يعرف طلبة العلم أن دلالة نصوص الوحي في الكتاب والسنة ليست على درجة واحدة من القوة والوضوح: فمنها الدلالة الواضحة وضوحًا لا لبس فيه ولا شك، وهي الدلالة اليقينية، ومنها الدلالة التي فيها بعض الخفاء ويتطرق إليها الاحتمال، وهي الدلالة الظنية.
هذا بكل سهولة هو المعنى المقصود من الدلالات اليقينية والدلالات الظنية في النصوص.
ووجود دلالات ظنية في النصوص لا شك فيه، ولا يخالف فيه أحد.
أعان الله الأمة على جيش عرمرم من الجهلة يتطاولون على العلماء، وباسم أولئك الشيوخ (شيوخ قلة العلم وضعف الفهم) وبمباركتهم!
ولذلك كان من تعظيم نصوص الوحي عدم إنكار وجود دلالات ظنية في النصوص، خلافًا لما يتوهّمه قليلُ العلم ضعيفُ الفقه. ولذلك فإن من أنكر وجود الدلالات الظنية في النصوص فهو الذي لا يعظمها حقا؛ لأسباب:
أولاً: أنه قد كذّب قول الله تعالى! وأي نقص للتعظيم أشد من تكذيب كلام الله تعالى، فقد قال تعالى: “هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ”، فإذا كان في كتاب الله تعالى المتشابه، فمن باب أولى أن يكون فيه ظني الدلالة.
ثانيًا: أنه نسب العيب والنقص للنصوص؛ لأنه توهم أن ظنية الدلالة نقص وعيب، فنزَهَ النصوصَ منه، مع أن كل العقلاء يعلمون عدم تنزهها منه.
ثالثًا: أنه نسب العيب والنقص للنصوص من وجه آخر؛ لأن وجود الدلالات الظنية في النصوص كمال وليس نقصًا، وله فوائد عظيمة لا تخفى على صاحب تَـفَـكُّرٍ يسير. فنفيُ هذا الكمال يتضمن إثباتًا لنقص، خلافًا لما توهمه نافيه!!
رابعًا: أنه لم يَرْضَ بواقع النصوص، فواقع نصوص الوحي أن فيها اليقيني، وفيها الظني، ومن لم يَرْضَ عن هذا الواقع فهو من أبعد الناس عن تعظيم النصوص!
فإذا كان الإيمان بوجود الدلالات الظنية في النصوص تعظيمًا للنصوص، وهو إيمان واجب، وهو الدال على توقيرها وإجلالها والوقوف عند حدودها. وإذا كان إنكار وجود الدلالات الظنية في النصوص هو الذي لا يقع إلاَّ جهلاً أو عدمَ تعظيمٍ للنصوص.
إذن الحق الذي لا يخالفه إلاَّ الباطل: هو أن الكلام عن وجود دلالات ظنية في نصوص الوحي لا يمكن أن يكون من عدم تعظيمها، بل هو من تعظيمها، وأن عدم التعظيم سيكون أحرى بمن ضاق صدره بذكر هذه الحقيقة القطعية في دلالات النصوص.
فإذا كان إثبات وجود دلالات ظنية في النصوص بهذه المثابة من اليقينية، فما معنى إنكار الاستناد إلى ظنية دلالة النص في تسويغ الاختلاف أحيانًا، والذي نسمعه من بعضهم بين الفينة والأخرى؟! إذ جعل بعضهم الاستناد إلى ظنية دلالة النص لتسويغ الاختلاف من عدم تعظيم النص!!
إذ إن هذا الذي يُنكر ذلك: إمّا أنه ينكر وجود نص ظني الدلالة، وهذا قد خرج عن أن يكون أحد العقلاء؛ لأنه لا ينكر ذلك أحد (كما سبق). وإمّا أنه يقر بوجود النص الظني الدلالة، وحينئذٍ: ما وجه إنكاره لما يؤمن بوجوده؟!
فإن كان إنما ينكر شيئًا آخر من الاستناد إلى ظنية دلالة النص في تسويغ الاختلاف، ولا ينكر وجود الدلالات الظنية في النصوص، وهذا الشيء الآخر هو: ادّعاءُ الظن في النص الذي تكون دلالته يقينية، فلماذا إذن يُطلق الإنكارَ على من سوّغَ الاختلاف المستند إلى دلالة ظنية؟! إذًا لقد كان الواجب عليه بدلاً من إنكاره وإطلاقه غير العلمي ذاك: أن يقيد إنكاره بمن سوّغَ الاختلاف في اليقيني بحجة أنه ظني، فيخص إنكاره بهذه الصورة فقط.
وهنا يأتي السؤال المعضلة، والسؤال المحيّر: لماذا ينكرون البناءَ على الأساس الذي يعترفون به؟! إذ لو كانوا ينكرون الأساس (وهو وجود دلالات ظنية في النصوص)، لما كان موقفهم محيرًا! وإن كان موقفًا فاسدًا فسادًا كبيرًا! لكنهم لا ينكرون الأساس، ومع ذلك ينكرون البناء الصحيح عليه! أو يطلقون القولَ بالإنكار، حتى يشمل إنكارُهم البناءَ الصحيحَ والبناءَ الخطأَ معًا!!
لكن .. أتودون أن أكشف لكم سرًّا من أسرار هؤلاء القوم التي خبرتُها خبرة تامة؟! أتريدون أن تعرفوا لماذا يمارس هؤلاء هذه الإسقاطات غير العلمية؟ وبكثرة؟! لأن صدورهم لا تتسع ولا ترضى بما رضيه الله تعالى لهذه الأمة من وجود الاختلاف السائغ في اجتهاد علمائها، ولذلك فهم يَضِيقُون بفكرة ظنية دلالة النص التي قد تُـسَوِّغُ الاختلافَ، ولا يستطيعون التصريح بإنكار وجود دلالات ظنية في النصوص؛ لأن هذا لا يمكن إنكاره صراحة، فيكتفون بالتشنيع على من يُسوِّغُ الاختلافَ الذي يستند إلى دلالة ظنية، دون بيان واضح منهم لسبب ذلك الإنكار!!
فمرة يدّعون أن سبب الإنكار: هو أن تعظيم النصوص لا يتفق مع دعاوى ظنية الدلالة! فلا تدري هل هم بهذه الدعوى ينكرون وجود الدلالات الظنية؟! أم ماذا يقصدون؟!
ومرة يدّعون أن سبب إنكارهم هو أن الذي ينسبون إليه عدم تعظيم النصوص يزعم أن الدلالات الظنية في النصوص أكثر من اليقينية فيها، أو أنه ينفي وجود الدلالات اليقينية في نصوص الوحي نفيًا مطلقًا، فيدعون أن هذا هو سبب إنكارهم ! مع أن تسويغ الاختلاف لوجود الدلالة الظنية لا علاقة له بالأكثرية والأقلية، ولا علاقة له بمن نفى وجود دلالة يقينية نفيًا مطلقًا، فيكفي لتسويغ الاختلاف وجود الدلالة الظنية في بعض النصوص، ولو كانت قليلة، ليكون القول بسواغ الاختلاف بناء على ظنية دلالة النص قولا صحيحا،إذا تحققت في النص ظنية الدلالة فعلاً. وحالهم في هذا كحال خارجي (من الخوارج) يحتجُّ بتسارع بعض الناس في الفساد، على وجوب تكفير مرتكب الذنوب، لكي يمنعهم من اقترافها!
ولا يتطرق هؤلاء إلى ذكر الأسباب الصحيحة للإنكار في مثل هذه المسألة، والتي منها:
– أن تُجعل الدلالةُ اليقينيةُ دلالةً ظنية، فيدّعي الذي يريد تسويغ الاختلاف غير المعتبر أن دلالة نص ما دلالةٌ ظنية، وهي في الحقيقة على ضد ما يدّعي: فهي دلالة يقينية لا شك فيها.
– أن يُسوَّغَ الاختلافُ مطلقًا، بحجة الوجود المطلق للدلالات الظنية في نصوص الوحي. دون النظر في المسألة الجزئية التي يُسوَّغ فيها الاختلاف: هل كانت دلالة النصوص فيها ظنية أو كانت يقينية. فمثل هذا الاحتجاج في خروجه عن حد الاستدلال الصحيح، وفي عدم اتساع دليله لاستدلاله: كمن نرد عليهم في هذا المقال تمامًا. إلاّ إذا كان صاحب هذا الزعم ممّن يصرح بانعدام وجود دلالات يقينية في النصوص مطلقًا، وحينئذٍ سيكون في خروجه عن حدود المعقول كمن أنكر وجود دلالاتٍ ظنيةٍ فيها، سواءً بسواء!
وهم لا يتطرقون لذكر شيءٍ من هذه الأسباب الحقيقية؛ لأن ذكرها لا يخدمهم في فكرتهم التي يريدونها، وهي إلغاء ما أحبوا إلغاءه من الاختلاف المعتبر لأهل العلم؛ ولأن ذكر تلك الأسباب سوف يُلزمهم بأمرين:
الأول: بيان ضابط التفريق بين الدلالة الظنية والدلالة اليقينية، أي: متى تكون دلالة النص دلالةً ظنية؟ ومتى تكون يقينية؟ وهم عاجزون عن ذلك. وأكبر دليل على عجزهم: هو عدم تطرقهم للتفريق بين من أساغ الاختلاف بحجة ظنية دلالة النص وكانت دلالة ظنية حقًّا ومن أساغه بالحجة نفسها لكن مع كون الدلالة يقينية لا ظنية. إذ إن تَـرْكَهم لمحل النزاع مع من أخطأ في تسويغ ما لا يسوغ، إلى الكلام غير العلمي والإطلاقات العاطفية الخالية من قيود العلم عن تعظيم النص= يدل على عجزهم عن إعطاء التصورّ الصحيح للمسألة أصلاً، وأنهم هم أنفسهم لا يجدون في أنفسهم فارقًا واضحًا بين الدلالات الظنية والدلالات اليقينية!!
الثاني: أن ذلك التفريق لو حرروه، فسوف يوجب عليهم تسويغ الاختلاف الذي ضاقت به صدورهم، ولا سعوا سعيهم كله إلاّ لإلغائه أصلاً. فكيف بعد ذلك يقررون أمرًا يعود على أصلهم بالنقض، ويوسع للناس بفسحة الشرع ما تَـحَجّروه!
ولذلك يهربون من هذا كله، إلى إشعال عواطف صغار الطلبة وعوام المسلمين، بادّعاء أن تعظيم النصوص يوجب عدم الاستدلال بظنية دلالتها على تسويغ الاختلاف، وأن مَن يُسوِّغُ الاختلافَ بهذه الحجة ما فعل ذلك إلاّ لضعف تعظيم النص في قلبه!
ثم تَخيّلوا مقدار فهم هؤلاء المتلقِّين (من صغار الطلبة وعوام المسلمين) عندما يسمعون هذا التجييش العاطفي.. المخالف للعلم، والهادم لبنائه، وهم الذين يظنون مجرد نسبة دلالة الظن لنصوص الوحي إساءة للنص، فهم لا يفرقون بين الثبوت والدلالة، ولا بين درجات الدلالة. وكيف لهم أن يفرقوا؟! إذا كان شيوخهم لا يفرقون!!
سيخرج هؤلاء ليصفوا العلماء والفقهاء الذين يقررون سعة دلالات النصوص، بأوصاف السوء: أنهم لا يعظمون النصوص، وأنهم عقلانيون (يقدمون العقل على النص)، وأنهم علماء بدعة وضلال!!
هذه هي ثمرات ذلك التقرير الجاهل، وهذه هي نتائج قلة العلم وضعف الفهم.
وأعان الله الأمة على جيش عرمرم من الجهلة يتطاولون على العلماء، وباسم أولئك الشيوخ (شيوخ قلة العلم وضعف الفهم) وبمباركتهم!