1- المقدمة
قال تعالى: { ولقد كرمنا بني آدَمَ .. } ( الإسراء: 70)، لقد كرم الله تعالى بني آدم وفضله على كثير من مخلوقاته، وهذا التكريم جاء بناء على منحه العقل والإدراك والتمييز، لتكون وسائل للتأمل والتفكر والتدبر من أجل تحقيق مقاصد شريعة الله في الأرض، وإدراك المعاني والحقائق، ونبذ الجمود والتقليد بهدف الوصول إلى سعادة الانسان.
فالعقل هو من يصنع القانون المدبر لأمور الناس وليس العكس، وهو من يقدر المصلحة في شؤون الإنسان في مناطق العفو التشريعي والاجتهاد ودائرة المباح لذلك فنعمة العقل الصانع للقانون إن أسيء استخدامها كانت سبيلا لنشر المفسدة في الأرض.
وخلق الله الخلق لعبادته وفق شريعته، ولا يتحقق ذلك إلا باتباع أوامر الله والابتعاد عن نواهيه وفق المقتضى المقصود، { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } (الذاريات: 56)، حيث حذر من الزيغ والانحراف عن المفاهيم والمقاصد اتباعا للهوى، ففيه الضلال {ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل اللَّه } ( ص :26 ).
وأمرنا تعالى بعمارة الأرض التي هي ثمرة من ثمرات الالتزام بشرعه، وأمرنا بحفظ النظام فيها، والقيام بمهمة الاستخلاف وفقا للمنهج الرسالي للأنبياء عليهم السلام، ونبهنا إلى أن صلاح الأرض بصلاح المستخلفين عليها، وفسادها بفسادهم ومعصيتهم للخالق، قال تعالى: { ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرضِ ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون } (الأعراف:96)، فالشريعة كلها مبنية على مصالح العباد في الدنيا والآخرة.
ولا خلاف في الإسلام على مركزية الأسرة وأهميتها في البناء الاجتماعي باعتبار أن الأسرة هي مصنع الإنسان الأول، فصلاح الإنسان مرهون بصلاح الأسرة، وعمارة الأرض مرهونة بصلاح الإنسان، وارتقاء العمران هو نتيجة للعمل الإنساني على الأرض، فالأسرة هي النواة الرئيسة لتكوين الأمة والحضارة الإسلامية.
ويعد الزواج شرطا أساسيا لتكوين الأسرة في الاسلام، وهو رباط مقدس شرعه الله لعباده لتتحقق غايته في خلقه؛ وميثاق غليظ بين الرجل والمرأة يترتب عليه مجموعة من الحقوق والواجبات.
ومن خلال الأسرة تتحقق مجموعة من الأهداف تعبر عن مقاصد الشريعة وعن رأفة الخالق بعباده، وما فيها من منافع جلية، قال تعالى: { ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة } (الروم:21)، حيث جعل تعالى الزواج بين الرجل والمرأة استقرارا وطمأنينة على المستوى النفسي والجسدي، وتعارفا وتفاعلا مع الآخرين على المستوى الاجتماعي، مما يجعل آثار الزواج مؤثرة في المجتمع، وأي خروج عن هذا المقصد نحو ” زيجات” لتحقيق مصالح وأغراض آنية بعيدة عن المقاصد الشرعية هو تلاعب بالشرع، وخروج عن مراد الله، وهو ما يفضي إلى الفساد والاضطراب النفسي والاجتماعي ويقوض أسس الاجتماع.
والكفاءة في الزواج مطلب أساسي لنجاحه، فالزوجان المتساويان أو المتقاربان في الجوانب الدينية والاجتماعية والعلمية والثقافية والعمرية أدعى إلى نجاح الزواج واستقراره.
قال الدهلوي (حنفي المذهب) في حجة الله البالغة :أن الكفاءة معتبرة وهي مما جبل عليه طوائف الناس، وكاد يكون القدح فيها أشد من القتل، والناس على مراتبهم والشرائع لا تهمل مثل ذلك، ولذلك قال عمر رضي الله عنه: لأمنعن النساء إلا من أكفائهن[1].
واعتبر الإمام الماوردي (شافعي المذهب) أن التقارب في السن بين الزوجين عنصر من عناصر الكفاءة فلا يكون الهرم كفؤا للمرأة اليافعة، ولا العجوز كفؤا للشاب لما بينهما من التنافي والتباين، ولأن كل ما يؤثر في العلاقة بين الزوجين قوة وضعفا يؤثر في الكفاءة وجودا وعدما. [2]
وتنتشر صور شتى للزواج المخالف للمقاصد الشرعية ولا تتحقق فيه الكفاءة، وسوف تتناول هذه الدراسة واحدة من هذه الصور المفسدة لميثاق الزواج، وما يترتب عليها من مفسدة عظيمة على المجتمع، وهو زواج الفتيات الشابات من كبار السن (sugar daddy) ، وخاصة من هم في سن الشيخوخة وأصحاب الأمراض المزمنة ( ومن لديهم زوجة أولى وأبناء ) بهدف الميراث، وستناقش الدراسة إمكانية تقييد المباح في هذا النوع من الزواج للحفاظ على الحقوق من جانب الميراث.
التجديد والتطوير في القوانين مطلب شرعي لتتناسب مع مستجدات العصر
2- أهمية الدراسة
تكمن أهمية الدراسة في بيان أوجه الحق في الموضوع وإزالة الجهالة الموجودة في ثقافة الناس، والتي تقتضي أنه يمكن التحايل على الشرع بموضوع الزواج لتحقيق مصالح ماديِّة تلحق الضرر بالغير، كذلك بإظهار حرص الإسلام على رِّد الحقوق إلى أهلها بكل وسيلة شرعيِّة ممكنة. كما تخدم هذه الدراسة العلماء والفقهاء وأهل القانون والقضاء والمختصين في علم الاجتماع من أجل التطوير المستمر لقوانين الأسرة والاستجابة للمستجدات المعاصرة والتجديد فيها وفقا لمقاصد الشريعة والمآلات والتعليلات التي يبنى عليها الفقه الإسلامي.
3- مصطلحات الدراسة
هناك الكثير من الأمور المستجدة والتي تستدعي بيان حكم الله وحكم الرسول ﷺ كتقييد كثير من المباحات اقتداء برسول الله وأصحابه الكرام وأئمة الإسلام، لتحقيق مقاصد الشريعة والحفاظ على الكليات الخمس (حفظ النفس والمال والدين والعرض والنسل)، فما هو تعريف المباح وكيف يمكن تقييده.
- تعريف المباح: عرّف الإمام الشاطبي المباح فقال: “المباح عند الشارع: هو المخير فيه بين الفعل والترك من غير مدح ولا ذم، لا على الفعل ولا على الترك. “[3]
- تقييد المباح وتقنينه : ويعرف التقييد في معجم اللغة المعاصرة بإنه: التزم بشروط معينة تقيِّد في عقد العمل؛ ويعرف التقنين بأنه: وضع قوانين وتدوينها .[4] وعرّف (الخضر، 2019) مصطلح تقييد المباح بأنه وضع قيود وشروط وضوابط عليه بحيث يصير مأموراً به أو منهياً عنه أو محددا، مثال (الأكل والشرب مباحان لكنهما قد يقيدان لدفع الهلاك في حالات خاصة ).[5]
- تعريف الكفاءة: كل شيء ساوى شيئا فهو مكافئ له، واصطلاحا جاءت عبارات الفقهاء تدور حول التماثل والتساوي، فتعريف الحنابلة للكفاءة في الزواج هو المماثلة والمساواة في خمسة أشياء وهي النسب والدين والحرية والمال والحرفة.[6]
- كبار السن: تستخدم كلمة المسن للدلالة على رجل كبير، فيقال أسنَّ الرجل أي كبر وكبرت سنِّه، (وقد يطلق عليه شيخ أو شايب باللهجة المحليِّة )واختلفت الآراء في تحديد سن الشيخوخة وأنواعها على اختلاف المجتمعات، وعلى الرغم من أن الناس يشيخون بشكل متفاوت نوعا ما، إلا أنها تعد آخر مرحلة من مراحل نمو الإنسان، والتي تحدث فيها تغيرات بيولوجية ونفسية واجتماعية مع التقدم في السن تتصف بالضعف العام في الصحة ونقص القوة العضلية وضعف الحواس وضعف الطاقة الجسمية وضعف الانتباه والتركيز والذاكرة وغيرها ،[7] قال تعالى: { اللَّه الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشیبة یخلق ما یشاۤء } (الروم :54 ). أيضا تعرف الشيخوخة بالإنجليزية: (Senile) بأنها التقدم في العمر مع ظهور بعض الأعراض الجسدية، كظهور التجاعيد والشعر الأبيض، وضعف البصر والسمع، واحتمالية انحناء الظهر، بالإضافة إلى بعض التغيرات في القدرات العقلية، كعدم القدرة على التذكر أحياناً، واستغراق وقت أطول في تعلم شيء جديد أو حل مشكلة.[8]
متى تبدأ سن الشيخوخة ؟
لا يوجد سن محدد يمكن اعتباره سن الشيخوخة، فهناك شيخوخة بيولوجية مبكرة بسبب الأمراض النفسية والجسدية؛ ولكن جرى التعارف على أن عمر 65 هو العمر الذي يشير إلى ذلك، وهو لا يعتمد على أسس بيولوجية، إنما كعرف تاريخي جرى اختيار 65 كسن للتقاعد. وقد يتم ربط سن الشيخوخة بسن التقاعد وهو 65، وتم اعتماده في ألمانيا التي وضعت أول برنامج للتقاعد، وكذلك في معظم الدول المتقدمة، وقد يتراو ح سن الشيخوخة في دول العالم بين 60- 65. كما اعتمدت الأمم المتحدة سن 65 كبداية لسن الشيخوخة. [9]
أما في التشريعات القطرية فتبدأ سن الشيخوخة ببلوغ سن 60 عاما كما جاء في المادة 13 قانون رقم (9) لسنة 1963 م بتنظيم الضمان الاجتماعي:”يستحق معاش الشيخوخة كل رجل يثبت بوثيقة رسمية أنه قد بلغ سن 60 سنة”.[10]
وإجرائيا سيتم اعتماد سن الشيخوخة لمن بلغ 60 من العمر وأكثر.
- الفتاة: هي البنت اليافعة التي بلغت سن الزواج القانونية. ويبدأ سن الزواج القانوني في دولة قطر للفتاة في عمر 16 عاما تبعا لأحكام المادة 17: ” لا يوثق زواج الفتى قبل تمام ثماني عشرة سنة، والفتاة قبل تمام ست عشرة سنة، إلا بعد موافقة الولي، والتأكد من رضاء طرفي العقد، وبإذن من القاضي المختص.[11]
- الزوجة الأولى: وهي الزوجة التي قضت سنوات حياتها وزهرة شبابها مع الزوج في إنجاح الحياة الزوجية اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا، للوصول بالأسرة إلى بر الأمان. فقد تكون قضت معه 30 سنة أو 40 أو أكثر من ذلك؛ ( ويشير هذا المصطلح كذلك الى عِّدة زوجات) .
4- العرض والمناقشة
أود الإشارة في بداية هذا العرض إلى أن قضية زواج المسنين من فتيات يافعات في مقتبل العمر، تدخل ضمن القضايا الفقهية الاجتماعية التي تتصل بتقدير المصالح ودور ولي الأمر ، وليست مخالفة للأحكام الشرعية ، فالزواج أمر مباح شرعًا، لكن ما نسعى إليه هو تحقيق الكفاءة من خلال تقييد هذا المباح وتقنينه بما يحفظ الحقوق ويرفع الضرر ويلبي مقاصد الشريعة من الزواج تحقيقا للقاعدة الأصولية القائلة بأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، فإذا تعارضت مفسدة مع مصلحة وكانت المفسدة غالبة أو مساوية للمصلحة فيجب دفع المفسدة أولا لما له من ضرر منافٍ لحكمة الشرع في النهي (لا ضرر ولا ضرار) لتحقيق قيمة العدل.
وبما أن تخصص الباحثة ليس في المجال الفقهي، فمن المهم التنويه إلى أن الباحثة قامت بهذه الدراسة لطرح مقترحات تتعلق بالقضايا الاجتماعية والإنسانية من وجهة نظر شرعية، ومن ثم سيتم عرض الدراسة على المعنيين للبحث فيها ودراستها ومناقشتها للوصول إلى حلول عملية تطبق في مجال قوانين الأسرة بإذن الله.
وقبل الشروع في مناقشة هذه الظاهرة، نرى أن من المفيد التأكيد على حقيقة الزواج في الإسلام، من خلال بيان فلسفته في التشريع الإسلامي، حتى تتضح الصورة، ويكتمل البيان.
أ – فلسفة الزواج في الإسلام
يعد الزواج في الشريعة الإسلامية من المباحات ويحث عليه الدين الإسلامي ويوصف بأنه نصف الدين؛ ومن مقاصد الشريعة من الزواج الشرعي كما جاء عند العلماء[12] ثلاثة أمور:
- إشباع الرغبة الجنسية، ويتفرع عنه تحقيق العفة والحياء.
- تحقيق التناسل الشرعي، ويتفرع عنه إشباع غريزة الأبوة والأمومة والرحم والقرابة وذلك لتحقيق غاية الله تعالى في خلق الخلق من حفظ النسل وعمارة الأرض وعبادة الله،
- إقامة حياة طيبة مبنية على السكينة والمودة والرحمة ويتفرع عنه التواصل والتراحم والتعاون بين الناس وخاصة الأقارب، وبهذا يصلح المجتمع وتستقيم الحياة. [13]
وبالنظر إلى تلك المقاصد، فقد وضع الإسلام نظامًا متكاملًا لمؤسسة الزواج، وهو نظام مبني على أساس من الفطرة، ليحقق مراد الله تعالى، وجعل قواعدها وأركانها قائمة، منذ التأسيس، على الوضوح التام والشفافية المطلقة، لتحقيق المقاصد الإسلامية والغايات الشرعية، وعليه لا بد من حماية هذه المؤسسة من الاضطراب والتأرجح، والغموض في أي جانب من جوانبها.
وفي ضوء هذه المقاصد، فإن هناك ما يشبه الإجماع على أن الخروج عن هذا المقصد الكلي نحو أشكال وصور من الزواج مثل” العرفي” و” المصلحة”؛ هو خروج عن مقصد الشارع الحكيم، وقد يدخل في دائرة “الحرام”، مثل زواج المتعة. [14]
واتفق الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة والمالكية على أن الكفاءة معتبرة في النكاح لما لها من تأثير على استمرار واستقرار الزواج وتحقيق لمقاصده، ذلك لأن مصالح الزواج لا تتحقق عند انتفاء الكفاءة، ولكن اختلفوا في اعتبار الكفاءة من شروط عقد الزواج أو لا يلزمه.
والمتأمل في واقعنا اليوم، يرى بشكل واضح أن هناك من يسيء استخدام الزواج ضاربا بميثاقه مع الله عرض الحائط، مما يؤدي إلى فك الرباط المقدس دون أدنى شعور بالمسؤولية أو الخوف من الله، وذلك من خلال ” زيجات” لا تتوفر فيها أدنى شروط بناء الأسرة وفقا للمفهوم الإسلامي، مثل زواج كبار السن بفتيات يافعات، والمنتشر في المجتمعات العربية ومنها المجتمع القطري دون أن يجد من يضع له قيود وضوابط من باب ” تقييد المباح” لما يترتب على هذا النوع من الزيجات من تبعات أسرية واجتماعية.
ب- زواج المسنين ومشكلات الميراث من منظور شرعي
زواج المسنين من فتيات تصغرهم سنًا (sugar daddy)
في الواقع، لم يحدد الشرع سنا معينة للزواج (سواء للرجل أو للمرأة) إنما تناول الحدود الشرعية والضوابط الأسرية والمنافع الجليلة والقيم التي تؤطر العلاقات الناتجة عن الزواج المشروع كتشريعات الميراث المضبوطة والمتشعبة، لذلك لا قيود شرعية في الزواج من حيث السن، فقال تعالى: { فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ ٱلنِّسَاۤءِ مَثۡنَىٰ وَثُلَـٰثَ وَرُبَـٰعَ} (النساء:3)، ثُم تم تقييده بواحدة اذا لم يتحقق العدل { فَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا تَعۡدِلُواْ فَوَ ٰحِدَةً أَوۡ مَا مَلَكَتۡ أَیۡمَـٰنُكُمۡۚ ذَ ٰلِكَ أَدۡنَىٰۤ أَلَّا تَعُولُواْ } (النساء:3) وقال ﷺ: ” يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج” [15].
وبالرغم أن فارق السن، لم يأخذ حيزا في كتب الفقه عند الحديث عن الكفاءة، إلا أن الكثير من الشواهد دلت على أن هذه المسألة لم تكن مهملة تماما، فقد أكد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه على مسألة كفاءة السن، عندما أُتى بامرأة شابة زوجوها شيخا كبيرا فقتلته فقال: ” يا أيها الناس اتقوا الله ولينكح الرجل لمته من النساء ولتنكح المرأة لمتها من الرجال: يعنِ شبهها” [16].
وقال زكريا بن محمد بن أحمد الأنصاري صاحب فتح الرحمن وتحفة الباري على صحيح البخاري: “يستحب ألا يزوج ابنته إلا من بكر لم يتزوج قط، لأن النفوس جبلت على الإيناس بأول مألوف، فليس من الإنصاف أن يزج الإنسان بفتاة في مقتبل العمر، وريعان الشباب بين أحضان شيخ لا ترى منه إلا نوم العشاء، وسعال السحر .[17]
وتعددت الأهداف والأسباب لقبول الفتاة وموافقة ولي أمرها على تزويجها من كبير السن، ومنها على سبيل المثال لا الحصر الهدف المادي، ورغبة الفتاة أو أسرتها في الثراء السريع خاصة إذا كان الزوج من أهل الثراء، وهي بذلك صفقة بين بائعٍ ومشتٍر. فصحيح أن عقد الزواج لأهداف مادية هو عقد مكتمل الشروط، ولكن يجب أن يصاحبه حسن النية في تحقيق الديمومة والبقاء والاستقرار النفسي، وتكوين أسرة، وتحقيق مقاصد الشريعة، مع حفظ الحقوق للزوجة الأولى والأبناء، وأيضا حفظ كبير السن من الأذى والاستغلال.
ويمكن قياس ذلك على الزواج من أجل الحصول على الجنسية، فهل هو زواج صحيح أم يحمل شبهه حتى لو أكتمل شكلا؟ اختلفت آراء علماء الدين والفقه حول شرعية الزواج بغرض الحصول على الجنسية، ولكن هناك العديد منهم حرموا هذا النوع من الزواج وجعلوه غير شرعي لأن انتفت منه مقاصد الشريعة ، ويعِّد من الغش والتدليس بل سبيل لنشر الغش والخداع وإباحته بين الناس .
ويرى الدكتور نصر فريد واصل -مفتي مصر السابق- أن هذا النوع من الزواج مشكوك فيه من الناحية الشرعية إذا طبقنا القاعدة الفقهية (العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني) وبالتالي هو أقرب للحرام منه للحلال.
ويرى الدكتور محمد البشاري – الأمين العام للمجلس الإسلامي الأوروبي – أن هذا النوع من الزواج هو إساءة إلى الإسلام حتى لو استوفى شروط العقد فإنه لا يحل، فقد قال ﷺ:” من غشنا فليس منا” وهو تحريم للغش والخداع والتدليس، وقال ﷺ: “إنما الأعمال بالنيات” لذلك فإن إضمار الشر في الزواج يجعله غير مشروعا. [18] وردا على الدكتور محمد البشاري، قال الدكتور عبد القادر جدي أن تحريم هذا الزواج لا يعنِي بطلان العقد المستوفي لأركانه .[19]
وقياسا على ذلك؛ فزواج الفتيات من كبار السن حتى وإن اكتملت شروط العقد إلا أن المقاصد والأهداف مضرة للأسر والمجتمع لأنه تم بغرض الحصول على الميراث غالبا، فالأحكام لم تشرع لعينها وإنما لما قصد من ورائها وهي المعاني التي تتحقق بها وتترتب عليها المصالح والمفاسد. [20]
مشكلات الميراث في هذا النوع من الزيجات
وبخصوص الميراث، فقد عرضنا فتوى أحقية الميراث للزوجة بمجرد كتابة عقد الزواج بها كالآتي، وترجع هذه الفتوى إلى:
- نص قرآني، حيث قال تعالى : { ولهن الربع مما تركتم إن لم یكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم } (النساء: 12). هذه الآية تطرح حكما عاما ولا تخوض في التفاصيل بل تركت بعض التفاصيل للاجتهاد والقياس والمصلحة المرسلة بما ينفع المجتمع ولا يضره، فما هو موقف الشرع من زواج الفتاة برجل يكبرها بـ 20 أو 30 أو 40 سنة، وهل الكفاءة في الزواج معتبرة؟ وهل هو زواج يعبث بالميثاق الغليظ لمجرد فكرة طرأت في رأس الزوج الكهل، والفتاة التي تبحث عن الثراء السريع، وهل يقع منه ضرر على الأسرة وبالتالي المجتمع إن كان له زوجة وأبناء من قبل، وهل يؤدي إلى تدمير الأسرة التي هي نواة المجتمع، وسبب لنشر المفسدة وضياع حقوق الزوجة الأولى أو الأبناء، وهل توفر في هذا الزواج حسن النية والسكن والإحصان وأهلية كلا الزوجين، وهل توفرت مقاصد الشريعة منه، وهل هناك توافق ظاهري بين سن الزوج وسن الزوجة، وما هي حقوق الزوجة الأولى والأبناء خاصة إذا عاشت الزوجة الأولى معه ما يفوق 30 سنة وشاركته حلو الحياة ومرها إلى أن وصلا للاستقرار المادي، هل تأتي فتاة قد لا تقضي مع هذا المسن سوى أيام أو أقل، أو أشهر أو أقل، أو لا يدخل بها أصلا، وتأخذ الثُمن أو الربع وهو تعب وكفاح الزوجة الأولى وحقها، والكثير من الأسئلة المطروحة اجتماعيا ؛ فكل أسرة تختلف في تفاصيلها عن الأسرة الأخرى بل كل إنسان يختلف في تفاصيله عن الآخر، فحتى العلاج لنفس المرض تختلف نتائجه من شخص لآخر حسب استعداده الجسدي، فما بال القضايا الاجتماعية التي تختلف في الكثير من التفاصيل حسب عوامل كثيرة.
- على الرغم من كثرة الدراسات في مجالات الأسرة وتشريعاتها؛ إلا أنها لم تتناول موضوعنا الحالي، واقتحام هذا النوع من الموضوعات لا يخلو من مخاطر وصعوبات جمة يتحملها المغامر الأول، لأن هذا الموضوع مرتبط بموضوعات مختلفة ومتشعبة مثل (أصول الفقه، والنفقة، والميراث، والحقوق العرفية الإسلامية وعقود الشراكة بمختلف أنواعها، وعقود الملكية، والذمة المالية، والعلاقات الزوجية …) مما يتطلب الوقوف عليها بدقة وعناية وبحث أوجه علاقتها بموضوع الزواج غير المتكافئ وحق الميراث وتقييد المباح، والتعمق في سبر أغوار كتب الفقه وغيرها من كتب الشريعة الإسلامية في محاولة لتأصيله من الناحية القانونية والشرعية وقبوله في إطار النظام القانوني القطري بشكل خاص والقانون العربي والإسلامي بشكل عام الذي من شأنه أن يشكل حلا متميزا لمعالجة الإشكالات المرتبطة بالحقوق المالية لأفراد الأسرة الذين ساهموا في تكوين ثروتها. وعلى الرغم من ذلك، فإن موضوعات الأسرة وتشريعاتها مازالت مجالا خصبا للبحث والدراسة ؛ نظرا لتغير متطلبات الحياة، فالمطالب الإنسانية تتغير بتغير البيئة وتطوير المجتمعات، الأمر الذي يتطلب تجديدا للفكر الديني، كي يتسع لدراسة تلك المستجدات والنوازل التي تطرأ على مجتمعاتنا الإسلامية برؤية معاصرة، ولا سيما في القضايا الشائكة المثيرة لجدل الفقهاء ومناقشاتهم؛ كقضايا الأسرة المتعلقة بالنواحي المالية ؛ وذلك لإيجاد معالجة دينية واقعية لمثل تلك القضايا على طاولة الشرع الحنيف. وترجع صعوبة هذه الدراسة إلى غرابة الكلام في موضوع تقييد المباح في المجتمع الخليجي مع عدم تقبل بعضهم للأفكار الجديدة التي تتماشى مع روح الدين الاسلامي؛ وذلك لتعارضها من وجهة نظرهم مع الموروث الديني والثقافي السائد في المجتمعات الإسلامية لقرون عديدة، وإلى أن المطالبة بتعديل قوانين الأسرة أو بعض بنودها على أساسها ليس بالأمر الهين ؛ وإن كان في ذلك مصلحة مجتمعية .[21] على أن رعاية المصلحة العامة كذلك من متطلبات الشريعة الإسلامية السمحة، والمصلحة المرسلة بما ينفع المجتمع ولا يضره هو واجب ديني . فالمصلحة المرسلة محل وفاق، ورعاية المصالح أمر حقيقي في نفسه لا يختلف فيه، فهو سبب الاتفاق المطلوب شرعا، فكان اتباعه أولى ؛ وإلى نفس المعنى ذهب الإمام مالك .[22] كما أن المؤيدون لحق الكد والسعاية قاسوا حق “الكد والسعاية” على حق “الشراكة” لتشابههما في كثير من الوجوه؛ فالحياة الزوجية شراكة بين الزوجين؛ فكما أنهما شريكان في تحمل أعباء الأسرة وتدبير أمورها، فهما شركاء كذلك في الممتلكات التي كوناها أثنا ء زواجهما؛ فللزوجة حق في هذه الممتلكات؛ بقدر كدها وتحملها وتعاونها مع زوجها، وتوفير وقته وجهده لتأمين حياة كريمة لهما ولأسرتهما؛ فهل بعد هذا العمر الطويل من الكد والتحمل من قبل الزوجة والأبناء، يتزوج الرجل بفتاة صغيرة تتسلط على هذه الأموال ثُم ترث بقدر ما ترث الزوجة الأولى؛ فأيها السادة: إن هذا ينافي العقل والمنطق الذي كرم الله به بنِي آدم. كما أن هناك ما يسمى بأنسنة القوانين، وهو أن يكون القانون إنسانيا وليس جامدا متحجرا لا يراعى فيه الحقوق حتى ولو كانت واضحة مثل عين الشمس، بل يستند إلى تفاسير قد تحتاج إلى تجديد وتطوير في بعض موادها لمراعاة التحولات الاجتماعية المعاصرة.
- تقييد المباح: ذهب علماء السلف والخلف إلى جواز تقييد المباح للضرورة والحاجة إذا توفرت الشروط والضوابط التي تتحقق معها المصلحة المقصودة من التقييد، وهذا ما جرى العمل به في عهد النبي ﷺ ثم في عهد الخلفاء الراشدين والصحابة أجمعين، وأتباعهم من بعدهم إلى زماننا هذا. [23] والتقييد يرجع لولي الأمر وتحت إشراف لجنة من الفقهاء الشرعيين والخبراء المختصين الذين لهم قدرة كبيرة على الحركة والتعاطي المادي والمعنوي مع النصوص والقواعد الشرعية في تحقيق مصالح الأمة، وتحصيل مقاصد الشريعة بكل ما ينفع الناس في الدارين، ويبعد الشر عنهم وفق القواعد والأصول المستنبطة من الكتاب والسنة، كقاعدة: “تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة”، ونحوها. [24] وفي عصرنا الحالي تم تقييد المباح في موضوع تحديد سن الزواج للمرأة والرجل، وهو لم يحدد في الكتاب ولا في السنة، ففي القانون المصري مثلا أصدر وزير العدل القرار رقم 6927 لسنة 2008 م الذي ينص على أنه ” ولا يجوز مباشرة عقد الزواج أو المصادقة على زواج ما لم يكن سن الزوجين ثمان عشر سنة وقت العقد”. ولكن لو حصل الزواج قبل هذه السن عد صحيحا ويوثق بعدها كما قال د. عبدالقادر جدي، وفي ذات الوقت تعتبر مخالفة قانونية قد تعود بالضرر على المرأة أو الرجل.
وعلى ضوء ما سبق نقول: إن النص المقدس يخاطب العقول، أما غير العاقل فهو ليس مكلفا، وأن الأحكام الشرعية يجيزها العقل وجودا وعدما. [25] صحيح أن دور العقل احترام الأحكام الثابتة وتفسير حكمها ومصالحها والاجتهاد في تنزيلها، إلا أن العقل الذي وهبنا الله كذلك وفضلنا به على كثير ممن خلق هو من يصنع القانون الدنيوي وليس العكس؛ وتفرد الإسلام بالعقلانية ولذلك كانت آيات الكتاب لقوم يعقلون ويتفكرون ويتدبرون، وفيه دعوات للنظر والتأمل { قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون } ( يونس:101، ) { أَفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت * وإلى السمآء كيف رفعت * وإلى الجبال كيف نصبت * وإلى الأَرض كيف سطحت } ( الغاشية: 17-22 ).
ت – زواج المسنين من منظور اجتماعي
وزواج كبير السن بفتاة تصغره بعشرين سنة وأكثر له عواقب اجتماعية جسيمة غالبا على الفرد والأسرة والمجتمع يمكن أن نراها من خلال معايشتنا للأحداث الاجتماعية، ويترتب عليه فقدان هذا الزواج للتوافق والتكافؤ بين الزوجين من حيث متطلبات مرحلة الشباب للفتاة ومرحلة الكهولة للرجل نفسيا، من تبادل الأحاسيس والمشاعر إلى الحاجات الجسدية من حيث القدرة على تلبية رغبات الغريزة، وكذلك الفجوة الثقافية والفكرية، فالفجوة بين الأجيال حقيقة لا يمكن تجاهلها؛ فقيام الأسرة على أسس مادية بحتة وسوء نية قد يؤدي إلى أضرار نفسية للجانبين قد ينتج عنها الخيانة الزوجية أو الطلاق أو الإضرار بكبير السن، فضلا عن التبعات والمشكلات الاجتماعية واللجوء للمحاكم بسبب الميراث.
ضياع الحقوق قد تكون بمساندة القانون أحيانا
وينظر البعض إلى أن استيلاء الفتاة على جزء كبير من الميراث كجزء من تبعات هذه الزيجة، كنوع من التجنِي على إرث الزوجة الأولى والأبناء وسلب لحقوقهم الشرعية، فالزوجة الأولى قدمت تضحيات كبيرة لنمو أسرتها اجتماعيا واقتصاديا، وأبناء المتوفى الذين ساهموا في البناء الاقتصادي للأسرة؛ يجدون أن هذه الزوجة الجديدة التي لم تبذل أدنى مجهود ودخلت على الأسرة بحسن نيِّة أو سوء نية (لا يمكن إثباتها قانونيا) سوف تشارك الزوجة الأولى في ثمن الميراث، وهي مفسدة تضر بالأسرة والمجتمع وتسبب الفوضى والعداوات وضياع الحقوق.
إن هذه الظاهرة إن ساندها القانون بذريعة تجميد الأحكام الشرعية التي تخلو من الاجتهاد في التفاصيل المستجدة بحكم الزمان والمكان تتحول إلى مفسدة عظيمة، خاصة مع زيادة نسبة العنوسة والفقر في العالم وطغت فكرة الفردية والمادية على الناس، فالكثير من الفتيات سيلجأن إلى الزواج من كبار السن كوسيلة مشروعة للحصول على الثراء السريع، فتصبح الأسر المستقرة مهددة ويدب فيها الخلاف والصراع المادي والمعنوي، فهنا الضرر واضح كعين الشمس.
كما ستفقد الأجيال الجديدة ثقتها بالقوانين المبنية على الأسس الشرعية، وستفقد ثقتها بأحكام الشريعة الإسلامية. لذلك فإن ضبط هذه الظاهرة هو الطريق الأنجع لتلافي أضرارها الاجتماعية، وتقييد الزواج المباح وتقنينه بشروط هو الأفضل لدفع الضرر. قال تعالى: { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون } ( البقرة :188)
5- اقتراحات لمعالجة الموضوع من أهل الاختصاص
في مقابلة مع فضيلة الشيخ الدكتور علي القرداغي رئيس اتحاد علماء المسلمين، بِّين أن الدولة لها الحق في وضع ضوابط وتقنين هذا النوع من الزواج مع وجود مجال للاستثناءات بعد الرجوع إلى علماء الفقه الدينِ.
واقترح ما يلي:
- يمكن للزوج كبير السن أن يقوم بتوزيع جزء من أمواله (قد يصل إلى 75%) قبل الزواج الثاني على ورثته من زوجة (إن وجدت) وأبناء، ويترك الجزء المتبقي من المال للورثة من الزوجة الأولى والثانية والأبناء.
- يمكن للدولة أن تقيد المسألة بوضع حد أعلى وحد أدنى للمال الذي يتم توزيعه على الورثة قبل زواج كبير السن من زوجة أخرى.
وهذه الاقتراحات أدعى لحفظ الحقوق ودفع الضرر والتيسير على الناس، والحد من العبث بميثاق الزواج وحفظ الأسرة التي هي نواة المجتمع واستقراره.
كما أن التجديد في قوانين الأسرة واجب لتغِّير المكان والزمان والحال والعرف، وتغِّير المعلومات وحاجات الناس وتغِّير الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وتغير الرأي والفكر. [26]
وفي مقابلة مع الدكتور خالد محمد إبراهيم محمود [27] قال أن تقييد المباح في هذه الدراسة أمر جيد ويقلل من الاستغلال ويبين الزواج الصحيح من الزواج العبثي.
وفي مقابلة أخرى، مع الدكتورة شريفة العمادي، المدير التنفيذي لمعهد الدوحة الدولي للأسرة، رأت أن زواج كبار السن من فتيات بعمر بناتهم ليس سوى نوع من الاستغلال في غالبه الأعم، مما يفرغ الزواج من معناه الشرعي والاجتماعي، وأكدت أن من الأهمية بمكان في مثل هذه الزيجات إعلام الزوجة الأولى بموضوع الزواج، إضافة إلى حل مشكلة الميراث قبل الإقدام على هذه الخطوة، لأن تجاهل ذلك يؤدي إلى التنازع واللجوء إلى القضاء والمحاكم وهو ما يترتب عليه تداعيات مادية ومعنوية على الأسرتين.
وفي مقابلة مع الدكتور عبدالقادر جدي قال أن هناك ما يسمى بحق الكد والسعاية عند المالكية كفيل بحل معضلة حقوق الزوجة في أموال زوجها وثروته إذا كان لْا جهد في تنميته .
وأيضا، لعل لجوء الزوج كبير السن (المتزوج بأخرى) إلى حل مشكلة الميراث قبل وفاته ستكون له انعكاسات إيجابية كثيرة منها الحد من المشكلات الأسرية، وتخفيف قضايا التركات التي تعج بها المحاكم وتأخذ سنوات للفصل فيها ما يترتب عليه من إهدار للأموال وضياع لمصالح البلاد والعباد خاصة لمن يمتلكون عقارات ومصانع ونحوها، وتحمي كبير السن من الاستغلال والضرر .
ومن خلال المعطيات السابقة توصلت الباحثة إلى مجموعة من النتائج والتوصيات كالآتي:
6- النتائج والتوصيات
- وجود ظاهرة غير صحية في المجتمع القطري والمجتمعات العربية والإسلامية وهي زواج الفتيات من المسنين الأثرياء (sugar daddy) بهدف الوصول الى الثراء السريع.
- بعض قوانين الأسرة المستمدة من القوانين الشرعية قد لا تتماشى مع مستجدات العصر والتحولات الاجتماعية المعاصرة (مع الإيمان بأن الإسلام صالح لكل زمان ومكان) فهي قوانين وضعيه لها قيمتها، ولكن قد تحتاج إلى تطوير وتحسين للحفاظ على حقوق الزوجة الأولى والأبناء بما يضمن سلامة الأسرة والمجتمع ، فدرء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
- تطوير القانون أو تغييره يحتاج إلى رجال الفقه الدينِ ورجال القانون وقد يأخذ ذلك وقتا طويلا، لذلك يمكن اللجوء إلى الاستثناءات وإلى أحكام خاصة لبعض الأسر تأسيا بالرسول ﷺ والخلفاء الراشدين؛ فمن المعلوم أن الكثير من الأمور الاجتماعية لها خصوصيتها حسب البيئة التي نشأت فيها، فلقد اقتضت سنة الله سبحانه وتعالى في خلقه أن يكونوا مختلفين، ولذلك نجد أن الثقافات تختلف من مجتمع لآخر ومن أسرة لأخرى ومن فرد لآخر، فكل إنسان هو كينونة خاصة، لذلك ولحفظ الحقوق وتحقيق المقاصد الشريعة الإسلامية يمكن اللجوء إلى تقييد المباح إذا كان فيه مصلحة للناس ودفع الضرر عنهم.
- وهناك تجربة من دول مجاورة، فنجد القانون الإماراتي يقرر عدم إجراء عقود الزيجات بين من تتفاوت أعمارهم بنسبة الضعف أو أكثر إلا بعد علم كلا الطرفين بواقع الآخر وموافقته على ذلك، وبعد أخذ إذن من القاضي حيث يقدر المصلحة في ذلك الزواج من عدمه وجعل له القانون حق عدم السماح إن لم ير مصلحة ظاهرة في ذلك .[28]
- الزواج مباح للجميع بضوابطه، ولكن نرى أن وضع قانون لضبطه وتنظيمه في حالة كبير السن المقبل على الزواج الثاني أو الثالث من صغيرة السن قبل العقد مهم جدا لحفظ حقوق الزوجة الأولى والأبنا ء في الميراث. وكما بينا سلفًا، يقترح الشيخ الدكتور علي القُرَداغي توزيع نسبة معينة لممتلكات الأسرة التي بيد كبير السن على زوجته الأولى وأبنائه (وتحت إشراف علماء متخصصين في الميراث وقانونيين)، وهو حل يساعد على حفظ الحقوق من عبث العابثين والخداع والتدليس.
- قانون تقييد المباح يساعد في معرفة حسن النية من عدمها من قبل الفتاة، فلها أن تتزوج من كبير السن أو لا بعد اطلاعها على قانون توزيع ممتلكات كبير السن بعد الوفاة.
أما في حالة عدم وجود القانون المقيِّد، فإن تحديد لجنة خاصة لتولي البحث والقضاء في بعض الحالات لميراث كبير السن الثري بعد وفاته مهم جدا للحفاظ على المال وعدم وصوله لغير مستحقيه. - في القضايا الشرعية ليس كل شيء يحل ويعالج بالتشريع والقوانين، بل الجانب التوعوي والتنبيه والتحذير مهم جدا، فتوعية كبير السن المقبل على الزواج من يافعة وتنبيهه بالنتائج المترتبة على هذا الزواج نفسيا ومعنويا وماديا مهم جدا، كذلك تنبيهه بحقوق الزوجة الأولى والأبناء والحفاظ على حقهم في الميراث تجنبا للخلافات والدخول في قضايا ورفعها للمحاكم التي تأخذ وقت طويل للبت فيها مما يؤثر نفسيا وماديا على الأسرة واقتصاديا على ا لمجتمع. وقد يتولى هذه المهمة جهة التوثيق على عقود الزواج أو القاضي المختص بذلك.
- يستحسن توزيع الميراث لكبير السن في حياته، وأيضا توزيع الميراث قبل الاقدام على الزواج الآخر لما له من فضائل مثل: حفظ الحقوق وعدم الاضرار بالأسرة، وعدم خلق التوتر والنزاع بين المستحقين للميراث ومنع غير المستحقين من التعدي على ممتلكات الزوجة والأبناء، وأخيرا وليس آخرا يقلل من حجم القضايا المتعلقة بالميراث في محكمة الأسرة التي تكتظ بمثل هذه القضايا وتأخذ سنوات للحكم فيها مما يسبب الضرر المادي للأسرة والمجتمع والدولة.
- الفحص الطبي المسبق لكبير السن للتأكد من أهليته الكاملة للزواج نفسيا وجسديا؛ وأن يكون للقاضي الحق في نقض هذا الزواج إذا لم يتوفر شرط الأهلية وتم الزواج .
- إطلاع الزوجة الأولى على الزواج الثاني للزوج، لأن هناك حالات عديدة تتفاجأ الزوجة والأبناء بوجود زوجة أخرى بعد وفاته.
- أن الشرع والقانون والعقل والمنطق لا يقبل أن ترث الزوجة صغيرة السن الأموال التي قد تصل إلى الملايين لأنها قضت مع المسن دقائق أو أيام معدودة أو شهر أو لم يدخل بها أصلا وتوفي عنها، ثُم تتشارك مع الزوجة الأولى التي قضت معه 30 سنة فأكثر وكان لْا دور كبير في البناء الاقتصادي للأسرة الثمن من الميراث أو الربع، لذلك يجب مراجعة القوانين الوضعية في مسألة زواج كبار السن وتوزيع الميراث لحفظ الحقوق ، وحفظ الأسرة المسؤولة عن نهضة المجتمع ماديا وأخلاقيا ،ويوضع قانون مفصل لهذه الحالات المستجدة، كمراعاة إذا دخل بها الزوج أو لم يدخل بها، والفترة التي عاشت معه، وإذا كان أحد الزوجين في مرض الموت.
- وكما قلنا سابقا ان في القضايا الشرعية ليس كل شيء يحل ويعالج بالتشريع بل الجانب التوعوي والتنبيه والتحذير له دور أكبر؛ لذلك اطلاع الفتاة المقبلة على الزواج من كبير السن بأن حقها في الميراث سيكون وفق ضوابط معينة ؛ وقد يكون هذا الشرط غريبا في مجتمع تحكمه الشريعة الإسلامية ولكن قد يكون منجاة لكبير السن من التعرض للأذى، وحفظ لحقوق الزوجة الأولى والأبنا ء؛ ويمكن قياس ذلك على قانون تحديد سن الزواج للشاب والفتاة الذي كان غريبا في بدايته ولكن تم تطبيقه لوجود المصلحة بعد الرجوع الى علماء الدين والقانون والاجتماع .
- عمل أبحاث مجددة ومطورة لبعض القوانين الحالية من قبل أهل الاختصاص من القضاة ورجال القانون وعلماء الدين والاجتماع بالرجوع إلى القضايا المطروحة في محاكم الأسرة وتماشيا مع مستجدات العصر وتثبيت قاعدة أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان.
- التطبيق العملي لهذه المنجزات العلمية من أهل الاختصاص وتنزيل الحكم على الواقع المعاصر، وهذا التطبيق يحتاج الى إرادة سياسية ووعي ثقافي ودينِ لتنزيل هذه الاجتهادات في واقع المسلمين وصياغتها بشكل مواد وقوانين للتقاضي في محاكمنا.
- التوعية الأخلاقية للناس ونشر الفضائل في المجتمع من قبل مؤسسات التعليم والإعلام والمراكز الدينية والمساجد ومؤسسات المجتمع المدني، ونشر الوعي القانوني في المجتمع حتى يفهم الناس واجباتهم وحقوقهم، وهو سبيل للحفاظ على التماسك الأسري والمجتمعي.
- حماية المجتمع من مفسدة عظيمة تهدد الأسر التي هي نواته ومركز ثقله وسبب نهضته، ومن عبث العابثين بميثاق الله الغليظ، فالقاعدة الفقهية التي قررها العلماء تقول: (من تعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه)، فمع انتشار ظاهرة العنوسة والطلاق وأيضا الفقر والبطالة وفرض العولمة والرأسمالية، قد تلجأ الفتيات الى استغلال كبار السن في الخروج من هذا المأزق والوصول الى الثراء السريع ليتماشوا مع العالم المادي المعاصر، مما يعد سبيل لنشر الغش والخداع وإباحته بين الناس بمساندة الشرع والقانون لذلك وجب التصدي له .
- علاج الظواهر الاجتماعية السلبية المتفشية في المجتمع من طلاق وعنوسة وبطالة حتى تستقر الأسر وينهض المجتمع .
- حماية الأجيال الحاضرة والقادمة من فقدان ثقتها بالقانون والأحكام الشرعية التي تشجع العبث بالزواج وتضيع الحقوق، فكثير من الشباب الذين تحولوا للإلحاد (أو البعد عن الدين) كانت لهم تجارب سلبية مع القانون الوضعي أو تطبيق غير حقيقي للأحكام الشرعية.
- عمل ندوات ومحاضرات لمناقشة ظاهرة زواج كبار السن من يافعات من زوايا نفسية واجتماعية واقتصادية وقانونية وما يترتب عليه من مصلحة أو مضرة للأسرة والمجتمع.
- وفي حال نالت الدراسة اهتمامكم، سيتم استكمالها ميدانيا بعمل مقابلات وتوزيع استبانات لمعرفة الآراء والاتجاهات ومدى تأثير هذه الظاهرة على الأسرة والمجتمع، تحت رعايتكم وتوصية منكم.
7- الخاتمة
لقد كرم الله الانسان بالعقل، والعقل هو من ينتج ويصيغ القانون، فالأقدمون صنعوا بعقولهم القوانين التي تضبط حياة الإنسان وتمنع الظلم والجور عنه، ويجب علينا أن نجدد في بعض القوانين ونطورها بما تقتضيه المصلحة العامة في حياتنا المعاصرة، ولا نكون عبيدا لا تسيرنا حيثما شاءت.
ومن مسؤولية علماء الأمة الدراية والاطلاع على معارف العصر وفقه الواقع ومصالح الناس ومقتضيات الاجتهاد والتجديد وفق المقاصد والأولويات والامكانيات الشرعية المعتبرة.
فالزواج سنة من سنن الله في خلقه، وهو مرتبط بتحقيق مقاصد كبرى وغايات عظمى بينتها الشريعة الإسلامية السمحاء، التي نظرت إليه نظرة سامية فيها توازن واعتدال بين جوانبه المادية والروحية بما يحقق مقتضيات تلك المقاصد.
وفي ظل التحديات التي تتهدد مؤسسة الزواج، ومع انتشار صور زيجات لا تتحقق بها المقاصد التي أرادها الشارع الحكيم، وإن كانت في ظاهرها صحيحة، مثل زواج كبار السن من فتيات في مقتبل العمر لأهداف وغايات بعيدة عن المنهج الذي أرشد إليه الإسلام؛ يتوجب إعادة النظر في مثل هذه الزيجات بما يحفظ مؤسسة الزواج من العبث الذي يهدد كيان الأسرة ويقوض أسس المجتمع.
إن ظاهرة زواج الفتيات من كبار السن أصبح ( إتجاه/نزعة – trend) تتناقله أجهزة الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، وتتولد عنه الكثير من المشكلات الاجتماعية والأسرية منها ما يرتبط بالميراث وتوزيع التركات، وهو ما يفرض على المشرع إعادة النظر في القوانين الحالية، ليس باتجاه منع ما أحل الله من “الزواج” ولكن من باب تقييد المباح، ووضع اشتراطات وضوابط للحد من المشكلات التي تترتب على هذا النوع من الزواج تحقيقا لمقاصد الشريعة.