق بالساق * إلى ربك يومئذ المساق } [القيامة: 26 – 30]. فعن ابن عباس رضي الله عنهما في تأويل قوله تعالى: {والتفت الساق بالساق } [القيامة: 29]، قال: آخر يوم من أيام الدنيا، وأول يوم من أيام الآخرة، فتلتقي الشدة بالشدة إلا من رحم الله تعالى(2). أي: تلتقي سكرات الموت بأهوال البرزخ في الآخرة، نسأل الله تعالى أن يعفو عنَّا ويغفر لنا ويرحمنا.