العفو والتسامح ينبعان من قلب سليم وخلق كريم، لقد قالت عائشة رضي الله تبارك وتعالى عنها وعن أبيها فى خلق النبي ﷺ «كان خلقه القران» ، فهو يأخذ بهديه، ويتبع منهاجه من غير عوج، ولا التواء.
قال تعالى: { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ } (الأعراف : 199)، واستمع إلى قوله تعالى: { وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ، ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } (فصلت : 34).
وقد هيأ الله تعالى نبينا ﷺ قبل البعثة، للعفو عن هفوات الناس، والمتجاوز عن أخطائهم، وإن العفو والسماحة لا يسكنان إلا قلبا خاليا من الأحقاد والأضغان، ومن يعمل ليقود الخلق إلى الحق لابد أن يكون نظره إلى ما هو أمامه ولا ينظر إلى الوراء، والأحقاد والأضغان، ومحاسبة كل امريء عليه ما كان منه، إنما هي تشد صاحبها إلى الوراء، فلا يكون تفكيره إلى ما يجب عليه القيام به فى المستقبل، بل يكون تفكيره فى شفاء غيظ من أسقامه التى كانت فى الماضي، ومن يأتي برسالة داعيا إلى الحق، لا يكون دبرى النفس يشغله الماضي عن الحاضر، بل يكون عاملا للمستقبل.
محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام الذي أدبه ربه فأحسن تأديبه، والذي خلقه ليحمل أقوى رسالة، وأعظم هداية، رباه ربه على الصفح الجميل، ليكون قلبه متجها دائما إلى ما هيأه الله تعالى له، من حمل الدعوة إلى الحق، متفرغا لها، فما كان من إحن يضعها دبر أذنه، وما كان من واجب تفرغ له ليبلغ الرسالة على أكمل وجه، فلا يشغل نفسه حقد، ولا تملؤها إحن، فحسك الصدور يشغل عن العمل، ويفسد الصلات، ويغرى بالعداوة، ونبى الله تعالى فوق أن يشغله ضغن.ولقد كان النبي عليه الصلاة والسلام كذلك قبل أن يبعثه الله تعالى، فلم يعلم فى تاريخ حياته أنه شغل نفسه بأحقاد الجاهلية وما كانت تبثه من عداوات، بل إنه فى اخر الرسالة يعلن الصفح الكامل، فيقول في قوة ذى العزم من الرسل، «ألا إن دم الجاهلية موضوع، وأول دم أبدأ به دم عمى الحارث بن عبد المطلب» .
ولقد كان بعد البعثة حريصا على سد كل مسام الأحقاد والأضغان، وذلك بمنع النميمة، ولو كان ما ينقل صدقا، فقد ثبت فى الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال «لا يبلغنى أحد عن أحد شيئا إنى أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر » (1).
ولمحبته للعفو الكريم والصفح الكريم ما كان يوجه لوما على عمل عمل مادام يخص نفسه، يقول أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «والله ما قال لى لشيء صنعته لم صنعت هكذا، ولا لشيء لم أصنعه لم لم تصنع» ويقول ذلك العشير الذى خدمه فى السفر والحضر: «كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من أحسن الناس خلقا، أرسلنى لحاجة، فقلت: – لا أذهب- وفى نفسى أن أذهب لما أمرنى به رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فخرجت حتى أمر على صبيان، وهم يلعبون فى السوق، فإذا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، قد قبض بقفاى من ورائى قال: فنظرت إليه وهو يضحك، فقال يا أنس، ذهبت حيث أمرتك؛. فقلت: نعم أنا أذهب يا رسول الله» ومضى أنس خادم رسول الله ﷺ إلى حيث أمره أو طلب إليه من حاجة (2).
هذا خبر يبدو صغيرا فى مقام أخبار النبوة المحمدية، ولكنه كبير فى مغزاه، وفى معناه، وقد بدت السماحة وسماحة الأخلاق،
أولا- فى أنه عفا وسامح خادمه وهو يعانده، ويرد قوله ظاهرا، فما لامه، ولا عتب عليه، ولا احتسبها عليه، ولكنه تركه لتقديره، وقبل ألا يذهب إلا مختارا غير مأمور.
وثانيا: تتبعه ليعرف ماذا أجدى الصفح الجميل، وعلاج شماس النفوس بالتسامح والتساهل، والإخاء من غير إعنات ولا استكراه فى إغلاق وإغضاب، أو مغاضبة.وثالثا: لم يكتف بألا يغضب، بل إنه يداعبه مع ذلك، فيقبض عليه من قفاه، ثم يناديه مداعبا ضاحكا يا أنيس، يد لله بتصغيره، وهو الذى عانده، ورد إرادته.ثم يقول معلنا انتصار السماحة والعفو، وعدم المؤاخذة على ظواهر الأفعال «ذهبت حيث أمرتك» هذا كمال النبوة وخلق النبى الذى يدعو النفوس الشاردة فيروضها على الحق، ويؤنسها فى عفو وسماحة، وصفح جميل، بل إن الإشارة لا تعلو قط، حتى تكون أمرا.
وقال أنس هذا «كنت أمشى مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وعليه برد غليظ الحاشية، فأدركه أعرابى فجبذ بردائه جبذا شديدا، حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله ﷺ. فإذا به قد أثرت فيه حاشية البرد من شدة جبذته، ثم قال: «يا محمد مر لى من مال الله تعالى الذى عندك» فالتفت إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فضحك، ثم أمر له بعطاء» .وإن هذه السماحة، وذلك العفو خلقه قبل البعثة، وكان خلقه عندما اشتد الأذى، فهو يعالج عنف قريش بالرفق فى القول، ويعالج الإيذاء بالصفح الجميل، الذى لا يمن به، ولكنه يهدى به من شاء الله تعالى، ولو لم يكن العفو أساسا، لطلب من الله تعالى كما قال تعالى عن نبيه نوح: { رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ، دَيَّاراً. إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً } (سورة نوح: 26، 27.) ولكن الله فضل بعض النبيين على بعض، ولكل أمة رسول تكون أخلاقه على ما يكون سبيلا لهدايتها ولإرشادها.
روى أنه لما كذبت قريش النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وبالغت فى الأذى، ولما لجأ إلى ثقيف فى الطائف وأغروا سفهاءهم. أتاه جبريل عليه السلام فقال له: “إن الله تعالى قد سمع قول قومك لك، وما ردوا به عليك، وقد أمر ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم- فناداه ملك الجبال وسلم عليه وقال:مرني بما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين (الجبلين اللذين يحيطان بمكة المكرمة) قال النبي السمح الكريم “«”اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون”» .
وذكر ابن المنكدر أن جبريل عليه السلام قال للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم: «إن الله تعالى أمر السماء والأرض والجبال أن تطيعك، قال: أؤخر عن أمتى، فلعل الله تعالى أن يتوب عليهم» .وإن سماحته عليه الصلاة والسلام وعفوه ليبدوان فى عفوه عمن عادوه واذوه وقاتلوه، ولم يتركوا بابا من أبواب الأذى والقتل والقتال إلا سلكوه، وما تركوا كيدا إلا كادوه له، ثم ال الأمر إلى أن ينتصر عليهم نصرا مؤزرا.
عندما فتح الله تعالى له مكة المكرمة، نادى الملأ من قريش، ولم يفكر فيما كانوا يصنعون به وبأهل الإيمان إن كان لهم النصر، ولكنه فكر فيما ينبغى لمثله معهم، وتطييب قلوبهم، وإزالة الأحقاد من نفوسهم، فقد قال لهم فى ود راه فى موضعه: ما تظنون أنى فاعل بكم، قالوا أخ كريم وابن أخ كريم، ما نظن إلا خيرا. قال أقول لكم ما قاله أخى يوسف لإخوته: «لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم، وهو أرحم الراحمين» اذهبوا فأنتم الطلقاء، وبذلك أنهى الأحقاد، ووضعها دبر أذنه ليستقبلوا عهدا جديدا فى الإسلام.
إن الداعي بدعاية الحق، يجب عليه أن يطهر نفسه من أمرين:
أحدهما أدران التألم من الناس لأذى سبقوا به، أو لحسك الصدور، أو لفحش كان منهم، فإنه جاء لهدايتهم، لا لمقابلة إساءة بمثلها، ولا ليشغل نفسه بالنقمة بهم، وإن كانت حقا أو أخذ حق، ولا علاج لذلك إلا بأن يجعل نسيان الماضي، والتسامح، هو السبيل لهذا النسيان، والعفو عما سلف من سيئات هو الذى يمكن الداعي من الخلاص إلا من الحق.
ثانيهما: أن يبعد الأثرة عن نفسه، فلا يفكر فى العمل لنفسه، وذلك يقتضى الإيثار، والفناء فى دعوته التى يدعو إليها، وإن تطهير النفس من الأثرة، إنما يكون بتغليب ترك الحقوق إذا لم يكن فى تركها إقامة لباطل، أو خفض لحق، أو سكوت عن حق عام، فالداعي ينسى حقوقه الشخصية، بل يهملها من غير تهاون، ولا يترك حقا عاما، ولا أمرا من موجبات دعايته فإن تساهل فى حقوقه، فلكي يتفرغ بكله للحقوق العامة.
وإذا كان ذلك ما ينبغى أن يكون عليه دعاة الحق، والناصرون له من الناس، فكيف يكون الشأن ممن هو رسول لرب العالمين، إنه ينسى حقوق نفسه، فيعفو عنها، ويذكر حقوق الناس فلا يفرط فى أى جزء منها.
ولقد قالت عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها فى وصف النبي صلى الله تعالى عليه وسلم «لم يكن فاحشا، ولا متفحشا، ولا صخابا فى الأسواق، ولا يجزى بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح» .
وفى الجملة ما كان يحمل إلا الخير، وينفى عن نفسه كل ما يثيرها على أحد، فلا يكون منه إلا النفع، ولا يحمل نفسه عناء البغض والكراهة إلا أن يكون لله.
(١) البداية والنهاية ص ٦ ص ٢٦.
(٢) الكتاب المذكور.