تحاول هذه الورقة البحثية أن تجيب عن سؤال التشريع في السنة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والتسليم، وما مدى صحة هذا التقسيم المعرف في عصرنا بالسنة التشريعية وغير التشريعية الذي ظهر عند المعاصرين، وهل له جذور تراثية تدل على صحته، وهل هناك حاجة ماسة إلى هذا التقسيم في واقعنا المعاصرمن حيث اللوازم والآثار، وهو من مباحث علم أصول الفقه ذلك لأن مباحث السنة النبوية من أهم عناصر مباحث علم أصول الفقه، هذا مع وجود اختلافات نظرية بين المحدثين والأصوليين في مقاربتهم للسنة النبوية من جهة الثبوث ومن جهة الدلالة على الأحكام .
وسيكون عرض هذا الموضوع من خلال بيان العناصر التالية:
1-السنة النبوية بين المحدثين والفقهاء.
2-حول مفهوم التشريع الإسلامي.
3-تقسيم السنة إلى تشريعية وغير تشريعية.
4-لوازم القول بتقسيم السنة النبوية إلى تشريعية وغير تشريعية.
وسأحاول جهد الإمكان عرض هذه العناصر بشكل مختصر، وهو بناء مفاهيمي نؤسس به لموضوعنا حتى نستطيع أن نجيب عن السؤال الذي حرك البحث وأثار الإشكال في عصرنا.
و هو سؤال التشريع وغير التشريع في السنة النبوية.
1- السنة النبوية بين المحدثين والفقهاء
من الأمور العلمية المستقرة عند علماء المسلمين، أن السنة النبوية هي المصدر الثاني من مصادر التشريع الاسلامي، فهي من حيث الرتبة تاتي بعد القرآن وهذا مما لا يختلف فيه المحدثون والأصوليون، يقول الله تبارك وتعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا(59 النساء﴾.
ويقول النبي ﷺ ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه[1].
وهذا التعبير يفهم منه تأخر السنة في الرتبة عن القرآن من حيث التشريع، إذ القرءان هو الأصل وهو المهيمن على السنة وإنما السنة جاءت لبيان ما قرره القرءان من جهات متعددة، أما استقلالها بالتشريع فقد جرى فيه الخلاف بين الجمهور وبعض علماء الحديث، إذ الجمهور على أنها بيانية وعلى هذا الشافعي والشاطبي[2].
والسنة هي كل ما نسب إلى رسول الله تعالى من أقوال غير القرآن، وأفعال وتقريرات وتروك .
ولا شك أن بين المحدثين والأصوليين فوارق في المنهج الذي يسلكونه في التعامل مع نصوص السنة النبوية، لكنهم متفقون على أنها تأتي بعد القرآن رتبة ولا تنسخ السنة القرآن كما هو مذهب الجمهور، خلافا لابن حزم والشيخ محمد الامين الشنقيطي في أضواء البيان ومذكرة الأصول…فالضعيف -رتبة- لا ينسخ القوي كما يقول الشافعي.
يقول ابن رشد في كتابه الضروري في أصول الفقه[3]:
في الأصل الثاني وهو السنة..وقول رسول الله ﷺ حجة لدلالة المعجزة على صدقه وهو حجة بنفسه على من سمعه مشافهة.
فأما نحن فلم يبلغنا قوله ﷺ إلا على لسان المخبرين، إما بطريق التواتر، وإما بطريق الآحاد. ولذلك ينقسم القول في الأخبار إلى هذين القسمين، ويعمهما بيان مراتب ألفاظ الصحابة رضي الله عنهم في نقل الاخبار، وهي مراتب.[4].
ففي هذا النص الرشدي يبرز لنا ابن رشد طريقة تعامل العقل الاصولي مع الأخبار وأن طريقتهم تتجه نحو الثبوت وطريقة إثبات هذا الثبوت ودلالته.
يقول الشيخ الطاهر الجزائري في توجيه النظر إلى أصول أهل الأثر:
والحديث عند الاصوليين: أقوال النبي ﷺ، وأفعاله. ويدخل في أفعاله تقريره، وهو عدم إنكاره لأمر رآه أو بلغه عمن يكون منقادا للشرع.
وأما ما يتعلق به عليه الصلاة والسلام من الأحوال، فإن كانت اختيارية فهي داخلة في الأفعال، وإن كانت غير اختيارية كالحلية، لم تدخل فيه، إذ لا يتعلق بها حكم يتعلق بنا. وهذا التعريف هو المشهورعند علماء أصول الفقه، وهو الموافق لفنهم[5].
أما المحدثون فطريقتهم مخالفة للأصوليين والفقهاء..
يقول الشيخ الطاهر الجزائري رحمه الله:
كل ما يضاف إلى النبي ﷺ من أقواله وأفعاله، وأحواله فيدخل في ذلك أكثر ما يذكر في كتب السير، كوقت ميلاده ومكانه ونحو ذلك. وهذا التعريف هو المشهور عند علماء الحديث وهو الموافق لفنهم[6].
ولا شك أن السنة أعم من الحديث من حيث الاطلاق وفي هذا يقول ابن تيمية:
الحديث النبوي عند الاطلاق ينصرف إلى ما حدث به عن النبي ﷺ بعد النبوة، من قوله وفعله وإقراره، فإن سنته ثبتت من هذه الوجوه الثلاثة.
فإذا أطلق حديث رسول الله ﷺ دخل في مسمى حديثه: ذكر ما قاله بعد النبوة، وذكر ما فعله بعد النبوة، فإن أفعاله التي أقر عليها حجة، لا سيما إذا أمرنا أن نتبعها، كقوله ﷺ صلوا كما رأيتموني أصلي[7].
وليس صحيحا ما يذكره الدكتور حاتم العوني الشريف[8] من عدم وجود فوارق بين المحدثين والأصوليين في تعاملهم مع السنة النبوية، فهذا مما علم واستفاض في الدرس الأصولي والذي تكفلت به رسائل جامعية نذكر منها رسالة الأخ الدكتور معتز الخطيب رد المتن بين الاصوليين والمحدثين[9].
فنظر الأصولي غير نظر المحدث كما مر معنا من كلام ابن رشد والشيخ الطاهر الجزائري، وعلى هذا الملحظ ينبغي أن ننتبه إلى أن نظرنا إلى قول المتكلمين المعاصرين في تقسيم السنة إلى تشريعية وغير تشريعية سيكون بحسب النزعة العلمية التي يصدر عنها كل باحث ومؤلف في هذا الموضوع.
فالمحدث يراعي جانب النسبة إلى رسول الله ﷺ مطلقا، والأصولي ينظر إليها من جهة الحجية ودلالتها على معاني التشريع.
ولا يعنينا في مقاربتنا هاته التعرض لأطروحة محمد شحرور حول السنة النبوية التي يعتبرها عبارة عن وثائق تاريخية لا غير، فهذه القراءة الشحرورية المتهافتة للوحي وللسنة النبوية مجالها الدراسات النقدية التفكيكية لأطروحات الفكر الفوضوي المعلمن الذي لا ضابط له يضبطه مع ما عرف عنه بالتنكب عن طرائق العلماء في النظر والاستدلال، وهو القانون الكلي المقرر في مدونات علم أصول الفقه.
2- حول مفهوم التشريع الاسلامي
الشرع هو: “ما شرعه الله عل ىلسان نبيه من أحكام” والمصدرالأساسي للشرع الإسلامي هوماجاء من عندالله تعالى في قرآنه وما جاءعن طريق رسول الله ﷺ، فالقرآن والحديث،هما الوحيان والمصدران اللذان يعتمدعليهما، من جهة الأصل والمورد. والإجماع والقياس وباقي الأدلة فروع عنهما، والأحكام الشرعية مذكورة في القرآن والحديث إما على وجه الإجمال أو بصورة كلية أو جزئية يتم التنصيص فيها على الحكم الشرعي…، وهذا يستلزم وجود أدلة الاستنباط للأحكام الشرعية، بطريق الاجتهاد وتسمى هذه الأدلة أصول الأحكام، وهي التي يبحث فيهاعلم أصول الفقه.
وبديهي أن التشريع الاسلامي هو ما نسب إلى الشرع بوجه من الوجوه، بحيث يقال هذه شريعة الله..أو هذا شرع الله وهذه أوامره وتلكم نواهيه..
و الشريعة هي القسم القانوني المكون للدين الإسلامي، والدين الإسلامي شريعة وعقيدة وأخلاق وعبادات[10].
قوله تعالى : ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ﴾ [الشورى: 13]
يقول الإمام القرطبي في تفسير هذه الآية الجامعة:
قوله تعالى : شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا فيه مسألتان الأولى : قوله تعالى : شرع لكم من الدين أي : الذي له مقاليد السماوات والأرض شرع لكم من الدين ما شرع لقوم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ، ثم بين ذلك بقوله تعالى : أن أقيموا الدين وهو توحيد الله وطاعته ، والإيمان برسله وكتبه وبيوم الجزاء ، وبسائر ما يكون الرجل بإقامته مسلما . ولم يرد الشرائع التي هي مصالح الأمم على حسن أحوالها ، فإنها مختلفة متفاوتة ، قال الله تعالى : لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا وقد تقدم القول فيه . ومعنى ( شرع ) أي : نهج وأوضح وبين المسالك . وقد شرع لهم يشرع شرعا أي : سن . والشارع : الطريق الأعظم . وشرعت الإبل إذا أمكنتها من الشريعة . وشرعت في هذا الأمر شروعا أي : خضت .
الثانية : قال القاضي أبو بكر بن العربي : ثبت في الحديث الصحيح أن النبي – ﷺ – قال في حديث الشفاعة الكبير المشهور : ولكن ائتوا نوحا فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض فيأتون نوحا فيقولون له أنت أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض . . . وهذا صحيح لا إشكال فيه ، كما أن آدم أول نبي بغير إشكال ،لأن آدم لم يكن معه إلا نبوة ، ولم تفرض له الفرائض ولا شرعت له المحارم ، وإنما كان تنبيها على بعض الأمور واقتصارا على ضرورات المعاش ، وأخذا بوظائف الحياة والبقاء ، واستقر المدى إلى نوح فبعثه الله بتحريم الأمهات والبنات والأخوات ، ووظف عليه الواجبات وأوضح له الآداب في الديانات ، ولم يزل ذلك يتأكد بالرسل ويتناصر بالأنبياء – صلوات الله عليهم – واحدا بعد واحد وشريعة إثر شريعة ، حتى ختمها الله بخير الملل ملتنا على لسان أكرم الرسل نبينا محمد ﷺ.
فكان المعنى أوصيناك يا محمد ونوحا دينا واحدا ، يعني في الأصول التي لا تختلف فيها الشريعة ، وهي التوحيد والصلاة والزكاة والصيام والحج ، والتقرب إلى الله بصالح الأعمال ، والزلف إليه بما يرد القلب والجارحة إليه ، والصدق والوفاء بالعهد ، وأداء الأمانة وصلة الرحم ، وتحريم الكفر والقتل والزنى والأذية للخلق كيفما تصرفت ، والاعتداء على الحيوان كيفما دار ، واقتحام الدناءات ، وما يعود بخرم المروآت ؛ فهذا كله مشروع دينا واحدا وملة متحدة ، لم تختلف على ألسنة الأنبياء وإن اختلفت أعدادهم ؛ وذلك قوله تعالى : أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه أي : اجعلوه قائما ، يريد دائما مستمرا محفوظا مستقرا من غير خلاف فيه ولا اضطراب ، فمن الخلق من وفى بذلك ومنهم من نكث ؛ فمن نكث فإنما ينكث على نفسه.
واختلفت الشرائع وراء هذا في معان حسبما أراده الله مما اقتضت المصلحة وأوجبت الحكمة وضعه في الأزمنة على الأمم. والله أعلم. قال مجاهد : لم يبعث الله نبيا قط إلا وصاه بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والإقرار لله بالطاعة ، فذلك دينه الذي شرع لهم ، وخص نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى بالذكر لأنهم أرباب الشرائع .
فهذا الكلام الذي سقناه من كلام القرطبي رحمه الله يختصر لنا مفهوم التشريع الإسلامي في القرآن بفهومه العام الذي يمكن أن نعرفه بأنه:
كل ما نسب الى الشريعة من أحكام سواء كانت عقائدية أو عبادية أو أخلاقية.. مما يزيد من قلقنا المعرفي عن تحقيق وجودي لمسمى السنة التشريعية وغير التشريعة.
إذ إن للشريعة هاهنا معنى خاص غير المعنى العام.. فالشريعة بالمعنى الأعم هي الموافقة لتعريفنا حيث يشترط ورودها عن الشارع فتشمل الدين كله عقائد وأخلاقا وعبادات.
أما عند إطلاق المعنى الأخص فالشريعة يقصد بها الأحكام التشريعية التي تعني الفتاوى والأحكام القضائية الملزمة، والتي لا تخص الأخلاق والمسائل الحياتية العادية التي جرت بها عادة الناس.
وللتشريع الاسلامي خصائص معروفة يمتاز بها كالربانية والأخلاقية والشمولية والاستيعاب..وهذا له مجال آخر لا نطيل بذكره الآن[11].
فكل ماصدر عن الرسول فهو تشريع بالمعنى الأعم..يدخل فيه المباح باعتباره مأذونا فيه وإن كان المكلف لا يلزم به.
أما بالمعنى الأخص، فما كان من قبيل التشريع فهو الذي يفعله المكلف ويتعين عليه شريعة ملزمة، وتترتب عليه أحكام الصحة والبطلان وأحكام الثواب والعقاب.
3- تقسيم السنة إلى تشريعية وغير تشريعية
لقد اعتاد عقلنا الجمعي على الوقوع في أسر الألفاظ والمصطلحات خصوصا إذا كانت جديدة، ولها ارتباطات وسياقات سياسية واجتماعية فيبادرون إلى ذمها وردها دون نظر وفحص..
ولا زلت أذكر أن هذا التقسيم أقام زوبعة معرفية في جامعاتنا، لأنه يشم منه الترويج للعلمانية ومحاولة إلباسها لبوسا شرعيا كما يزعم ذلك أنصار المذهب الحرفي أو الظاهرية الجدد.
والحق أن هذا المنهج في التعامل مع كل جديد وتقسيم، ليس سبيلا للمؤمنين وليس سبيلا للمنهج العلمي القائم على النظر والفحص والتحليل والبيان.
ولا شك أن اعتبار موجة التطور التي يمر منها عصرنا ومجتمعاتنا، تحتم علينا التخلص وجوبا من الانفعلات وردود الافعال التي تحجبنا عن رؤية الحقائق والحقيقة التي هي مبتغى العارفين والسالكين الى الله تعالى الذي من أسمائه الحق، فعابد الحق ينبغي أن يسلك في الطريق إليه سبيل الحقائق لا سبيل الأوهام والظنون والتخرص بغير علم.
ونستشعر في هذا معنى مصطلحي الجهة والجسم في الدرس الكلامي العقائدي اللذين آثارا ردود أفعال أدت إلى شنآن وبغضاء بين المدارس الكلامية لا زالت آثارها مستمرة إلى اليوم.
وقد كان ابن تيمية موفقا حين دعى إلى ضبط مصطلح الجهة وكل مصطلح جديد قبل أي حكم عقائدي نقوم باتخاذه.
فماذا يقصد المقسمون للسنة-تشريعية غير تشريعية- بهذا التقسيم؟
أصدر الدكتور محمد عمارة بحثا يحمل هذا العنوان، وهو عبارة عن مجموعة مقالات لرواد الفكر في العصر الحديث، وهو بحث يضم أسماء علمية وفكرية وازنة..الشيخ العلامة الطاهر بن عاشور والشيخ علي الخفيف والدكتور سليم العوا والدكتور محمد عمارة[12].
وقد صدَّر الدكتور محمد عمارة هذه المقالات بكلمة مهمة تبرز قيمة السنة النبوية، حتى لا تأخذ بعض الباحثين المتسرعين ظنون وتخرصات، تحاول التقليل من شأن السنة النبوية أو الحط من قيمتها ورتبتها الوجودية.
فقال: حجية السنة النبوية هي معلم من معالم ثوابت الشريعة الاسلامية والفكر الاسلامي، وركن من أركان العلوم الاسلامية، الشرعية والحضارية على حد سواء، ولقد تلقت الامة هذه القضية بالقبول والاجماع[13].
ويقول أيضا: وفي إطار هذا الإجماع تمايزت اجتهادات العلماء في معايير الرواية والدراية المحققة لا عتماد المرويات المأثورة ضمن السنة النبوية، التي لها الحجية في الشريعة والتشريع[14].
فالسنة هي قول الرسول ﷺ وفعله وإقراره، لكن أي هذه السنة هو الحجة في التشريع والبيان للقرآن الكريم.
وأيها يدخل في العادات وطرائق العيش وطرائق العصر وثقافة العصر النبوي والسياسة المتغيرة بتغير المقاصد الشرعية والمصالح الشرعية المعتبرة، فلا تعد دينا ولا حجة في الشريعة ومصدرا للتشريع[15].
وأظن أن هذا الكلام يستفز ذهن المحدث أكثر من الفقيه والأصولي، وهو سؤال معرفي يقتضي الجواب عنه في جميع الأحوال.
يقول العلامة المفسر الشيخ الطاهر ابن عاشور في تفسير قوله تعالى وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول:
أمر الله بطاعة الله ورسوله وذلك بمعنى طاعة الشريعة ، فإنّ الله هو منزّل الشريعة ورسوله مبلّغها والحاكم بها في حضرته .
وإنّما أعيد فعل : { وأطيعوا الرسول } مع أنّ حرف العطف يغني عن إعادته إظهاراً للاهتمام بتحصيل طاعة الرسول لتكون أعلى مرتبة من طاعة أولي الأمر ، ولينبّه على وجوب طاعته فيما يأمر به ، ولو كان أمره غير مقترن بقرائن تبليغ الوحي لئلاّ يتوهّم السامع أنّ طاعة الرسول المأمور بها ترجع إلى طاعة الله فيما يبلّغه عن الله دون ما يأمر به في غير التشريع ، فإنّ امتثال أمره كلّه خير ، ألا ترى أنّ النبي ﷺ دعا أبا سعيد بن المعلَّى ، وأبو سعيد يصلي ، فلم يجبه فلمّا فرغ من صلاته جاءه فقال له : ” ما منَعك أن تجيبني “فقال : «كنت أصلّي» فقال : ” ألم يقل الله { يأيّها الذين آمنو استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم } [ الأنفال : 24 ] ” ؛
ولذلك كانوا إذا لم يعلموا مراد الرسول من أمره ربما سألوه : أهو أمر تشريع أم هو الرأي والنظر ، كما قال له الحباب بن المنذر يوم بدر حين نزل جيش المسلمين : أهذا منزل أنزلكه الله ليس لنا أن نجتازه أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال : بل الرأي والحرب والمكيدة . . . الحديث . ولمّا كلّم بريرة في أن تراجع زوجها مُغيثاً بعد أن عَتَقَتْ ، قالت له : أتأمرُ يا رسول الله أم تشفع ، قال : بل أشفع ، قالت : لا أبقى معه .
ولهذا لم يُعَدْ فعل { فُردّوه } في قوله : { والرسول } لأنّ ذلك في التحاكم بينهم ، والتحاكم لا يكون إلاّ للأخذ بحكم الله في شرعه ، ولذلك لا نجد تكريراً لفعل الطاعة في نظائر هذه الآية التي لم يعطف فيها أولو الأمر مثل قوله تعالى : { يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولّوا عنه وأنتم تسمعون } [ الأنفال : 20 ]وقوله : { وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا } [ الأنفال : 46 ] { ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون } [ النور : 52 ] ، إذ طاعة الرسول مساوية لطاعة الله لأنّ الرسول هو المبلّغ عن الله فلا يتلقّى أمر الله إلاّ منه ، وهو منقّذ أمر الله بنفسه ، فطاعته طاعة تلقّ وطاعةُ امتثال ، لأنه مبلّغ ومنقّذ ، بخلاف أولي الأمر فإنّهم منقّذون لما بلغّه الرسول فطاعتهم طاعة امتثال خاصّة .
ولذلك كانوا إذا أمرهم بعمل في غير أمور التشريع ، يسألونه أهذا أمر أم رأي وإشارة فإنّه لمّا قال للذين يأبرون النخل ” لو لم تفعلوا لصَلَح “
تضمن كلام ابن عاشور مجموعة من النقاط:
1- أن سنة النبي ﷺ وما صدر عنه كله خير.
2- ضرورة التمييز بين ما هو من التشريع وما هو من الرأي والنظر الذي لا يلزم المكلف باتباع النبي فيه.
يمكن أن نعتبر كلام القرافي هو أول قول مؤسس مفصل في بيان السنة التشريعية وغير التشريعية، وقد أشار إليه في كتابه الفروق وفي كتابه الأحكام في تمييز الفتاوى والأقضية عن الأحكام.
قال القرافي رحمه الله:
” اعلم أنَّ رسول الله – صلىالله عليه وسلم – هوالإمام الأعظم، والقاضي الأحكم، والمفتي الأعلم؛ فهو – ﷺ – إمام الأئمة،وقاضي القضاة، وعالم العلماء؛ فجميع المناصب الدينية فوضها الله تعالى إليه في رسالته… غير أنَّ غالب تصرّفه – ﷺ – بالتبليغ؛ لأنَّ وصف الرسالة غالب عليه، ثم تقع تصرفاته – ﷺ.
فمنها ما يكون بالتبليغ والفتوى إجماعاً [ كإبلاغ الصلوات، وإقامتها، وإقامة مناسك الحج ].
ومنها ما يُجمع النَّاس على أنَّه بالقضاء [ كإلزام الناس أداء الديون، وتسليم السلع،وفسخ الأنكحة ]
ومنها ما يُجمع النَّاس على أنَّه بالإمامة [ كإقطاع الأراضي،وإقامة الحدود، وإرسال الجيوش ] .
ومنها ما يختلف العلماء فيه [ كإحياءالموات، والاختصاص بالسلب لمن قتل الحربي ] (5)؛ لتردُّده بين رتبتين فصاعداً، فمنهم من يُغلِّب عليه رتبة، ومنهم من يُغَلِّب عليه أخرى.
ثم تصرفاته – ﷺ – بهذه الأوصاف تختلف آثارها في الشريعة؛ فكان ما قاله – ﷺ – أو فعله على سبيل التبليغ كان ذلك حكماً عاماً على الثقلين إلى يوم القيامة.
وكلما تصرف فيه – عليه السلام – بوصف الإمامة، لا يجوز لأحد أن يُقدم عليـه إلا بإذن الإمام … وماتصرف فيـه – ﷺ – بوصف القضاء، لايجوز لأحدأن يُقدم عليه إلا بحكم حاكم … “[16] .
ثم ختم كلامه فقال: وعلى هذا القانون وهذه الفروق، يتخرج عليك ما يرد من هذا الباب في تصرفاته ﷺ. فتأمل ذلك فهو من الأصول الشرعية[17].
الامام الدهولوي هو الاخر تعرض الى هذه القضية في كتابه حجة الله البالغة، فبين أن سنة النبي ﷺ تنقسم إلى قسمين:
أحدهما ما سبيله سبيل تبليغ الرسالة، وفيه قوله تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) -الحشر 7- . كعلوم المعاد وعجائب الملكوت..ومنه شرائع وضبط للارتفاقات…وحكم مرسلة ومصالح مطلقة، لم يوقتها ولم يبين حدودها: كبيان الاخلاق الصالحة وأضدادها…ومنه فضائل الاعمال ومناقب العمال..
وثانيها ما ليس من تبليغ الرسالة، وفيه قوله ﷺ: إنما أنا بشرإذا امرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر[18].
– وقوله ﷺ في قصة تأبير النخل فإني إنما ظننت ظنا ولا تؤاخذوني بالظن ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئاً فخذوابه، فإني لن أكذب على الله.
فمنه الطب ومنه باب قوله عليه الصلاة والسلام:« عليكم بالأدهم الأقرح ». ومستنده التجربة.
ومنه ما فعله النبي على سبيل العادةو العبادة، وبحسب الاتفاق دون القصد.
ومنه: ماذكره كما كان يذكره قومه: كحديث أم زرع، وحديث خُرافَة وهوقول زيد ابن ثابت،حيث دخل عليه نفرفقالوا له: حدثنا أحاديث رسول الله ﷺ فقال:كنت جارَه،فكان إذا نزل عليه الوحي يبعث إلي فكتبته له. فكنا إذا ذكرنا الدنيا ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الآخرة ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الطعام ذكره معنا فكل هذا أحدثكم عن رسول الله ﷺ.
ومنه ماقصد منه مصلحة جزئية يومئذ، وليست من الأمور اللازمة لجميع الأمة.
وذلك مثل ما يأمر به الخليفة من تعبئة الجيوش، وتعيين الشعار؛ وهو قول عمرر ضي الله عنه مالنا وللرمل، كنا نتراءى به قوما أهلكهم الله ثم خشي أن يكون له سبب آخر.
وقد حملت كثير من الأحكام عليه، كقوله ﷺ «من قتل قتيلاً فله سلَبُه » ومنه حكم وقضاء خاص، وإنما كان يتبع فيه البينات والأيمان، ومنه قوله ﷺ لعلي: الشاهد يرى مالايرى الغائب[19].
ففي كلام الإمام الدهلوي بيان لما يلزم الامة مما لا يلزمها من خلال ما ورد عن رسول الله من مختلف السنن.
وللطاهر ابن عاشور كلام جيد في مقاصد الشريعة وهو طويل متشعب يرى فيه رحمه الله هذه التقسيمات ويختمها بقوله: إن الهدي والإرشاد أعم من التشريع[20].
4- لوازم القول بتقسيم السنة النبوية إلى تشريعية وغير تشريعية
إذا اتفقنا على أنه لا مانع من هذا التقسيم الاعتباري للسنة النبوية، وإن لم تجر على هذا النمط المصطلحي عند المتقدمين، فإن هذه التصرفات النبوية لها لوازم..وهذه اللوازم جاءت مبينة في كلام القرافي على أربع مسائل:
المسألة الاولى:
بعث الجيوش لقتال الكفار والخوارج ومن تعين قتاله، وصرف أموال بيت المال في جهاتها وجمعها من محالها، وتولية القضاة والولاة العامة وقسمة الغنائم وعقد العهود للكفار ذمة وصلحا، هذا هو شأن الخليفة والإمام الأعظم فمتى فعل ﷺ شيئا من ذلك علمنا أنه تصرف فيه ﷺ بطريق الإمامة دون غيرها، ومتى فصل ﷺ بين اثنين في دعاوى الأموال أو أحكام الأبدان ونحوها بالبينات أو الأيمان والنكولات ونحوها، فنعلم أنه ﷺ إنما تصرف في ذلك بالقضاء دون الإمامة العامة وغيرها، لأن هذا شأن القضاء والقضاة وكل ما تصرف فيه ﷺ في العبادات بقوله أو بفعله أو أجاب به سؤال سائل عن أمر ديني فأجابه فيه فهذا تصرف بالفتوى والتبليغ فهذه المواطن لا خفاء فيها[21] .
المسألة الثانية[22]:
قوله ﷺ {} من أحيا أرضا ميتة فهي له اختلف العلماء رضي الله عنهم في هذا القول هل تصرف بالفتوى، فيجوز لكل أحد أن يحيي إذن الإمام في ذلك الإحياء، أم لا.. وهو مذهب مالك والشافعي رضي الله عنهما، أو هو تصرف منه عليه السلام بالإمامة، فلا يجوز لأحد أن يحيي إلا بإذن الإمام، وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله.
وأما تفرقة مالك بين ما قرب من العمارة فلا يحيا إلا بإذن الإمام، وبين ما بعد، فيجوز بغير إذنه، فليس من هذا الذي نحن فيه، بل من قاعدة أخرى ، وهي أن ما قرب من العمران يؤدي إلى التشاجر والفتن وإدخال الضرر فلا بد فيه من نظر الأئمة دفعا لذلك المتوقع، كما تقدم وما بعد من ذلك لا يتوقع فيه شيء من ذلك فيجوز، ومذهب مالك والشافعي في الإحياء أرجح لأن الغالب في تصرفه ﷺ هو بالفتيا والتبليغ، والقاعدة أن الدائر بين الغالب والنادر إضافته إلى الغالب أولى .
المسألة الثالثة[23] :
قوله ﷺ لهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان لما قالت له ﷺ إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني وولدي ما يكفيني فقال لها عليه السلام خذي لك ولولدك ما يكفيك بالمعروف ، اختلف الفقهاء في هذه المسألة وهذا التصرف منه عليه السلام، هل هو بطريق الفتوى فيجوز لكل من ظفر بحقه أو بجنسه أن يأخذه بغير علم خصمه به، ومشهور مذهب مالك خلافه، بل هو مذهب الشافعي.. أو هو تصرف بالقضاء فلا يجوز لأحد أن يأخذ جنس حقه أو حقه، إذا تعذر أخذه من الغريم إلا بقضاء قاض.. حكى الخطابي القولين عن العلماء..ففي هذا الحديث حجة من قال إنه بالقضاء،لأنها دعوى في مال على معين فلا يدخله إلا القضاء،ولأن الفتاوى شأنها العموم، وحجة القول بأنها فتوى ما روي أن أبا سفيان كان بالمدينة، والقضاء على الحاضرين،من غير إعلام ولا سماع حجة، لا يجوز، فيتعين أنه فتوى وهذا هو ظاهر الحديث .
[1] -أبو داود والترمذي من حديث المقدادبن معدي كرب رضي الله عنه4/280..ورواه الترمذي 4/144 وقل حديث حسن.
[2] – أنظر كتاب حجية السنة النبوية للشيخ علي الخفيف بتقديم العلامة طه جابر العلواني رحمهما الله فقيه رد على الشاطبي
[3] – الضروري في أصول الفقه ص66 مختصر للمستصفى مع زيادات رشدية
[4]- الضروري في أصول الفقه ص 66 أبو الوليد بن رشد تحقيق جمال الدين العلوي الغرب الاسلامي 1994 ط1.
[5]- توجيه النظر إلى اصول أهل الاثر1/37.
[6]- توجيه النظر إلى أصول أهل الاثر1/37.
[7]-مجموع فتاوي بن تيمية 18/6-10.
[8]-اختلاف الاصوليين والمحدثين في نقد السنة النبوية وقفة نقدية مقال منشور في موقع مركز نماء للدراسات والابحاث.
[9]-رد المتن بين المحدثين والاصوليين د.معتز الخطيب الشبكة العربية للابحاث ط-الاولى 2014م.
[10] أنظر أصول الفقه المحمدي جوزيف شاخت دار الكمدار الإسلامي.
[11]- خصائص التشريع الاسلامي عمر سليمان الاشقر وكتب اخرى.
[12]- السنة التشريعية وغير التشريعية،دار نهضة مصر للطباعة والنشريناير 2001م.
[13] – المرجع السابق ص3.
[14]-المرجع السابق ص3.
[15] – المرجع السابق ص 3.
[16] أنوار البروف في أنواع الفروق شهاب الدين القرافي، الفرق السادس والثلاثين. المكتبة العرية ط1 2003م.
[17]-الفروق الامام القرافي 1/212 المكتبة العصرية/الاحكام في تمييز الفتاوى عن الاحكام ص 29-31.
[18] صحيح مسلم،مرجع سابق،ج ٤،ص ١٨٣٥ ،حديثرقم:٢٣٦
[19]-حجة الله البالغة ولي اللله الدهلوي 271 -282.ج1/
[20]- مقاصد الشريعة الاسلامية ص 29 تحقيق الدكتور الطاهر الميساوي.
[21] – الفروق للقرافي الفرق الثالث والستون.
[22]-المرجع السابق.
[23]-المرجع السابق.
مصادر البحث ومراجعه
1- القرآن الكريم.
2-الإحكام في تمييزالفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والامام شهاب الدين الصنهاجي القرافي، تحقيق عبد الفتاح أبوغدة منشورات حلب.
3-التحريروالتنوير محمد الطاهر بن عاشور،
الدار التونسية 1984م.
3-تحقيق معنى السنة وبيان الحاجة إليها،سليمان الندوي شارك في التعليق عليها وتخريجها: محمد رشيد رضا، محب الدين الخطيب، محمد ناصر الدين الألباني، حققه وقدم لها زهير الشاويش.المكتب الاسلامي-بيروت 1994م.
4-التجديد الاصولي نحو صياغة تجديدية لعلم أصول الفقه، إعداد جماعي بإشراف أحمد الريسوني، المعهد العالمي للفكر الاسلامي -فيرجينيا 2014م.
5- الضروري في أصول الفقه أو مختصر المستصفى لأبي الوليد محمد بن رشد الحفيد، المتوفى سنة 595م.تقديم وتحقيق جمال الدين العلوي.تصديرمحمد علال سيناصر.
6-مقاصد الشريعة الاسلامية الشيخ محمد الطاهر بن عاشور تحقيق ودراسة محمد الطاهر الميساوي، دار النفائس للنشر والتوزيع الطبعة الثانية 2001م.
7-حجة الله البالغة ولي الله الدهلوي علق عليه الشريف محمد شريف سكر.دار إحياء العلوم بيروت 1992م بيروت الطبعة الثانية.
8-السنة التشريعية وغير التشريعية محمد عمارة دار التنوير2000م.
9- توجيه النظر إلى أصول الاثرالشيخ الطاهر الجزائري،تحقيق الشيخ أبوغدة المطبوعات الاسلامية بحلب.
10-الفتاوى الكبري لابن تيمية تحقيق عمر الباز أنور الجزار-دار الجيل.