انتهينا في المقال السابق إلى أن الطبيب إذا حصل على عينات أدوية مجانية من مناديب شركة الأدوية مقابل إيثار أدويتهم خاصة على بقية الأدوية المشابهة، فإن هذا يكون من الرشوة المحرمة؛ لأنها خيانة واضحة للمريض، حيث عدل عن الدواء الأجدى والأرخص إلى دواء آخر ليس لشيء إلا أن بائعيه يعطون الطبيب هدايا مقابل ترشيحه للمريض.
الحالة الثانية: تربح الطبيب بالعينات دون خيانة المريض.
وهذا يتصور فيما إذا كان اختيار الطبيب مرهونا بمصلحة المريض، واتفق[1] للطبيب أن يحصل على هدية مع عدم إخلاله باختيار الأفضل والأرخص فهل يجوز له ذلك؟
وهنا سيجد الطبيب نفسه بين شقي رحى، بين الإمعان في البحث عن أفضل الأدوية وأرخصها، وبين البحث عن الأدوية التي يجني من ورائها أكبر الهدايا فيقع في حيرة واضطراب، حاله في ذلك حال السمسار الذي يأخذ عمولة من البائع وعمولة من المشتري، فهو في وكالته عن البائع مطالب أن يبحث له عن أعلى الأسعار، وفي وكالته عن المشتري مطالب أن يبحث له عن أرخصها، فكيف يمكن أن يصل إلى هذا وذاك في وقت واحد، ولذلك كان الرأي الراجح في نظرنا- وهو اختيار الدكتور رفيق يونس المصري- أنه لا يجوز للسمسار أن يحصل على عمولة من الطرفين؛ لتضاد المصلحتين.
ومما يؤكد ذلك جملة أصول شرعية:
تضاد المصالح
1- منع الفقهاء الوكيل من الشراء من نفسه لموكله وكذلك ممن تلحقه بالشراء منهم تهمة (كولده وأبيه وجده وزوجته) وهذا الحكم متفق عليه بين الفقهاء الأربعة في الجملة، واستثنى بعض الفقهاء حالات من المنع، وضابط الاستثناء هو انعدام التهمة، وكان الشراء بثمن المثل أو أقل.[2]
والعلة في المنع من ذلك هي التهمة والتضاد، أي أن الوكيل من شأنه أن يتهم بمحاباة نفسه أو قريبه إذا اشترى منهما للموكل، وكذلك لتعارض المصالح (مصلحة الموكل ومصلحة صاحب السلعة)، يقول ابن الهمام الحنفي في فتح القدير : “لأن الواحد إذا تولى طرفي البيع كان مستزيدا مستنقصا قابضا مسلما مخاصما مخاصما في العيب، وفيه من التضاد ما لا يخفى”. [3]
تهمة إيثار النفس
2- ومما يؤكد ذلك ما قرره جماهير الفقهاء من رد الشهادة بتهمة الإيثار والمحبة ، فقد ذهب جماهير الفقهاء – ومنهم المذاهب الأربعة– على رد شهادة الأصل لفرعه وإن سفل (مثل شهادة الأب لولد أو ولد ولده) كما ذهب جمهور العلماء إلى رد شهادة الفرع للأصل (مثل شهادة الولد لأبيه وجده وأمه) لتهمة إيثار المشهود له على المشهود عليه ; لأن المنافع بين الولد والوالد متصلة .
محاباة النفس
3- ومما يؤكد ذلك نهي الله تعالى ولي اليتيمة عن الزواج بها إذا خاف أن يظلمها، وذلك قوله تعالى : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا ) (النساء : 3).
فقد روى البخاري وغيره أنّ عروة بن الزبير سأل عائشة عن هذه الآية فقالت : “يا ابن أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليّها تشرَكه في ماله ويعجبه مالها وجمالها ، فيريد وليّها أن يتزوجها بغير أن يُقسط في صداقها فلا يعطيها مثل ما يعطيها غيره ، فنُهوا أن ينكحوهنّ إلاّ أن يقسطوا لهنّ ويبلغوا بهنّ أعلى سنتهنّ في الصداق فأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء غيرهنّ .”
فنهي الولي عن نكاح موليته اليتيمة إلا إذا أمهَرَها أعلى ما تستحقه مثلها خوفا من التهمة في محاباة نفسه.
بيع مناديب الشركات العينات المجانية وإهداء ثمنها للمشترين
حينما يبيع مناديب شركات الأدوية كميات كبيرة دفعة واحدة لمخازن الأدوية أو للصيدليات فإنهم يجدون أن مجموعة كبيرة من العينات فائضة عندهم كانت مرصودة لتسويق هذه الكميات التي تم بيعها، فيعمد المناديب إلى بيع هذه العينات ليقدموا ثمنها جائزة تشجيعية لمن اشتروا منهم هذه الكميات الكبيرة، والأفضل في هذه الحالة أن تمنح العينات للمشترين (صيادلة أو أصحاب مخازن) على أنها جوائز تسويقية ، وهذا أفضل لأسباب:-
درهم ومُدُّ عجوة
1- أننا بذلك نخرج من خلاف الفقهاء في تحريم درهم ومد عجوة ؛ وذلك أن إعطاء البائع هدية نقدية للمشتري داخل فيما يعرف عند الفقهاء بمد عجوة، والأصل في هذه المسألة حديث فضالة بن عبيد – رضي الله عنه- قال : ” اشتريت يوم خيبر قلادة باثني عشر دينارا فيها ذهب وخرز، ففصلتها فوجدت فيها أكثر من اثني عشر دينارا، فذكرت ذلك للنبي ﷺ فقال : ” لا تباع حتى تفصل. (مسلم (5/46) )
وهذا النوع من البيع مختلف فيه بين العلماء على قولين:
الأول : عدم جوازه مطلقا، وهو مذهب المالكية والشافعية والراجح في مذهب الحنابلة وابن حزم.[4]
الثاني : يجوز إذا كان ما مع الربويين تابعا، والمفرد أكثر من الذي معه غيره ،و هو مذهب الحنفية، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية. [5]
تهريب مناديب الشركات العينات المجانية وبيعها للصيدليات
مندوب الدعاية، أو مسئول المكتب العلمي حينما يقوم بتهريب العينات وبيعها لا يخلو ذلك من صورتين:-
الأولى : أن يقوم باختلاسها، وهذه سرقة واضحة- وإن كان لا يجب فيها قطع اليد؛ لأنها تصنف في الفقه على أنها اختلاس لا سرقة- ويظل الإثم مطاردا للمختلس حتى يتوب، ولا توبة له إلا بردها.
الثانية: أن يقوم الموظف باختلاسها بطريقة فنية، وذلك يتصور إذا باع الموظف الكمية المربوطة بالهدية وأخفى عن المشتري أن له هذه العينات التسويقية نظير شرائه هذه الكمية، وينظم دفاتره على أنه سلمها للمشتري، وهذا الإجراء لا يجوز، ومثله ما إذا ربط بين مجموعة من الطلبيات الصغيرة ليجعلها تبدو في صورة صفقة واحدة حتى تحظى بالهدايا المربوطة بالطلبيات الكبيرة؛ لأن الشركة حينما تسلم هذه الهدايا للموظف إنما تقصد توكيله عنها في توصيل هذه الهدايا للعملاء المشترين.
وللشركة غرض تجاري من توزيع هذه الهدايا، فهي لا تهب عملاءها سدى، فإذا تصرف الموظف في هذه الهدايا تصرف الملاك فقد خان أمانة الوكالة ، والوكيل أمين، وتصرفاته مقيدة بحسب شروط موكله.
والشركة إنما تقصد تشجيع الصيادلة على الشراء بهذه الهدايا، ومعروف أن الذي يدفع الشركات أو مكاتب توزيع الأدوية إلى ذلك إنما هو التنافس فيما بينها، فإذا حجب الموظف هذه الهدايا عن العملاء فإنه بذلك يضر بالشركة إضرارا بالغا ؛ حيث يحرم هذه الشركة من منافسة بقية الشركات في جذب الزبائن.
[1] – اتفق هنا بمعنى : صادف
[2] – الموسوعة الفقهية الكويتية (45/ 51)
[3] – فتح القدير للكمال ابن الهمام (8/ 76)
[4] – الخرشي (5/ 36، 37) ، ومغني المحتاج 2 / 28، والمغني 4 / 40، و المحلى (7/ 439).
[5] – بدائع الصنائع (5/ 191) ، ومجموع فتاوى ابن تيمية (29/ 452، 458، 465).