كتاب “السيرة النبوية الصحيحة” بحث قيم للدكتور أكرم ضياء العمري حاول فيه إخضاع مرويات السيرة النبوية لمناهج المحدثين.

التاريخ شيخ الأضاليل، كما قال الزبيري رحمه الله، وأي تشويه للتاريخ يعني تشويه الحاضر وارتباك المستقبل، ولا أظنني أبالغ إذا قلت إن كثيرا من مآسينا الحاضرة يرجع إلى القيم والقناعات المشوهة التي تسربت إلينا عن طريق روايات تاريخية لا أساس لها من الصحة ولا الدقة.

ويكون الأمر أخطر إذا تعلق بالسيرة النبوية لما تمثله من مكانة ولما هي عليه من مقام اقتداء وأسوة، ويليها في ذلك تاريخ صدر الإسلام فهو مرحلة حساسة في التاريخ الإسلامي، ذلك بأنها مرحلة التشريع (فترة النبوة) ومرحلة روايات شهود العيان (الصحابة)، يضاف لذلك أن هناك آثارا تقول بأرجحية سنة أبي بكر وعمر على غيرها، مما يفرض توخي الحذر والدقة فيما يروى عنها، وإخضاع تاريخها لمنهج مختلف عن مناهج المؤرخين القائمة على الجمع دون تمحيص ولا روية.

والسيرة النبوية ليست من العلوم التي أنتجت علما ينقد رواياتها ويضع ضوابط للتعامل معها، فالاستنباط وضع له علم الأصول والحديث وضع له علم الرجال وعلم المصطلح، وأظن أن محاولة الشيخ أكرم ضياء العمري في كتابه: “صحيح السيرة النبوية “، كانت الأولى من نوعها في محاولة إخضاع روايات السيرة النبوية لآليات نقد الحديث النبوي.

وقد تنبه د.أكرم ضياء العمري إلى حساسية هذه الفترة وإلى ما تؤسسه أخبار وروايات غير دقيقة في السيرة النبوية من قناعات مشوهة وما تبنيه من تصورات خاطئة عن النبوة والرسالة والمنهج، فكتب بحثه القيم “السيرة النبوية الصحيحة” الذي حاول فيه إخضاع مرويات السيرة النبوية لمناهج المحدثين.

صَدَّرَ الباحث كتابه بفصل تمهيدي نفيس، وضع فيه أسس وقواعد للتعامل مع النص السيري، وهو فصل حقيق بالمدارسة والاستيعاب، فقد بذل فيه كاتبه جهدا فكريا وبحثيا واستقرائيا كبيرا.

ويفرق الباحث بين تاريخ صدر الإسلام وبين بقية التاريخ الإسلامي في نسبة الإخضاع لمنهج المحدثين، كما يفرق بين مرويات السيرة النبوية ذاته، فيرى أن الروايات الضعيفة من الناحية الحديثية ـ وليس الموضوعة ـ ينبغي ألا تستبعد بل تنبغي الإفادة منها في الموضوعات التي لا تتعلق بالعقيدة والشريعة.

ذلك بأن النص السيري في كتب الحديث لا يأخذ الطبيعة القصصية فيحتاج إلى ملء فراغاته حتى تكتمل الرواية بما لا يعود على أصلها بالتزوير أو الاختلاق.

وهناك رأي قريب من هذا للأستاذ فريد الأنصاري رحمه الله ـ ولعله إعادة صياغة لرأي العمري ـ  يرى أننا حين نتعامل مع التاريخ بطرق أهل الحديث سنسقط الجانب الاجتماعي للتاريخ، فالرواية التاريخية تحمل في النهاية تجربة مجتمع، وإنما المطلوب أن نصحح من السيرة ما تعلق بترجيح رأي وما عدا ذلك نتركه في حيز علم السيرة، بمعنى أن يكون منهج  أهل الحديث حاضرا كأداة للتعامل مع السيرة لا أن نخضعها له.

وقد استطاع أكرم ضياء بتطبيق منهجه هذا  تخليص السيرة النبوية من روايات وأخبار استقرت في المخيال العربي عبر قرون عديدة، كقصة بحيرا الراهب التي أثبت عدم صحتها مستخدما لذلك طريق نقد السند ونقد المتن.

ويشير أكرم ضياء إلى أن نقد الروايات من خلال مساءلة المتن، ليس ابتكارا في مناهج تفسير التاريخ الغربية بل كانت حاضرة في العصر الأول، لكنها لم تتبلور منها رؤية منهجية واضحة ولم تقنن قبل محاولات بن خلدون في القرن الثامن.

لكن جهود ابن خلدون في نقد الروايات التاريخية وتمحيصها لم تجد من ينهض بها بعده، وأظن أن سبب ذلك هو خلطنا بين المقدس وغيره، أو ما سماه الشنقيطي الخلط بين الوحي والتاريخ، الذي جعل وضع الخبر التاريخي أمام سؤال النقد إحدى الكبائر، فحال بيننا ـ وما زال يحول ـ وبين قراءة تاريخنا قراءة نقدية ترمم الحاضر وترشد إلى المستقبل.

لقد رفض ابن حزم في القرن الخامس الرقم الذي ذكرته المصادر الكثيرة عن عدد جند المسلمين في غزوة أحد بناء على محاكمة المتن وفق أقيسة عقلية بحتة، وقدم موسى بن عقبة غزوة بني المصطلق إلى السنة الرابعة مخالفا معظم كتاب السيرة الذين يجعلونها في السنة السادسة، وتابعه ابن القيم والذهبي بناء على نقد المتن، حيث اشترك سعد بن معاذ بالغزوة وقد استشهد في أعقاب غزوة بني قريظة.

وقد قال العراقي في ألفية الحديث:

وليسمع السامع أن السيرا

تجمع ما صح وما قد أنكرا

لكن هذا الإحساس بضعف بعض مرويات السيرة لم يمنع من تسرب كثير من الروايات المختلقة إليها، كما لم يدفع الأقدمين لوضع علم منهجي يغربل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم الذي أمرنا بالتأسي به والاقتاداء بهديه وسنته.

كما رأى الباحث أن البحوث العلمية المعاصرة التي كتبت حول السيرة النبوية قد ركزت على رد شبهات المستشرقين، فيما يرى ـ غير مقلِّلٍ من شأن تلك الدراسات ـ أن الاهتمام التاريخي ينبغي أن ينصب على إعادة البناء بدلا من رد الشبهات.

ويقدم الباحث ما يراه ملامح التصور الإسلامي للتفسير التاريخي في رأيه، ويطرح ضمنها قضية مركزية تتعلق بكيف يلزم أن يقوم المؤرخ المسلم الحقب التاريخية وكيف يحكم على الحضارات والمدنيات، فيرى أن المؤرخ المسلم لا يحكم على المستوى الذي تبلغه أي حضارة من خلال منجزاته المادية فقط، وإنما ينظر إلى القيم الروحية والخلقية، فالحضارة السامية في نظر المسلم هي التي تهيء الظروف السياسية والاجتماعية والثقافية والمادية الملائمة لتوجه الإنسان نحو توحيد الله وإفراده بالعبودية والتزام تعاليمه في كل ألوان النشاط الذي يمارسه.

والملمح الثاني هو رفض منطق التبرير كأساس لتفسير تاريخ صدر الإسلام، ذلك أن هذا المنطق ـ حسب الكاتب ـ أثر للقهر النفسي والفكري الذي أحدثه الغزو الفكر لعقول الأمة الإسلامية، كما فعل بعض الكتاب المعاصرين حين كلامه على الجهاد في الإسلام وحركة الفتوح الإسلامية واعتبارها دفاعا عن حدود شبه الجزيرة العربية أمام تحركات الفرس والروم، وأن الغزوات كانت دفاعا عن دولة المدينة.

إنها صرخة عالم بالتاريخ الإسلامي أعلنها منذ عقود، لكن عالمنا العربي لا يحتفي بالأفكار الكبيرة، فكتاب العمري بقي بين الرفوف يطلع عليه الخاصة دون أن يأخذ مكانه اللائق بين الكتب مؤثرة في حركة التاريخ والتي لا تظهر إلا كل قرن.