بعد وفاة د. محمد عمارة (28 فبراير 2020م)، خطر ببالي أن أكتب تدوينة عن أن من أهم مميزات مفكرنا الكبير أنه كان دائمًا يطرح نفسه ضمن “مدرسة فكرية”- يسميها: مدرسة الإحياء والتجديد- وليس ضمن تجربته الذاتية فقط.. كما أن من أهم منجزات الرجل أنه جعل للإسلاميين نَسَبًا فكريًّا عريقًا ممتدًا.. نعم، هو لم يخترع هذا النسب، لكنه أحياه وأبرزه وأزال عنه الغبار.. بدءًا من الأفغاني، بل والطهطاوي، وانتهاءً بـ الشيخ محمد الغزالي ، الذي قال عنه د. عمارة: “إن راية التجديد انتهت إليه في عصرنا” (يقصد حتى زمان قول ذلك القول).

فبعد وفاة د. محمد عمارة مباشرة، أحببتُ أن أسجل هذه الخاطرة، ثم لم تسعفني الكلمات حينها ولم أتوقف طويلاً أمام الفكرة، كما خشيتُ أن أكون مبالغًا في تقدير عمل المفكر الراحل، تحت تأثير لحظة الوفاة.. لكنني وجدت الفكرة نفسَها متكررة في الرثاء الذي كتبه المفكر الأردني د.فتحي ملكاوي، عن د. عمارة.. فجدَّد ذلك عندي ما كان مرَّ بخاطري سريعًا.. إذ قال ملكاوي: “عرفنا في زماننا بعض الشخصيات التي تنتسب إلى الفكر ممـّن يرى الواحدُ منهم نفسَه فردًا متميزًا بما يسميه “مشروعه الفكري” ولا يحب أن يُنْسب لغير ذاته، لكنَّ الدكتور محمد عمارة كان مختلفًا عن ذلك تمامًا؛ كان يـجد نفسَه مع مجموعة من أقرانه وأمثاله، ضمن مدرسة يسميها هو “الوسطية الجامعة”؛ التي تعبر عن حقيقة الفكر الإسلامي وخصائص الأمة الإسلامية”.

ثم وجدت نصًّا للشيخ محمد الغزالي- والذي تمر بنا ذكراه (9 مارس 1996م)- يؤكد ما كان د. عمارة يكرره كثيرًا.. وهو الانتساب لمدرسة فكرية ممتدة ذات طابع خاص.. فيقول الغزالي رحمه الله: “أنا أحد تلامذة (المنار) وشيخها محمد رشيد، وأستاذه الشيخ محمد عبده.. و(مدرسة المنار) هى المهاد الأوحد للصحوة الإسلامية الحاضرة، وعلى الذين يرفعون القواعد من هذا المهاد أن يتجنبوا بعض الهنات التى فات فيها الصواب إمامنا الكبير، فما نزعم عصمة له أو لغيره”.

ثم يضيف الغزالي: “الشيخ رشيد، وأستاذه محمد عبده، وزعيمه جمال الدين من أعمدة اليقظة الإسلامية فى العصر الحديث؛ ولكنهم ومَن فوقهم ومن دونهم من المفكرين الإسلاميين ما رُزقوا العصمة ولا زُعمت لهم يومًا.

ومَن مِن أئمتنا القدامى والمحدثين أصاب فلم يخطئ، ومضى فلم يعثر؟ وهل وظيفتنا أن نمضغ الأخطاء، ونتتبع العثرات ونتعامى عن الحسنات ونشتم القمر لأنه كثيرًا ما يقع فى المحاق؟

إن مدرسة جمال الدين الأفغاني ، و محمد عبده ، و رشيد رضا ، مِن أجلّ المدارس الفكرية في تاريخ الإسلام! وهناك جهود مسعورة لتلويث سمعتهم واتهام عقائدهم وجعلهم جواسيس على الإسلام!! فهل يُلام مَنَ يُعري أصحابها؟”.

فهكذا، بهذا الانتساب الفكري الممتد تتراكم الجهود، ويبني اللاحق على السابق، ويحترم العلماء والمفكرون جهود بعضهم البعض.. ونتجنب كثيرًا ما نراه مِن تراشقت لا لزوم لها، ومِن معارك في غير موضعها، ومن انقطاع يُشتت ما يحصل من إنجاز!

وغني عن البيان، أنه لا مانع من تعدد المدارس في الفكر والفهم والبلاغ؛ فالإسلام جامعة عريقة متشبعة الأرجاء تستطيع أن تضم مدارس شتى، في فهم النص وتنزيله وفي فهم الواقع والاقتراب منه.. وتاريخنا قديمًا شاهدٌ على هذا التعدد والثراء الذي يُعد مفخرة لنا حقًّا..

وقد أوجز د. محمد عمارة معالم مدرسة الإحياء والتجديد في عشرة أصول؛ هي:

1- نقد ورفض الجمود والتقليد: سواء كان تقليدًا للغرب أو لتجارب الأسلاف.

2- التجديد.. الذي يؤدي إلى تحرير الفكر من قيد التقليد، وإلى فَهْم الدين على طريقة سلف الأمة قبل ظهور الخلاف.

3- الإصلاح بالإسلام.. لا بالنموذج الحضاري الغربي العلماني .

4- الوسطية الإسلامية.. التي بَرئت من الغلو والإغراق في المادية أو الروحية.

5- العقلانية المؤمنة.. التي تجمع بين النقل والعقل، بين الحكمة والشريعة.

6- الوعي بسنن الله الكونية.. التي تمثل قواعد علم الاجتماع الديني في التقدم والتخلف.

7- الدولة في الإسلام: “مدنية – إسلامية، لا كهنوتية ولا علمانية.

8- الشورى.. أي مشاركة الأمة في صنع قرارات دولتها ومجتمعها.

9- العدالة الاجتماعية.

10- إنصاف المرأة.

ولعل من نافلة القول، أن نشير إلى أن بين أعلام مدرسة “الإحياء والتجديد”، بعض الفروقات التي تثري جهود هذه المدرسة، وتبين أثر اختلاف الواقع بالنسبة لكل عَلَم من أعلامها؛ إضافة إلى أثر اختلاف المزاج النفسي والعقلي في هذه الفروقات.

فهناك من يولي قضية السياسة والتغيير من أعلى، أهمية كبرى، مثل الأفغاني.. في مقابل محمد عبده الذي انتهى إلى أهمية التربية وتصحيح الفكر والعقيدة أولاً.

كما أن منهم من غلبت عليه الناحية العقلية والفكرية أكثر من الناحية الشرعية؛ ونراهم بالترتيب إلى غلبة النظر الشرعي: الأفغاني ثم محمد عبده ثم رشيد رضا.

حتى إن أمير البيان شكيب أرسلان له مقارنة لطيفة مهمة بينهم؛ فيقول: “وهو- أي رشيد رضا- وإنْ كان لا يُسامي جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده في العلوم العقلية- على قوته فيها- فإنه كان يفوقهما في العلوم النقلية، ومعرفة النصوص والآثار. فكانت النازلة إذا نزلت أتى عليها جمال الدين أو محمد عبده بدليل عقلي، وأتى عليها رشيد رضا بدليل عقلي وعزّزه بحديث أو أثر؛ ولهذا اتسعت دائرة بيانه، وجال قلمه في كل موضوع”.

ويقول أيضًا عن المقارنة بينهم من زوية أخرى، هي زاوية الوسائل: “وقد سبق السيد رشيد رضا أستاذَيْه العظيمين الأفغاني ومحمد عبده في مزِيَّة الكتابة، وفيض القلم؛ إذ كانا يُؤْثران تنبيهَ العقول وإيقاظَ الهممِ من طريق الخطابة والمحادثة”.

رحم الله أعلام الفكر الإسلامي ودعاته قديمًا وحديثًا، ونفعنا بتراثهم أجمعين..