جاء في سيرة الإمام “مالك بن أنس”رضي الله عنه أن أمه “عالية بنت شريك الأزدية” لها الدور الأكبر في إقباله على العلم وشغفه به حتى صار من أئمة الإسلام، بعدما حولت مساره من الغناء إلى الفقه، يقول مالك: “نشأت وأنا غلام فأعجبني الأخذ من المغنين، فقالت أمي: يا بني إن المغنى إذا كان قبيح الوجه، لم يُلتفت إلى غنائه، فدع الغناء واطلب الفقه” ولم تتوقف “عالية” عند ذلك، ولكنها سعت لغرس قوة العاطفة والدافعية والشغف في أعماق ابنها لطلب العلم، فكانت تُلبسه ما يُشبه هيئة العلماء، وبذلك أخذ مالك يتخيل نفسه عالما، فزاد شغفه بطلب العلم.
أما حياة عالم الأحياء الإيطالي ” لادزارو سبالانساني” الملقب بأبو التلقيح الصناعي في القرن الثامن عشر الميلادي، فكان هو من صنع من شغفه وإنجازاته الكبرى في علم الأحياء، فقد أصرت أسرته على أن يدرس القانون ليصبح محاميا كوالده، أما هو فكان شغوفا بالأحياء والمخلوقات، وعندما رأى في صغره أن أسرته لا تشاركه شغفه، انكفأ على ذاته ليُبقى ذلك الشغف مشتعلا في نفسه، فكان يلهو بالمخلوقات الصغيرة ويُشَرحها ويجري عليها التجارب، ومع إصراره على أن يكون شغفه هو مجال دراسته، رضخت الأسرة، وانتقل من دراسة القانون إلى الأحياء، التي وهبها تفكيره وعمره وأبحاثه.
شغف الأبناء بالعلم والهويات تُلقى الكثيرُ من مسؤولياته على الأسرة، التي يجب أن تتوقف عن الظن أن دورها، يقتصر على توفير الطعام والملبس والماديات، فدور الأسرة أعظم وأخطر، فهي العامل الرئيس في اكتشاف موهبة الأبناء، وتوجيههم للمسارات الصحيحة، التي يتحقق فيها النبوغ والتفوق، وإشباع حاجات النفس وتطلعاتها.
الشغف كلمة ترمز لشدة الرغبة تجاه شيء ما، وهي رغبة مصحوبة بعاطفة وحماسة، لذا يُعد الشغف أحد محفزات الارتقاء العلمي والفني الرياضي والمهني، وأحد معايير تحقيق الرضا، فهو قوة كامنة في أعماق النفس، تدفع إلى العمل والديمومة على الأداء والتطوير المقترن بالسعادة والرضا.
الشغف الإيجابي والسلبي
منذ عقود أصبح موضوع الشغف أحد انشغالات علماء التربية والنفس ومدربي التنمية البشرية، لدوره التحفيزي، وقدرته على إيجاد الدافعية للعمل والتطوير، ويقسم علماء النفس الشغف إلى نوعين رئيسيين، الأول: الشغف المتناغم: وهو حالة توازن ما بين قيام الشخص بأداء الأشياء الشغوف بها، إلى جانب الأنشطة الأخرى في حياته، ويكون متناغمًا عندما يعكس قيم الإنسان ويتوافق مع نقاط القوة في شخصيته، وهؤلاء الأشخاص هم من تحتاج إليهم الحياة، يقول الفيلسوف الأمريكي “هوارد ثورمان” :” لا تسأل نفسك ما الذي يحتاجه العالم، اسأل نفسك ما الذي يجعلك تنبض بالحياة، وافعل ذلك، لأن ما يحتاجه العالم هو أناس عادوا إلى الحياة” فالشغف هو عودة للحياة وانغماس بحماس في نهرها المتدفق، وهو يُحسن الصحة النفسية والبدنية.
والثاني: الشغف الاستحواذي أو الوسواسي: وهو حالة مرضية تسيطر على الإنسان، وتعيقه عن ممارسة أنشطته المتعددة في الحياة، وهذا الانغماس الكامل في الشغف ينعكس سلبا على الإنسان، ويخلق نقاطا مظلمة وخطرة في حياته، فتحكم الشغف يشبه الإدمان.
الشغف عندما يكون إيجابيا يبعث طاقة متدفقة في النفس، تحفز على الانخراط في الأنشطة التي يهواها بكل طاقته، وهذا الانغماس يقود إلى الإبداع والتفوق وتطوير قدرات الذات، وصقل الخبرات، ويتيح الشغف للفرد وضع هدف لحياته، وأوقات فراغه، وهذا يقاوم الاكتئاب والأفكار الوسواسية.
تحدث علماء عن نظرية ترتبط بالشغف، وهي نظرية تقرير المصير Self-determination theory، وهذه النظرية ذات فائدة كبيرة في المجال المهني والوظيفي خاصة في مجال الدوافع البشرية، فالبيئات الاجتماعية الداعمة للاستقلالية، تؤثر على الشغف تجاه العمل، وانغماس الشخص في العمل الذي يحبه ويجد فيه ذاته، يبُث طاقة قوية في النفس، فيبذل الشخص الكثير من الطاقة دون أن يؤثر ذلك على صحته العقلية، والبيئات الناجحة هي التي تدعم الاستقلالية، وهذه النظرية ذات أهمية في المجال الأسري، فهي تساهم في تحسين قدرة الفرد على تحديد خياراته وإدارة حياته، وبذلك يتحكم الإنسان في حياته وهوياته بصورة أفضل وأقوى، أي أن الفرد يمتلك مصيره في يده.
أما علاقتها النظرية بالشغف، فالناس يشعرون بدافع وحافز أعلى عندما يشعرون أن ما يفعلونه نابعا منهم وسيؤثر عليهم، وهو ما يحسن أدائهم ويطوره، وربما هذا ما أكده علماء النفس الذين وضعوا تلك النظرية في عام 1985، فالشغف ذو أهمية في التحفيز في تحقيق الإنجاز والنمو، وحسب النظرية فإن خوض الشخص لتجارب جديدة يعد أمرا ضروريا لتطوير إحساس متماسك بالذات، وأن مصادر التحفيز الذاتي مثل الحاجة أو الرغبة في المعرفة والاستقلال تعد أكثر أهمية من المكافآت الخارجية، لكن يبقى أن كلا المصدرين مهمين للانتقال بالشغف من الحماسة إلى مجال الفعل الناجز المبدع.
منذ سنوات أجرت مؤسسة غالوب” الأمريكية استطلاعا للرأي شمل عشرات الملايين من الموظفين في أغلب دول العالم، في الفترة من 2009 حتى 2012، وتوصلت إلى نتائج ذات أهمية ودلالة، منها أن 63% من الموظفين علاقتهم مع العمل روتينية اعتيادية، ولا يساهمون في تطوير هذا العمل، وأن 13% فقط هم من يمتلكون شغفا بعملهم، وربما يدفعهم هذا إلى تطويره.
الأسرة وتنمية الشغف
تؤكد دراسات أن النمو النفسي، لا يحدث من تلقاء نفسه، ولكنه يتطلب دعما مستمرا، فالدعم الاجتماعي هو المفتاح الرئيس في ذلك النمو، ومن خلال تحقيقه فإن الفرد يصير أكثر قدرة على التفاعل الجيد في علاقاته مع الآخرين، ويكون هذا الشعور مُعَززا لنمو الشخصية والرفاهة النفسية، التي تُعنى بتحقق الذات والرضا والسعادة، وهنا يظهر دور الأسرة بوضوح في غرس الشغف في نفس الأبناء وتعميقه.
ولعل هذه الفكرة هي ما شجعت على البحث في دور الأسرة في الشغف، ومنها دراسة عن دور الأسرة في غرس الشغف بريادة الأعمال[1] لدى أطفالها، إذ كان شغف الوالدين بريادة الأعمال ذا تأثير على أطفالهم، خاصة في الأسر ذات العلاقات الجيدة والتفاعلات التواصلية العالية، وهذا ما يثبت أن المدرسة والجامعة، أي التعليم بصفة عامة، يشكل مرحلة غير كاملة في حياة الفرد، ولكن لابد من تكامل أدوار أخرى لإكساب الفرد المهارات والدافعية التي لا يستطيع التعليم توفيرها، وهنا يظهر دور الأسرة بجلاء خاصة في مرحلة ما قبل المراهقة، حيث يكون للأسرة تأثيرها الكبير على أبنائها.
ومن ناحية أخرى فإن غرس الأسرة للشغف في نفوس الأبناء عامل ذو أهمية في تحقيق الصحة النفسية والرفاهة النفسية والسعادة والرضا عن الذات، وهو ما يحسن الحالة الاتصالية للأبناء في محيطهم الاجتماعي، والوقاية من الأمراض النفسية، وامتلاك الفرد للقدرة على مقاومة الضغوط النفسية واحتمال المعاناة ، فالشغف يولد مستويات عالية من المشاركة ومن ثم تحقق الصحة النفسية .
وخلصت دراسة نفسية أن الشغف تجاه نشاط معين سيقود الشخص إلى الانخراط في النشاط بشكل متكرر، ولفترة طويلة، وأحيانًا مدى الحياة، فالشغف المتناغم بنشاط معين يقود إلى تجربة المشاعر الإيجابية أثناء المشاركة في النشاط، وهو ما يعزز الصحة النفسية.
كان الفلاسفة القدماء ينظرون إلى الشغف على أنه نوع من المعاناة، على اعتبار أن الشخص يصير خاضعا لشغفه، لكن مع مرور الوقت أخذ الفلاسفة ينتبهون لأهمية الشغف، ومنهم الفيلسوف “ديكارت” الذي أدرك تأثيره السلوكي، ورأى ضرورة أن يكون العقل كامنا خلف ذلك السلوك، أما الفيلسوف “هيجل” فاعتبر الشغف ضرورة للوصول إلى أعلى معدلات للإنجاز.