الفقه الافتراضي هو ذلك الفقه الذي يقوم على فرض مسائل وصور لا وجود لها في الواقع ، ثم الاجتهاد في تكييفها وبيان حكمها؛ طمعا في الاستعداد للنوازل قبل وقوعها، وليتدرب الطلاب على التعاطي مع تلك المسائل والصور.

والفتاوى الافتراضية هي إجابات ذلك النوع من الأسئلة، التي ربما كان بعض أسبابها تمرن الطلاب على الأسئلة التي لم تقع لصعوبتها، ولاحتياجها إلى مزيد مراجعة ودراسة، الأمر الذي يؤدي إلى صقل الموهبة الفقهية، وتنمية الملكة الفقهية.

مسوغات النشأة

ذكر الخطيب البغدادي-رحمه الله- قال: ( لما دخل قتادة-رحمه الله-  الكوفة قال: والله الذي لا إله إلا هو ما يسألني اليوم أحد عن الحلال والحرام إلا أجبته، فقام إليه أبو حنيفة-رحمه الله- فقال: يا أبا الخطاب ما تقول في رجل غاب عن أهله أعواما فظنت امرأته أن زوجها مات فتزوجت، ثم رجع زوجها الأول ما تقول في صداقها؟ .. فقال قتادة: ويحك أوقعت هذه المسألة؟ قال لا، قال: فلم تسألني عما لم يقع؟ قال أبو حنيفة إنا نستعد للبلاء قبل نزوله، فإذا ما وقع عرفنا الدخول فيه والخروج منه)([1]).  تلك كانت الركيزة الأساسية التي انطلقت منها فكرة الاجتهاد الافتراضي.

وأيد المدافعون عن هذا اللون من الفقه موقفهم بأن النبي –صلى الله عليه وسلم- قد استفتي في مسائل افتراضية كثيرة ، فلم يمنع رسول الله من استفتاه عن مسألته ولا أنكر عليه بل أجابه عنها من غير كراهة ، ولم يقل له لم سألت عن شيء لم يكن بعد؟([2]) .

من ذلك ما رواه المقداد بن عمرو الكندي أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت إن لقيت رجلا من الكفار فاقتتلنا، فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها، ثم لاذ مني بشجرة، فقال: أسلمت لله، أأقتله يا رسول الله بعد أن قالها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقتله» فقال: يا رسول الله إنه قطع إحدى يدي، ثم قال ذلك بعد ما قطعها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقتله، فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله، وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال»([3]).

وقد كان رائدَ هذه المدرسة الإمامُ أبو حنيفة، قال الحجوي-رحمه الله-:( أما أبو حنيفة فهو الذي تجرد لفرض المسائل وتقدير وقوعها وفرض أحكامها, إما بالقياس على ما وقع, وإما باندراجها في العموم مثلا، فزاد الفقه نموا وعظمة, وصار أعظم من ذي قبل بكثير، قالوا: إنه وضع ستين ألف مسالة، وقيل: ثلاثمائة ألف مسألة، وقد تابع أبا حنيفة جل الفقهاء بعده، ففرضوا المسائل وقدروا وقوعها, ثم بينوا أحكامها)([4]).

وإن كان ذلك لا ينفي وجود مسائل افتراضية في غير الفقه الحنفي، وإنما المقصود أن أبا حنيفة  كان أكثر الفقهاء توسعا في عملية الافتراض.

ومما يؤشر لذلك أن الإمام مالكا ممن روي عنه أنه كان لا يفتي إلا في المسائل التي وقعت بالفعل ، لكن هذا ينافي ما روي عنه من المسائل الكثيرة التي هي في الموطأ والمدونة والموازنة والعتبية وغيرها، ويأتي في ترجمة المعيطي من أصحابه الأندلسيين أنه أفرد أقواله هو وأبو عمر الإشبيلي فكانت مائة مجلد، ويبعد كل البعد أن تكون المسائل كلها واقعة في زمنه.([5])

وبغض النظر عن الخلاف التاريخي حول مشروعية الاجتهاد في المسائل الافتراضية ، فإن التاريخ قد أثبت مدى الاحتياج إليها فيما بعد، فقد أصبحت كثير من هذه الافتراضات حقائق ملموسة فيما بعد، وكان الاجتهاد الافتراضي القديم حولها بمثابة المدد الاستراتيجي للإفتاء فيها.

المسائل الافتراضية في الواقع المعاصر

نعيش في واقعنا المعاصر أنماطا اجتماعية وثقافية وسياسية واقتصادية مغايرة لما كان يعيشه أجدادنا في ذلك العصر الذي برزت فيه مسألة الفقه الافتراضي.

أهم ما يميز عصرنا هو أنه عالم كثير التجدد والتغير، ففي كل ساعة يوجد جديد على كافة الأصعدة.

وهذا التطور اللاهث لمفردات الحياة لم يُبقِ للفقهاء رفاهية الاجتهاد في  المسائل الافتراضية، بل إنهم بالكاد يحاولون مواكبة ما تنتجه الثورة الصناعية والتكنولوجية والاجتماعية وغيرها من نوازل ووقائع تحتاج إلى أوقات طويلة للبحث والدراسة.

وها هي المجامع الفقهية المختلفة، التي تجتمع مرة كل عام، وبعضها يجتمع أكثر من مرة، تتزاحم عليها الموضوعات التي تحتاج إلى دراسة، فضلا عن السيل الجارف من الأسئلة التي لا يمكنها التفرغ للإجابة عنها.

عصر الواقعية

لهذا، فإن هذا العصر يتسم  بالواقعية لا بالافتراضية في البحث الفقهي، بل  ربما سبقته المسائل الواقعية، وما أمهلته  وقتا للبحث. وليس أدل على ذلك من الاجتهاد الفقهي حول مشروعية عملة البيتكوين، فلم يكد يبدأ الباحثون بحثهم حول مشروعية إصدار البيتكوين، إلا وقد تجاوزتهم العملة وأصبحت حقيقة واقعة، بل إنها قاربت السقف الذي حددته لعدد الوحدات؛حيث تنص قواعد الإصدار على  التوقف عند 21 مليون وحدة،  والمتداول منها حتى سنتين مضتا حوالي 17 مليون وحدة، أي أنه قد فرغ من إصدار حوالي 85% من مجموع العدد المزمع إصداره في الوقت الذي يكاد يبدأ الباحثون فيه دراسة المسألة!

إعادة الأعضاء بعد قطعها في الحدود

ومن الأمثلة الدالة على تحرر الاجتهاد المعاصر من الافتراضية إلى الواقعية، أن مجمع الفقه الإسلامي الدولي كان يناقش موضوع إعادة أعضاء الجسم بعد قطعها في حدٍ أو قصاص.  أي أنه إذا قطعت يد شخصٍ عقوبة له على جريمة السرقة مثلا، أو قصاصا منه لاعتدائه على آخر بقطع يده،  فهل يجوز له بعد قطع يده أن يعيدها إلى جسمه بزراعتها من جديد من خلال عملية جراحية ؟..وهكذا إذا كان العضو رِجلا أو غيرها من أعضاء الجسد؟

في هذا الموضوع اعترض عضوان من أعضاء المجمع على دراسة الموضوع معللين اعتراضهما بأن هذه المسألة مسألة افتراضية لا واقعية.

قال الدكتور تقي العثماني: “النظر في المسألة موقوف على أن المقصود من الحد هل هو إيلام الجاني بفعل الإبانة فقط، أو المقصود تفويت عضوه بالكلية؟ وعلى الأول تجوز الإعادة، وعلى الثاني لا تجوز. ولكل من الاحتمالين دلائل. ولا يجب علينا القطع بأحدهما الآن، لكون المسألة غير متصورة الوقوع حتى اليوم. ولئن وقعت فسيشرح الله تعالى صدر الفقهاء حينذاك بما فيه رضاه إن شاء الله تعالى”.([6])

وإنما عدها العثماني من المسائل الافتراضية؛ بسبب أن الذي يقطع في الحدود، هو الأيدي والأرجل، والطب الجراحي حتى هذه اللحظة لم يتوصل إلى زراعة هذه الأعضاء.

وقال الدكتور بكر أبو زيد : وبما أن الحدود الإتلافية شرعاً لا تطبق في العالم الإسلامي إلا ما ندر كالمملكة العربية السعودية فأرى عدم بحث هذا الموضوع لأنه فرع عن أصله وأصله لا يقام شرعاً في كل العالم الإسلامي، فليطو البحث فيه ولا ينبغي تمييع الأحكام الشرعية والوثبة عليها من كل جانب. ([7])

وإن كنا نحسن الظن – ولله الحمد – في مثل هذا البحث لكنه والحال ما ذكر يكون من باب الفقه التقديري وبلسان العصر (الترف العلمي) … فلنبذل الجهد فيما له صفة العموم في العالم الإسلامي.

وإنما عدها الدكتور أبو زيد من المسائل الافتراضية؛ بسبب أن الدول الإسلامية لا تطبق أصلا قطع الأيدي والأرجل في الحدود- إلا ما ندر- فكيف نتحدث عن وصل أعضاء لم تقطع أصلا!


([1])تاريخ بغداد (15/  473)

([2])الفقيه والمتفقه ج2/ص19

([3])متفق عليه. اللؤلؤ والمرجان (1/ 18)

([4])الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي (1/  419)

([5])الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي (1/ 420)

([6])” ينظر العدد السادس من مجلة مجمع الفقه الإسلامي الدولي.

([7])” ينظر العدد السادس من مجلة مجمع الفقه الإسلامي الدولي.