يستقر في القلوب الواعية، والنفوس الصافية، أن الرحمة خلق واجب، من خلال ما سمعوا من نصوص وقائع من النبي ، ومن خلال أمرهم بمتابعة النبي والتأسي به، ولم يكتف النبي من أتباعه بأن يبدو الإعجاب، أو التعجب من التزامه بالرحمة، ودعوته إليها، مع بقاء من شاء منهم على حاله، كما هو مسلك بعض من سبق من الأنبياء مثل المسيح عيسى عليه السلام والعظماء المصلحين.

وإنما كان النبي يحرص على أن يرى أتباعه، يمارسون الرحمة قولاً وعملاً، ويحملهم على التخلق بها، حملاً بشتى الوسائل، وهو ما يجعلنا نقول، إن من مظاهر رحمة النبي بالناس أنه علمهم الرحمة، وأعانهم على العمل بها، وحثهم على ممارستها في شؤون حياتهم.

من ذلك قوله لأصحابه: “من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث ، وإن أربع فخامس أو سادس، فيأخذ الصحابة بعضهم، ومن بقي منهم يصطحبهم النبي إلى داره ، فيتعشون معه”. [صحيح البخاري]

إنه درس رائع في التكافل والتراحم، كان النبي شريكاً فيه، يقدمه للبشرية جمعاء، ترى لو أخذت البشرية المعاصرة بهذه النصيحة هل كنا سنقرأ في تقرير التنمية البشرية لعام 2022م أن أكثر من 850  مليون إنسان ثلثهم من الأطفال ما قبل سن الدراسة، واقعون في فخ الدائرة المفزعة لسوء التغذية ومضاعفاتها ؟!! أترك الجواب للبشرية نفسها.

إن هذا بحق هو أظهر ما ميز دعوة النبي عن دعوات غيره ممن سبقه، فالمسيح دعا إلى الرحمة والتسامح، ولكنه لم يتمكن من إيجاد مجتمع متراحم، وليس أدل على ذلك من أنه تعرض لأذى مجتمعه كثيراً، ولم يرَ منهم معاملة حسنة، وقد وقف على هذه الحقيقة الأستاذ اينين رينيه حين قال: “لقد دعا عيسى عليه السلام، إلى المساواة والأخوة، أما النبي محمد  فوفق إلى تحقيق المساواة بين المؤمنين أثناء حياته”.

هذه إشارة واضحة، إلى الفرق بين من يدعو إلى الأخلاق، ولا يتمكن من حمل الناس عليها، وبين من يدعو لها، ويكون من منهجه أن يجعلها واقعاً معاشاً.

وأود أيضاً أن أشير إلى مسألة ذات أهمية تتصل بهذين النبيين الكريمين، فالمسيح لم يتمكن من تطبيق ما دعا إليه، لأنه لم يكن يملك سلطة، فالسلطة في عصره كانت بيد اليهود، والرومان، وموقفهم منه لا يخفى، فكان له عذره، فجاء من بعده أخوه النبي محمد ليحقق ما تمنى المسيح تحقيقه.

اشتهر عن السيد المسيح عليه السلام، دعوته إلى التسامح، والعفو، والحلم، فقد نقل عنه، قوله وهو يعظ أتباعه :”سمعتم أنه قيل عين بعين، وسن بسن، وأما أنا، فأقول لكم لا تقاوموا الشر، بل من لطمك على خدك الأيمن، فحوِّل له الآخر أيضاً، ومن أراد أن يخاصمك، ويأخذ ثوبك، فاترك له الرداء أيضاً، ومن سخَّرك ميلاً واحداً، فاذهب معه اثنين، ومن سألك فأعطه، ومن أراد أن يقترض منك فلا ترده.

سمعتم أنه قيل: تحب قريبك، وتبغض عدوك، وأما أنا، فأقول لكم: “أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم، ويطردونكم”.

هل تلتفت أي من الدول الغربية أو الشرقية، بلا استثناء إلى هذه التعاليم، أو تفكر في يوم من الأيام بالعمل بجزئية منها، ولو مرة واحدة في تاريخها الطويل، بخاصة مع خصومها، سؤال يوجه إلى التاريخ القديم والحديث ليجيب عنه؟!.

إن تعاليم المسيح عليه السلام هذه، لا تعيبه، ولا ينبغي لأحد أن يوجه إليه نقداً بسببها، كلا وألف كلا، لأنها صدرت عن المسيح عليه السلام في ظروف خاصة، ولمعالجة أوضاع خاصة، فهي تعاليم تعد بنت بيئتها، وقد نجحت في حينها، من الحد من سطوة الظلم، والانتقام، وفي محاصرة الشر في بني إسرائيل، الذين بعث فيهم المسيح عليه السلام.

كما حاول المسيح، أن يوجد توازناً في المجتمع الروماني، الذي عاش فيه، إذ إن ثقافة هذا المجتمع كانت تعنى بالجسد فقط على حساب العاطفة، فقد كانت ثقافته حربية دموية، وهو ما دفع السيد المسيح عليه السلام إلى أن يسلك هذا المسلك، الذي كانت الأوضاع تدعو إليه بشدة، ولهذا لم يستوعب أتباع السيد المسيح عليه السلام هذه التعاليم، وتعذر عليهم العمل بها.

يقول العلامة محمد جميل بيهم: “لما تفاقمت الفوضى الأخلاقية، قبل ظهور المسيح، واستفحل أمرها من جراء الفساد، الذي شمل الشعب اليهودي والروماني على حد سواء .. جاء المسيح مُصلحاً اجتماعياً لا مشرعاً لأن اليهود والرومان لم يكن ينقصهم تشريع، ولهذا اقتصرت دعوته بالحث على الفضائل والتحذير من الرذائل، وحضهم على المحبة والسلام”.

وفي نفس هذا المقام يقول العلامة الأستاذ سليمان الندوي، حين قسَّم الفضائل قسمين، قسماً سلبياً، وقسماً إيجابياً: ” إن اعتزال الناس خلق سلبي، لأن صاحبه لا يؤذي أحداً منهم، ولكنه لا يقدم لهم خيراً، كما أن العفو عن أخطاء الناس خلق سلبي كذلك، فإنه لا يتضمن خيراً، كالنصح، ونصرة المظلوم، وهو ما يبدو في الأخلاق التي وردت عن كثير من المصلحين السابقين للنبي محمد ..وهي في الحقيقة،أخلاق تفتقد للشمول، والتوازن، وهما ميزتان ظاهرتان في أخلاق النبي محمد ، وهو ما سأعرض له بعد استراحة قصيرة جداً”.

أما نبي الرحمة فقد سعى إلى أن يملك ما لم يتسن للمسيح الحصول عليه، وهو القوة ليحمي بها ما يدعو إليه، وهو ما يجعلنا نقول، إن القوة التي حازها نبي الرحمة والحروب التي خاضها، كانت من أجل حماية الفضائل، وأعد بأن أعرض لهذه المسألة في إحدى المحاضرات.

إن القوة التي أشرت إليها كان استعمالها رحمة بالرحمة التي نتحدث عنها، وأرجو أن لا أتهم بفلسفة الأمور، ولكني أردت بهذا أن أوضح موقفين، قد يبدوان مختلفين، ولكنهما سليمان لاعتبارات تتصل بكل منهما، واستحضار هذا الأمر مفيد ونحن نتحدث عن المسيح وعن نبي الرحمة .

لقد وضع النبي أسساً ومعالم لخلق الرحمة، حيث سعى إلى نشر المنهجية الأخلاقية، لتسهم في بناء الإنسان السوي، وتكوين المجتمع المثالي، وتعني هذه المنهجية فن السيطرة على الأهواء، والعمل على تحقيق القيم الإيجابية، وهو ما يعني عملياً ، الكف عن الشر من حيث هو شر منهي عنه، وفعل الخير من حيث هو خير مأمور به ، وما قصة الرجل الذي دخل الجنة، بسبب كلب، وقصة المرأة التي دخلت النار بسبب هرة عنَّا ببعيدتين.

يؤدي هذا فيما يبدو لي إلى تحقيق التوازن والتكامل، اللذين كان ينشدهما النبي وهو يوجه أتباعه إلى القيام بالتكاليف، وتحقيق الأهداف، التي يسعون إلى تحقيقها أسوة به، في ضوء المنهجية الأخلاقية السابقة الذكر، والتي يأتي في مقدمتها خلق الرحمة.

وجَّه النبي أتباعه إلى أن مشروعية الغاية، لا تعفي من مشروعية وسائلها، فلكي يكون العمل المطروح مقبولاً، لا يكفى أن يستهدف الخير، بل يجب كذلك أن يستلهم الشرع بمعنى أن يكون مشروعاً مقبولاً، وأن يتطابق مع قواعده، والرحمة – التي كانت شبه مفقودة في تلك بيئة ـ من أبرزها.

 لقد فات هؤلاء أنَّ البشرية لا تتأثر بالأسطورة أياً كانت، لأن الأسطورة لا تسهم في تربيتها، وإن استوقفتها في بداية الأمر، واستسلمت لها حيناً من الدهر، وهي تعلم أنها أسطورة ، وربما أعجبت بها، أو بتعبير أصح، تعجبت منها.

لكن النبي بز من قبله ومن بعده في الرحمة ، وهو الذي جعلها جزءاً رئيسياً من حياته ودعوته ، هذا هو النبي الرحيم العادل الحكيم الذي اشترى الآخرة بالحياة الدنيا ‍‍.

هذا هو القدوة الحسنة الذي بعث ليتمم مكارم الاخلاق ! هذا هو النبي الذي وصفه القران بانه على خلق عظيم . فهل صدق القران ؟


المراجع:

صحيح البخاري، باب السمر مع الضيف والأهل، ح 602.

أرقام تحكي العالم، ص 220، محمد صادق مكي، ط1، 2006م، دار البيان، الرياض.

أشعة خاصة بنور الإسلام، ص 323، اينين رينيه.

دستور الأخلاق، ص 611 – 612 بتصرف وزيادة، د. دراز