العاقبة من المفاهيم الضرورية في التربية الإيمانية والسلوكية، وإغفال دورها التربوي يهدر الكثير من الطاقات الإيجابية القادرة على إلجام النزوات والرغبات، وتعديل السلوك وتقويمه، فالعقل هو من يدرك العاقبة، ويرى نهاية الطريق قبل أن يشرع في السير، ويدرك أن النهايات الجيدة مرتبطة بالبدايات الصحيحة.
العاقبة والعقل
القرآن الكريم اهتم بأن يكون الإنسان مُدركا لعواقب الأمور، والعاقبة هي مآل الأمر ونهايته، وهي من سمات الوعي اليقظ والإيمان القويم، وإغفالها من المُهلكات، وقد وردت مادة العاقبة في القرآن الكريم في (20) سورة مكية، و(12) سورة مدنية، وموضع واحد في سورة مختلف على مدنيتها أو مكيتها وهي سورة الرعد.
وقد اعتنى”أبو الفرج ابنالجوزي” في كتابه الفريد “صيد الخاطر” بمفهوم العاقبة، وربط بينه وبين العقل ربطا وثيقا، على اعتبار أن العاقل هو من ينظر في العواقب، ويُنتج السلوك والأخلاق الملائمة لها، أما من يُغفل العاقبة، فيقع تحت طائلة العقاب، أو يفوته الخير، لذا كان إدارك العاقبة فيما تشتهيه النفس من الرغبات أو شهوة الانتقام من عوامل النجاة أو الهلاك، فيقول:” من تفكر في عواقب الدنيا، أخذ الحذر، ومن أيقن بطول الطريق تأهب للسفر.. ما أعجب أمرك يا من يوقن بأمر ثم ينساه، ويتحقق ضرر حال ثم يغشاه ..تغلبك نفسك على ما تظن، ولا تغلبها على ما تستيقن”.
ثم يقول: “إنما فُضل العقل بتأمل العواقب، فأما القليل العقل فإنه يرى الحال الحاضرة، ولا ينظر إلى عاقبتها…فإن اللص يرى أخذ المال وينسى قطع اليد، والبطال يرى لذة الراحة وينسى ما تجني من فوات العلم وكسب المال.. كل من لا يتلمح العواقب، ولا يستعد لما يجوز وقوعه؛ فليس بكامل العقل.. فالنظر في العواقب، وفيما يجوز أن يقع شأن العقلاء فأما النظر في الحالة الراهنة فحسب، فحالة الجهلة الحمقى، وليس للعقل شغل إلا النظر في العواقب، وهو يشير بالصواب من أين يقبل”.
وربما كانت قصة خروج آدم عليه السلام من الجنة، دليل للبشرية على ما تجنيه العاقبة من شقاء إذا اُرتكبت المنهي عنه، فكان درس الخروج قويا للبشرية، في سرعة تنفيذ العقاب عقب التناول من الشجرة المحرمة، فعقب الأكل مباشرة، كان الجزاء حالا وباتا، يقول القرآن الكريم { فَلَمَّا ذَاقَا ٱلشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ ٱلْجَنَّةِ} (الأعراف: 22) ومن ثم كانت تلك التجربة هي تجربة تذوق العاقبة، ورؤية نتائج الخطأ، وتجرع مرارة الندم المعاناة.
العاقبة والتربية السلوكية
مفهوم العاقبة ذو أهمية في التنشئة والتربية، فمن ناحية يُحسن السلوك، ويحول دون الوقوع في الأخطاء، أو تجنبها والابتعاد عنها، كذلك يُحسن القدرات العقلية في موازنة الأمور بين ما يريده الشخص في اللحظة والحاضر تحت ضغوط مثل: الرغبة والشهوة والغضب والكسل، وبين ما يفرضه هذا الضغط المزعج من تكلفة في المستقبل، فحضور العاقبة في التفكير يشبه كوابح السيارات ولجام الخيول الشرسة، فهو يكبح الجموح، ويقيد الاندفاع، ويفرغ في النفس ما يبرد حرارة الرغبة العاجلة والشهوة الطارئة المُلحة.
وفي التربية من الضروري استخدام “العواقب الإيجابية” و”العواقب السلبية” فكلاهما مهم في تقويم السلوك، وهذا مفيد للدعاة والتربويين، وهو أسلوب استخدمه القرآن الكريم بصفة دائمة، فلم يأتي ذكرٌ للجنة كجزاء وعاقبة للمتقين، إلا وذكرت النار كجزاء وعاقبة للعصاة والكافرين، وفي الجانب التربوي فـ”العواقب الايجابية” تبعث حماسة في النفس وهمة ونشاطا لفعل الخير والصواب والنافع والمربح، أما “العوقب السلبية” فتقوم بدور مهم في تثبيط همة النفس عن السلوك السيء والخطأ والخطر والمُكلف.
العواقب الإيجابية
ومن أهم العواقب الايجابية، الثناء والمدح، والمكافآت على السلوك والأفعال الجيدة، وكذلك الرضا عن النفس، فإن انتصار الانسان على رغباته الأثيمة والضارة والمدمرة، ونجاحه في إخماد تلك النار المشتعلة في باطنه، هو انتصار معنوي كبير، فمع كل انتصار على النفس، تكون هناك لذة نفسية وروحية تفوق أي مديح وثناء من الآخرين، فالإنسان يشعر باحترام ذاته، وفي تلك الحال يملك زمام نفسه، ويستطيع أن ينهاها عن شرودها وإثمها،،
جاء في تفسير قوله تعالى { وَأَمَّا مَنۡ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِۦ وَنَهَى ٱلنَّفۡسَ عَنِ ٱلۡهَوَىٰ} (النازعات :40) : “ونهى النفس عن الهوى هو نقطة الارتكاز في دائرة الطاعة، فالهوى هو الدافع القوي لكل طغيان، وكل تجاوز، وكل معصية، وهو أساس البلوى، وينبوع الشر.. والخوف من الله هو الحاجز الصلب أمام دفعات الهوى العنيفة، وقل أن يثبت غير هذا الحاجز أمام دفعات الهوى .. إن الإنسان إنسان بهذا النهي، وبهذا الجهاد، وبهذا الارتفاع”.
ولذلك فمن الضروري في التربية والدعوة أن يكون هناك حديث مكثف وواضح ومتكرر عن العواقب الإيجابية، لتتشيد صورة ذهنية في وجدان المتلقي عن المكافأة والجزاء والربح والسعادة والنجاح، فالفائزون يقتاتون الأحلام، ويتنفسون من خلالها للوصول إلى الغاية،وهي التي تعينهم على الصبر، يقول الجاحظ : “والصبر صبران، فأعلاهما أن تصبر على ما ترجو فيه الغُنم فى العاقبة”، ويقول “ابن الجوزي” :”من تذكر حلاوة العاقبة نسي مرارة الصبر.
العواقب السلبية
أما العواقب السلبية، فلها دورها التربوي المؤثر، لذلك تكرر في القرآن الدعوة للنظر في عاقبة الظالمين والفاسدين والمكذبين، فهذا النظر يُلجم الرغبة في الظلم، وفي الجانب التربوي العواقب السلبية تساهم في ردع السلوك السيء، لكن يشترط أن تُشفع بنماذج واضحة وحكايات ونماذج من الفاشلين-مثلا-الذين أساءوا التصرف، أو الظالمين الذين ذاقوا وبال أمرهم.
ويعد عالم النفس الأمريكي ” إدوارد ثورندايك ” المتوفى 1949م، من أوائل علماء النفس الذين ناقشوا كيفية تأثير العواقب الايجابية والسلبية على السلوك، وأكد أنه عند ربط نتيجة إيجابية بسلوك ما، فمن المرجح أن يتكرر هذا السلوك، وصاغ ذلك فيما عرف بـ”قانون الأثر”، والي ينص على أن:”الاستجابات التي تنتج تأثيرًا مُرضيًا في موقف معين تصبح أكثر احتمالية أن تحدث مرة أخرى في هذا الموقف، والاستجابات التي تنتج تأثيرًا مزعجًا تصبح أقل احتمالية أن تحدث مرة أخرى في هذا الموقف “[1].
والعواقب كأسلوب تربوي يُعلم المسئولية، لذا يجب تربية الأبناء عليه منذ الصغر، فمثلا عدم احترام موعد اجتماع الأسرة للطعام، تكون عاقبته أن يتناول الابن ما تبقى من الطعام إن وجد، أو الاسراف في استخدام الموبايل، تكون عاقبته الحرمان من الموبايل لأيام، أو الاهمال في أداء الصلاة المكتوبة في جماعة، تكون عاقبته الحرمان من المصروف اليومي، فالعاقبة تُلهم الطفل مبكرا مفهوم المسؤولية، وتجعل قراراته في السلوك الجيد والنافع نابعة من إرادته بعد تفكير وموازنة بين المكاسب والخسائر، وهذه الرؤية النفعية النافعة في كثير من الأحيان تُنشيء الطفل أن تكون قراراته أكثر عقلانية وحكمة، وأن ينظر لنتيجة فعله ومآل سلوكه قبل البدء.