تقدر قيمة كل إنسان بما يقدم لدينه وأمته ووطنه والناس، من خدمات جليلة، وعلى قدر تميز الإنسان على قدر مكانته عند الناس.
جمال الدين عطية.. أحد المتخصصين في مجال الفقه الإسلامي، والعناية بالدراسات الفقهية المقارنة بالقانون.
ولد في قرية ( كوم النور) مركز ( ميت غمر) محافظة الدقهلية بمصر، في 22-11-1346هـ الموافق 12-5-1928م، ثم انتقل به والده إلى القاهرة بعد ولادته بأيام.
وانتظم في التعليم المدني، حيث حصل خلاله على شهادة القانون بكلية الحقوق جامعة القاهرة والتي كانت تسمى آنذاك ( جامعة فؤاد الأول) سنة 1948م ، ثم دبلومة الدراسات الإسلامية بالكلية نفسها عام 1950م، حيث التقى عددا من الفقهاء الكبار الذين كانوا يجمعون بين الفقه والقانون، من أمثال الشيخ محمد أبي زهرة والشيخ عبد الوهاب خلاف وغيرهما، وكان لهؤلاء الفقهاء أثر كبير في عنايته بدراسة الفقه وتخصصه أكثر من عنايته بالقانون ، ثم حصل على درجة الدكتوراه في القانون من جامعة جنيف سنة 1960م، وعمل فترة في المحاماة ثم انتقل بعدها إلى العمل الجامعي حيث عمل بالجامعة الليبية سنة 1973م، عمل بكلية الشريعة بقطر عام 1986م حتى 1993، ترأس خلالها قسم القانون بالكلية، وكان قبلها بعشر سنوات قد أشرف على المعهد العالمي للفكر الإسلامي بالقاهرة.
تميز الدكتور جمال الدين عطية بالتعلم الذاتي، فالرجل تخصص في القانون في المقام الأول، ومعلوم أن قدر دراسة الشريعة في كلية الحقوق قليل جدا بالنسبة للمواد القانونية، والغالب في خريجي كليات الحقوق في مصر أنهم يتخصصون في القانون، وأما أساتذة الشريعة بقسم الشريعة فيها فهم خريجو كلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر، غير أن الدكتور جمال الدين عطية نحا نحوا آخر، فهو ابن كلية الحقوق لكنه تخصص أكثر في الفقه منه من القانون، وإن مارس العمل بالمحاماة في دولة الكويت عشرين سنة كما أخبرني هو بذلك.
وقد سألته في زيارة له ببيته بمنطقة المعادي عن تكوينه الفقهي وتميزه، ومَن هم الشيوخ الذين تلقى عنهم العلم، فأخبرني أنه لم يتعلم إلا على أساتذته بالجامعة، لكنه كان كثير القراءة والتعلم الذاتي الذي يعتمد فيه طالب العلم على نفسه خاصة بعدما يتحصل على عدد من المعارف، وهذه الطريقة الثانية بعد التلقي أشار إليها الإمام الشاطبي رحمه الله في كتابه الموافقات، حيث ذكر أن لتلقي العلم طريقتين: الأولى: المشافهة، والثانية المطالعة، مع وجود بعض الكتب التي تعين الطالب على فهم ما يقرأ، وأن يرجع لشيوخه عندما يستشكل عليه شيء.
عقلية الفقه القانوني
كانت لدراسة القانون الأثر الكبير في التفكير الفقهي عند الدكتور جمال الدين عطية، فلم يتعامل مع الفقه كما يتعامل غالبو دارسيه من العناية بشرح المتون وفك الرموز عند كثير من الفقهاء، أو العناية بالاستظهار وحفظ المسائل، وإن كانت هذه أمور محمودة في العلم، لكن رؤية الدكتور جمال الدين عطية كانت أكبر من هذا، فقد كان من أهم معالم المشروع الحضاري عنده العناية بتقنين الفقه الإسلامي، حتى يمكن أن يتحول إلى جزءا من قانون الدولة.
ومن خلال المزج بين الفقه والقانون عنده خرجت فكرة الموسوعة الفقهية التي تبنتها دولة الكويت، والتي خرجت في خمسة وأربعين مجلدا، كان أمينا لها منذ إنشائها، حيث أخبرني – رحمه الله- أنه قدم التصور الكامل للموسوعة إلى وزارة الأوقاف بالكويت، وأحالوها إلى الشيخ مصطفى الزرقا، فلما نظر إلى التصور طلب مقابلة صاحبه، فقابله وعرض الشيخ الزرقا على الدكتور جمال الدين عطية العمل معه في الموسوعة، فوافق بجانب عمله بالمحاماة، فكان ممن لهم أيد بيضاء على هذا الإنجاز العلمي الكبير.
وكان من ضمن المشاريع التي يفكر فيها الدكتور جمال الدين عطية عمل موسوعة فقهية تشمل صياغة معاصرة للفقه الإسلامي تشمل المذاهب الفقهية كلها بحيث تكون أساسا لكل القوانين في الدولة العربية التي تريد تطبيق الشريعة مع ما يتناسب معها من خصوصية في اعتماد مذهب معين، أو الاختيار بين المذاهب بما يناسبها.
وقد بدأنا مع الدكتور بالفعل في وضع التصور لهذا المشروع مع أستاذنا الدكتور محمد أحمد سراج، بحيث يمكن الانطلاق من المشاريع التي قدمت في تقنين الفقه الإسلامي والاستفادة منها والبدء في وضع ما يصلح لهذا المشروع، لكنه ظل فكرة لم تنفذ.
معلمة القواعد الفقهية والأصولية
ومن أهم الأعمال العلمية التي قدمها الدكتور جمال الدين عطية للعالم الإسلامي موسوعة القواعد الفقهية والتي عرفت بـ” معلمة زايد للقواعد الفقهية والأصولية”، وهي موسوعة قامت على تجريد القواعد الفقهية من كل مظانها، من كتب القواعد وكتب أصول الفقه وكتب الفقه وكتب التفسير وكتب الحديث وغيرها، من القديم إلى الحديث، وكان مشرفا عليها مع ثلة من العلماء الكبار، مثل الدكتور أحمد الريسوني الذي تولى الإشراف عليها في نهايتها، والدكتور الروكي وغيرهما من العلماء والباحثين، وقد صدرت في واحد وأربعين مجلدا، وقد رتبت ترتيبا أبدا دون تمييز بين قاعدة كلية أو فرعية، ودون تفريق بين المذاهب الفقهية القائلة بها، مع عزو كل قاعدة إلى مصادرها، وذكر الصيغ المتنوعة للقاعدة والتمثيل لها من كتب القواعد والأصول والفقه.
التجديد الفقهي
ومما تميز به الدكتور جمال الدين عطية دعوته وإسهامه في تجديد الفقه الإسلامي، سواء على مستوى الصيرفة الإسلامية، ومشاركته في عدد من تجارب البنوك الإسلامية، من أهمها تجربة بيت التمويل الكويتي عام 1974م، ونظر لفكرة البنوك الإسلامية في عدد من البحوث والكتب.
كما كان من أوائل من دعا إلى تفعيل مقاصد الشريعة والعناية بها، وكتب في ذلك كتابه ( نحو تفعيل مقاصد الشريعة).
واعتنى بالنظرية الفقهية والدراسات الكلية في الفقه، ومن ذلك ما كتبه في كتابه ( التنظير الفقهي)، وكتابه ( تجديد الفقه الإسلامي)، و( النظرية العامة للشريعة الإسلامية)
كما اعتنى بالدراسات الفقهية المعاصرة، حيث أنشأ مجلة ( المسلم المعاصر)، وهي مجلة محكمة تعنى بالدراسات والبحوث المعاصرة في مجالي الفقه والفكر، وهو صاحب امتيازها ورئيس تحريرها حتى وفاته.
كما كتب في تجديد الفكر كتابه ( الواقع والمثال في الفكر المعاصر).
وامتازت مؤلفات الدكتور جمال الدين عطية بالفكر الكلي الأصولي، دون العناية بالفروع والجزئيات، فقد كانت مساحة التأسيس والتأصيل هي الغالبة على كتابته.
وقد توفي رحمه الله ليلة الخميس 12/1/2017م عن عمر يناهز الثمانية والثمانية عاما..
فرحمه الله وتقبل منه ما قدم للأمة من علم نافع وعمل صالح.