سألوا الفضيل بن عياض رحمه الله في معنى قوله تعالى: { ٱلَّذِی خَلَقَ ٱلۡمَوۡتَ وَٱلۡحَیَوٰةَ لِیَبۡلُوَكُمۡ أَیُّكُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلࣰاۚ } (الملك:2)، وما هو الأحسن عملا في هذه الآية، فقال الفضيل: أخلصه وأصوبه. قيل: يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يُقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يُقبل حتى يكون خالصاً صواباً؛ والخالص أن يكون لله والصواب أن يكون على السنّة.” وقد قال في موضع آخر يشرح معنى الإخلاص: ترك العمل من أجل الناس رياء، والعمل من أجل الناس شرك، والإخلاص هنا أن يعافيك الله منهما.
شرح موجز دقيق لمعنى العمل الحسن الذي به يرتفع العبد ويرتقي عند الله. إنه ذاك العمل الذي يكون لله فقط لا غيره، ويكون وفق سنّة نبيه الكريم – ﷺ – وأي شرط من الشرطين يغيب، فإنه يؤدي إلى ضياع العمل، ولن يرتقي للمستوى المأمول أو العمل الحسن. فكم من الأعمال تذهب سدى وتكون هباء منثوراً، لأن رغبات القائم بها اختلطت ما بين إرضاء الخالق ورجاء ثوابه، وبين استلطاف خفي لبعض المخلوقين وكسب مرضاتهم في ذات الوقت، لحاجات بالنفس لا يعملها إلا الله.
كل أعمالنا قابلة لأن تدخل عالم العمل المختلط وتبتعد عن عالم العمل الحسن، الذي ذكرنا شروطه، قابلة لأن تختلط بمرض خفي من أمراض القلوب وهو الرياء. بدءاً من أداء الصلوات وإيتاء الزكوات، ومروراً بالحج والعمرة وغيرها من أعمال قد تبدو على ظاهر من يقوم بها، أنها أعمال صالحة، فيما النيات أو البواطن خلاف ذلك، لا يعلم بها سوى علاّم الغيوب.
لكن هناك عمل لا يمكن التلاعب فيه مثل عمل الصوم، الذي هو العبادة الوحيدة التي يمكن اعتبارها كالسر بين الله وعبده أو عبادة سرية خفية مخلصة، إذ لا يمكن للرياء والصوم أن يلتقيا معاً.. نعم قد تجد من يصلي خشية التأنيب أو حباً في الظهور بمظهر المؤمن الصالح، أو آخر يتصدق ليُقال عنه كريم، أو ثالث يقرأ القرآن ليقال عنه قارئ، ورابع يزكي عن بعض ماله متظاهراً بحب الخير والمساكين، أو غيرهم كثير. أما أن يجهد الإنسان نفسه بالصوم، حباً في نيل رضا فلان أو تقرباً من علاّن، فهذا لا يمكن أن يحدث.
أنت حين تعزم على أداء عبادة وفعل الصوم عن كل ما أمرك الله أن تمتنع عنه من المباحات، وفي مقدورك بالوقت نفسه أن تشرب وتأكل في الخفاء، ولكنك لا تفعل. أتدري لماذا؟ لأنك تعلم يقيناً أنك تصوم لله وليس لأحد غيره، وهنا تكون قد حققت الشرط الأول لقبول عملك والدخول به إلى عالم العمل الحسن، وهو الإخلاص. أما الشرط الثاني فهو أن تصوم على الوجه الذي أمرنا به الرسول الكريم – ﷺ – وهو أيسر من الشرط الأول. ومن هنا، تذكّر دوماً وأنت صائم مخلص في عبادتك وعلى الوجه الصحيح، ما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله – ﷺ – قال: قال الله عز وجل: “كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به“.
هذا الحديث هو وصف دقيق لثواب وأجر الإخلاص الذي يظهر جلياً في عبادة الصوم. ولأن هذا الإخلاص حاضر في هذه العبادة، اعتبرها الله أنها له هو نفسه سبحانه. ولك أن تتصور عملاً يعتبره الله أنه له وحده لا يشترك معه أحد، كيف يكون أجره وثوابه؟ لا شك أنه عظيم خارج نطاق الوصف والخيال.
لست هنا لأشرح معاني وأهداف هذه العبادة الجليلة، بقدر التذكير بهذا العمل النوعي الذي ميزه الله عن باقي العبادات والأعمال الصالحة بميزة معينة، مثلما سبحانه ميز كل عبادة وعمل صالح بميزة ما. كما في الوقت نفسه أعتبر حديثي هذا نوعاً من حث النفس والآخرين، لاستثمار عبادة عظيمة قصيرة الأجل ( أياماً معدودات ) ، ما إن يبدأ توقيتها حتى يبدأ العد التنازلي وانتظار النهاية بشكل سريع ملحوظ.
رمضان إذن، فرصة ثمينة لعمل الكثير والكثير، سواء على مستوى كسب الأجر والثواب ومضاعفتها، أو صحياً عبر صيانة وتصحيح كثير من عاداتنا الغذائية السيئة، ومنح الجسم فرصة لتخليص نفسه من سموم عادتنا الغذائية طوال شهور العام، أو حياتياً عبر ضبط العادات الطيبة وتعزيزها، وتعديل الأخرى السيئة وتغييرها. الثلاثون يوماً من رمضان أشبه بمعسكر تدريبي داخلي، يتم فيه ضبط الأمور والتخطيط لأحد عشر شهر قادمة، يتم خلالها القيام بعديد الأعمال والسلوكيات، التي نريدها وفق مفاهيم ومعاني الشهر الكريم، حيث الإخلاص والجدية واستثمار الوقت أيما استثمار.
أجد ها هنا في الختام، ضرورة أن نذكر بعضنا البعض ونحذر في الوقت ذاته، من لصوص الوقت في رمضان: المسلسلات التلفزيونية، الولائم الليلية، الانكباب على الفعاليات الفنية والرياضية وغيرها، الخيم الرمضانية، بالإضافة إلى اللص الأكبر، الهاتف الجوال ومعه وسائل التواصل المختلفة.. كلها لصوص وقت، تسرق الأوقات بهدوء سلس مستمر، لا نتنبه لها إلا وقد انتهى الوقت برؤية هلال شوال. فاز حينذاك من فاز، وخسر من خسر.. نسأل الله لنا ولكم العافية، ونسأله سبحانه العون لصيام نهاره وقيام ليله، والهداية لترك المنكرات وفعل الخيرات. إنه بكل جميل كفيل، وحسبنا الله ونعم الوكيل.