لا يفتأ القرآن الكريم يحض المسلم على النظر والاعتبار والتدبر والتأمل، ويدفعه إلى إعمال عقله وإجالة فكره، ويدله على الوسائل التي تعينه على ذلك، والتي من أهمها السير في الأرض.. فكيف يكون هذا السير طريقًا للتفكر والتأمل والاعتبار؟!

ولنبدأ بإضاءة لغوية على موضوعنا؛ وفيها نرى أن “السَّير” هو: المُضِيّ في الأرض. ورجلٌ سَائر وسَيَّار. والسيَّارة: الجماعة، قال تعالى: {وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ)}. ويقال: سِرْتُ، وسِرْتُ بفلان، وسِرْتُهُ أيضًا، وسَيَّرْتُهُ على التّكثير؛ فمن الأوّل قوله: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا}، {قُلْ سِيرُوا}، {سِيرُوا فِيها لَيالِيَ}. ومن الثاني قوله: {سارَ بِأَهْلِهِ}. ولم يجئ في القرآن القسم الثالث، وهو سِرْتُهُ. والرابع قوله: {وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ}، {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}([1]).

إذن، المعنى اللغوي للسير يفيد التحرك في الأرض، سواء بالنفس أو بالغير؛ فهو- أي السير- انتقالٌ في المكان.

وأما “الأرض” فهي مجال حركة الإنسان.. منها خُلق وإليها يعود: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ} (طه: 55).. إنها تمثل للمرء أُمًّا رَؤومًا، تَحتضنه وتُؤويه وتغذّيه.. ويجب عليه، في مقابل ذلك، أن يحسن الإفادة منها وأن يحفاظ عليها؛ فلا إسراف ولا تبديد: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} (الأعراف: 56).

والمراد بـ”السير في الأرض”: الانتقال والتحرك في المجال المتسع المحيط بالإنسان؛ بِقَصْدِ أَخْذ العبرة، واستنباط الفائدة، والتعرف على المخبوءات المادية (من الكنوز والثروات)، والمعنوية (من السنن والقوانين الحاكمة للنصر أو الهلاك)..فهذا “السير في الأرض”: فِعْلٌ مادي يقوم على غاية معنوية.

وقد أورد الأصفهاني كلا الأمرين، وهو يتحدث عن المقصود من هذا السير؛ فقال: وأمّا قوله: {سِيرُوا فِي الْأَرْضِ} فقد قيل: حَثٌّ على السّياحة في الأرض بالجسم، وقيل: حَثٌّ على إجالة الفكر، ومراعاة أحواله كما رُوِيَ في الخبر أنه قيل في وصف الأولياء: أبدانهم في الأرض سَائِرَةٌ، وقلوبهم في الملكوت جَائِلة([2]).

ولا منافاة بين المعنيين- المادي والمعنوي- للسير في الأرض؛ فهما معًا بمنزلة الفعل وغايته، أو الحدث وحِكمته.. فليس السير مقصودًا لذاته، أي لمطلق التحرك والانتقال؛ وإنما لِمَا يدلّ عليه من الفهم والوعي والعبرة والاتعاظ.

مقاصد السير في الأرض

وقد ورد “السير في الأرض” في القرآن الكريم ست مرات بصيغة الأمر، وسبع مرات بصيغة الاستفهام. وبالتأمل في هذه المواضع نخلص إلى أن الأمر بالسير في الأرض له أربعة مقاصد وأهداف، هي:

1- التعرف على الخَلق ودلالته على قدرة الله تعالى في الخَلق والبعث: كما في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ . قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ۚ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (العنكبوت: 19، 20).

فقد أرشد إبراهيم خليل الرحمن قومه إلى إثبات المعاد الذي ينكرونه، بما يشاهدونه فى أنفسهم من خلقهم بعد أن لم يكونوا شيئًا مذكورًا، ثم إعطائهم السمع والبصر والأفئدة، وتصرفهم فى الحياة إلى حين، ثم موتهم بعد ذلك. والذي بدأ هذا قادر على أن يعيده، بل هو أهون عليه كما قال فى آية أخرى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ، وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} (الروم: 27). وبعد أن ساق هذا الدليل المشاهد فى الأنفس، أرشد إلى الاعتبار بما فى الآفاق من الآيات المشاهدة فقال: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ، ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ): أي سيروا فى الأرض وشاهدوا السماوات وما فيها من الكواكب النيرة: ثوابتها وسياراتها، والأرض وما فيها من جبال ومهاد، وبراري وقفار، وأشجار وثمار، وأنهار وبحار؛ فكل ذلك شاهد على حدوثها فى أنفسها وعلى وجود صانعها الذي يقول للشيء كن فيكون. أَوَ ليس من فعل هذا بقادر على أن ينشئه نشأة أخرى، ويوجِده مرة ثانية وهو القادر على كل شيء؟([3]).

2- التعقل والتدبر: مثل قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج: 46)

{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ} أَيْ: بِأَبْدَانِهِمْ وَبِفِكْرِهِمْ أَيْضًا. {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} أَيْ: فَيَعْتَبِرُونَ بِهَا، {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} أَيْ: لَيْسَ الْعَمَى عَمَى الْبَصَرِ، وَإِنَّمَا الْعَمَى عَمَى الْبَصِيرَةِ، وَإِنْ كَانتِ الْقُوَّةُ الْبَاصِرَةُ سَلِيمَةً فَإِنَّهَا لَا تَنْفُذُ إِلَى الْعِبَرِ، وَلَا تَدْرِي مَا الْخَبَرُ([4]).

3- التعرف على السُّنن الإلهية في الأمم والحضارات: ولهذا جاء الأمر بالسير مقرونًا بالحديث عن السنن، كما في قوله تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} (آل عمران: 137).

والسُّنَّةُ الطَّرِيقَةُ الْمُسْتَقِيمَةُ وَالْمِثَالُ الْمُتَّبَعُ.. والْمُرَادُ: قَدِ انْقَضَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْأُمَمِ السَّالِفَةِ.. سواء أكان الْمُرَاد: سُنَنُ الْهَلَاكِ وَالِاسْتِئْصَالِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ خَالَفُوا الْأَنْبِيَاءَ وَالرُّسُلَ لِلْحِرْصِ عَلَى الدُّنْيَا وَطَلَبِ لَذَّاتِهَا، ثُمَّ انْقَرَضُوا وَلَمْ يَبْقَ مِنْ دُنْيَاهُمْ أَثَرٌ وَبَقِيَ اللَّعْنُ فِي الدُّنْيَا وَالْعِقَابُ فِي الْآخِرَةِ عَلَيْهِمْ، فَرَغَّبَ اللَّهُ تَعَالَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَأَمُّلِ أَحْوَالِ هَؤُلَاءِ الْمَاضِينَ لِيَصِيرَ ذَلِكَ دَاعِيًا لَهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الرِّيَاسَةِ فِي الدُّنْيَا وَطَلَبِ الْجَاهِ.. أو كان الْمُرَادُ: سُنَن اللَّهِ تَعَالَى فِي الْكَافِرِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ؛ فَإِنَّ الدُّنْيَا مَا بَقِيَتْ لَا مَعَ الْمُؤْمِنِ وَلَا مَعَ الْكَافِرِ، وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ يَبْقَى لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ الثَّنَاءِ الْجَمِيلِ فِي الدُّنْيَا وَالثَّوَابِ الْجَزِيلِ فِي الْعُقْبَى، وَالْكَافِرُ بَقِيَ عَلَيْهِ اللَّعْنَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْعِقَابُ فِي الْعُقْبَى. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}؛ لِأَنَّ التَّأَمُّلَ فِي حَالِ أَحَدِ الْقِسْمَيْنِ يَكْفِي فِي مَعْرِفَةِ حَالِ الْقِسْمِ الْآخَرِ([5]).

4- النظر في عواقب السابقين المكذبين: مثل قوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} (الأنعام: 11)، وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ ۗ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۗ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ۗ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (يوسف: 109)، وقوله: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ} (الروم: 42).

قال القشيري: {سِيرُوا} بالاعتبار، واطلبوا الحقّ بنعت الأفكار. {فَانْظُرُوا} كيف كانت حال من تقدّمكم من الأشكال والأمثال، وقيسوا عليها حكمكم في جميع الأحوال([6]).

إذن، “السير في الأرض” يعني الانتقال والتحرك فيها، بِقَصْدِ التعرف على دلالتها على الخالق سبحانه وقُدرتِه على بَعْثِ الناس كما بَدَأَهم.. وبقصدِ استنباط سُنَن النجاة والهلاك، حتى يسير المرء على بصيرة من أمره، ولا يلقى مصير المكذبين..

وبهذا يكون “السير في الأرض”، حقًّا، مدخلاً للتأمل والاعتبار، وطريقًا إلى معرفة الله تعالى، وإلى استيعاب التاريخ والاستبصار به في الحاضر والاستعداد للمستقبل.. وما أحوجنا لهذا السَّير وحِكْمَتِه..!


([1]) المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، ص: 433.

([2]) المصدر نفسه، ص: 433.

([3]) تفسير المراغي، أحمد مصطفى المراغي، 20/ 127.

([4]) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، 5/ 438.

([5]) مفاتيح الغيب، الرازي، 9/ 370، بتصرف يسير.

([6]) لطائف الإشارات، القشيري، 3/ 122.