عرف العرب الرياضة ومارسوها في غالب تاريخهم، إذ كانت جزءا من طبيعة حياتهم، القائمة على الحركة وكثرة السعي، الذي يفرضه العيش في البوادي، وهي حياة تتطلب حركة دؤوبة مستمرة، وإجادة لرياضات، مثل: المشي، وركوب الخيل والإبل، والركض، والمبارزة، والصيد.
ومن ناحية أخرى كانت الرياضة حاضرة في أغلب الدول التي عرفها التاريخ الإسلامي، إذ كانت جزءا من التأهب للقتال، فقد كانت تلك الدول في حالة صراع شبه دائم مع الامبراطوريات والممالك المجاورة، وهو ما فرض ألا يتوقف الجند عن ممارسة الرياضة لابقاء حالة التأهب دائمة، كما كانت جزءا من الترفية في قصور الأمراء والحكام.
الرياضة وسيلة
رأى الكثير من العلماء والفلاسفة المسلمون أن الرياضة وسيلة تربوية مهمة، فالامام أبو حامد الغزالي، جعلها وسيلة لنقل النفس والسلوك من الأخلاق السيئة والرذائل إلى الأخلاق الحسنة، فجاء في كتابه “إحياء علوم الدين” : “من لطائف الرياضة، إذا كان المريد لا يسخو بترك الرعونة رأساً أو بترك صفة أخرى، ولم يسمح بضدها دفعة؛ فينبغي أن ينقله – أي المرشد – من الخلق المذموم إلى خلق مذموم آخر أخف منه؛ كالذي يغسل الدم بالبول، ثم يغسل البول بالماء، إذا كان الماء لا يزيل الدم، وكما يُرغب الصبي في المكتب باللعب بالكرة والصولجان وما أشبهه، ثم ينقل من اللعب إلى الزينة وفاخر الثياب، ثم ينقل من ذلك بالترغيب في الرياسة وطلب الجاه، ثم ينقل من الجاه بالترغيب في الآخرة “.
أما أديب العربية “الجاحظ” في كتاب الفريد “التاج في أخلاق الملوك” فرأى أن ممارسة الرياضة شرطا ضروريا في ندماء الملك، فقال:” ولندماء الملك وبطانته خلال يساوون فيها الملك ضرورة، ليس فيها نقص على الملك، ولا ضعة في الملك، منها: اللعب بالكرة، وطلب الصيد، والرمي في الأغراض، واللعب بالشطرنج، وما أشبه ذلك”، بل جعلها بابا لتحقيق العدل مع الحاكم نفسه، وليس وسيلة للنفاق أو الإذلال، فقال: “ومن الحق على الملك أن لا يمنع مُلاعبه ما يجب له من طلب النصفة في هذه الأقسام التي عددنا، ومن حق المُلاعب له المشاحة والمطالبة والمساواة والممانعة، وترك الإغضاء والأخذ من الحق بأقصى حدوده؛ غير أن ذلك لا يكون معه بذاء ولا كلام رفثٍ ولا معارضة بما يزيل حق الملك، ولا صياح يعلو كلامه، ولا نخير ولا قذف ولا ماهو خارج عن ميزان العدل” ثم يقول:” ومن حق الرجل على الملك، إذا ضرب معه بالكرة، أن يتقدم بدابته على دابة الملك، وصولجانه على صولجان الملك، وأن يعمل جهده في أن لا يبخس حظه ولا يفتر في مسابقةٍ ولا مراكضةٍ ولا التفاف كرةٍ ولا سبقٍ إلى حدٍ ونهاية وما أشبه ذلك”.
وفي كتاب “آثار الأول في ترتيب الدول” للمؤرخ ” الحسن بن عبد الله العباسي” المتوفى سنة (710هـ ) حديث عن فوائد الرياضة للملوك والأمراء وأهميتها، فيقول:” واللعب بالكرة هو رياضة تامة حسنة، وصفها الحكماء والفضلاء من الملوك لرياضة الجسد، ورياضة الخيل واللعب بالكرة والجوكان[i] واستعمالها بالغدوات من أتم الرياضات وأكملها وأنفعها” ثم يقول :” وأما نفع الرياضة بالجملة فظاهر معلوم لما جعله الله في الأبدان من الأخلاط المتغايرة المتغالبة التي موادها من الأغذية المختلفة” كما تحدث عن فوائدها النفسية فقال:” منها السرور والفرح بالظفر، والاستيلاء مع مباشرة التألم من العجز والغلبة ومنها تعود الاجتماع والتدرب، ومساعدة الأصحاب لبعضهم، وتعاضد الأولياء وتعاونهم على الخصوم والأعداء”.
الرياضة قديمة عربيا
كان الخلفاء والأمراء في الدول والممالك الإسلامية من العباسيين والفاطميين والأيوبيين والمماليك والأندلسيين مغرمون بالرياضة والسباقات، واقتناء أدوات وحيوانات الصيد وطيوره، وتحوي دراسة “الترابط بين التقدم الحضاري في زمن الدولة العباسية وتطور الحركة الرياضية” للدكتور” إسماعيل خليل إبراهيم” الكثير من المعلومات المفيدة في هذا الشأن، ومنها أن العباسيين أسسوا حلبات للسباقات، لشغفهم ب سباقات الخيل والركض، وكان “هارون الرشيد” من أكثر خلفائهم اقتناء للخيل ، وكان الخليفة “المستكفي بالله” العباسي يشجع على رياضة السباحة، وتحكي كتب التاريخ عن سباقات، منها سباق في الركض جرى في عهد الخليفة المعتصم العباسي بين الساعي (العداء) معتوق الموصلي ومنافسه “علي بن الإربيلي عام (645هـ= 1248م) وفاز فيه “الإربيلي” الذي وصل بغداد، وكان في استقباله الخليفة المعتصم نفسه، والذي منحه الكثير من العطايا والهدايا.
اقرأ أيضا :
الرياضة في تاريخ المسلمين
وذكر شمس الدين “محمد بن طولون” في الكتاب النادر “اللمعات البرقية في النكت التاريخية” حديث عن بعض الساعين (العدائيين) مثل “بركة بن محمود” الساعي المتوفى (628هـ=1230م) الذي ركض من مدينة “واسط” إلى “بغداد” في يوم واحد، وحاز على مال كثير، واتصل بخدمة الخليفة “الناصر لدين الله”، أو الساعي “معتوق الموصلي” الذي فاز في سباق عام (653هـ) وحصل على مكافاة من الخليفة وصلت إلى خمسمائة دينار.
وكان الخليفة “هارون الرشيد” يجيد لعبة “الصولجان” (وهي تشبه لعبة الجولف حاليا) وأنشأ لها ميدانا، واهتم بها سائر الخلفاء العباسيين، ومن الطرائف التي ذكرتها كتب التاريخ أن الخليفة “المعتصم” قسم أصحابه يومًا للعب، فجعل قائده “الأفشين” في فريق غير فريقه، فقال “الأفشين”: “يعفيني أمير المؤمنين من هذا”، فلما سأله عن السبب قال: “لأني ما أرى أن أكون على أمير المؤمنين في جد ولا هزل”.
أما الخليفة العباسي “الأمين” فقد كان مولعا بصيد السباع والوحوش، وكان يصطحب معه فرقة مخصصة لذلك تسمى بـ”أصحاب اللبابيد” هؤلاء كانوا يلبسون الصوف كالرعاة كرمز على خشونتهم وقوتهم، لكن الخليفة “المهدي” أول خليفة عباسي يهوى تلك الرياضة، ولذا ألفت كتب في تلك الفترة تُعني بالصيد منها كتاب “المصائد والمطارد” لـ”محمود بن الحسين” الشهير بـ”كشاجم”، وهو كتاب من ثلاثين بابا، يعني بأوصاف الجوارح والضواري وأسباب الصيد وآلاته ، وهناك كتاب آخر في الموضوع هو “انتهاز الفرص في الصيد والقنص ” لـ”تقي الدين الناشري” وقد ألفه للملك “عامر بن عبد الوهاب” أحد ملوك الدولة الطاهرية في اليمن في القرن العاشر الهجري، وهو من أوسع الكتب التي ألفت في الصيد.
وفي عصر الدولة الفاطمية عُرف الاهتمام بالرياضة، خاصة عند الخلفاء والأمراء، وكان الصيد من أهمها، وألف الوزير أبو عبد الله “الحسن بن الحسين” أشهر كتب البيطرة وهو كتاب “البيزة” الذي يعد أقدم كتاب علمي وضع في اللغة العربية في هذا العلم، حيث ألفه بعد ما يقرب من عشرين عاما من الخدمة في القصور الملكية، وقال في مقدمته:”إن للصيد فوائد جمة، وملاذ ممتعة، ومحاسن بينة، وخصائص في ظلف النفس[ii] ونزاهتها وجلالة المكاسب وطيبها كثيرة؛ فيه يستفاد النشاط والأريحية، والمنافع الظاهرة والباطنة والمران والرياضة، والخفوف والحركة، وانبعاث الشهوة واتساع الخطوة، وخفة الركاب، وأمن من الأوصاب؛ مع ما فيه من الآداب البارعة، والأمثال السائرة، ومسائل الفقه الدقيقة، والأخبار المأثورة “، وكان ” أبو الميمون عبد المجيد” ثامن الخلفاء الفاطميين له أرض واسعة يخرج إليه للصيد مرتين أسبوعيا.
ومن الطرائف أن السلطان جلال الدولة” ملكشاه” المتوفى (1092م) كان شغوفا بالصيد، ويحكي عندما أحصى عدد الطرائد التي اصطادها بلغت عشرة آلاف، فتصدّق بعشرة آلاف دينار، وقال:”إنني خائفٌ من الله سبحانه وتعالى لإزهاق الأرواح لغير مأكلة”، وصار بعد ذلك كلما قتل صيداً تصدّق بدينار.
ويذكر المؤرخ والمفسر “ابن كثير” في تاريخه “البداية والنهاية” أن من أسباب تقريب “نور الدين محمود” لصلاح الدين الأيوبي، هو أن صلاح الدين كان بارعا في لعب الكرة على الخيل، إذ كان الملك العادل “نور الدين” يحب هذه الرياضة، حتى تتقن الخيول الكر والفر، ويُحكي أن “نور الدين” عوتب ممارسة تلك الرياضة فقال: “إنما الأعمال بالنيات، وإنما أريد بذلك تمرين الخيل على الكر والفر، وتعليمها ذلك”.
وكان أمراء المماليك يمارسون تلك الرياضة وينشئون لها الميادين الخاص، ويقيمون لها السباقات المتكررة، مثل “الظاهر بيبرس.
وكان الصيد من الرياضات المهمة في في العصر المملوكي، حتى قيل أنه ” نزهة الملوك وقناعة الصعلوك” والصعلوك تعني الفقير، والذي يخرج للصيد حتى يطعم نفسه وأطفاله، إذ كانت تلك الرياضة من أبواب تحصيل الرزق والأقوات، وتنسم الهواء النقي والتدريب على الفروسية وإدخال السرور على النفس.
[i] لعبة جوكان وهي بالفارسية “چوگان” وهي مشتقة من كلمة “چوبكان” أي لعبة تستخدم فيها الخشب أو العصا، كما كانت ضمن التراث وعادات الملوك الساسانيين وأخذت تنتشر بعد الإسلام في مصر وسائر الدول العربية والشرقية، وصارت تشتهر بلعبة الصولجان
[ii] ظلف النفس: أي الترفع عن الأخطاء والدنايا