السنن الإلهية في منظورها العام هي القواعد أو القوانين التي أجرى الله تعالى عليها خَلْقه؛ في الكون والإنسان، في الحياة والأحياء، في الآفاق والأنفس؛ بما يضمن لهذا الخَلق صلاحيته واستقامته واستدامته. والفكر الإنساني الذي يتشكل في ضوء هذه السنن وما تستوجبه من شروط وضوابط يسمى فكرًا سُنَنيًّا؛ أي ينبع من هذه السنن، ويَمضي على هديها، ويسعى لتفعيلها، ويلتزم بشروطها.

مفهوم الفكر السنني

فـ”الفكر السُّنَنِيّ” هو الفكر الإنساني النابع من السُّنن الإلهية، الملتزم بشروطها، الساعي لتحصيلها وتفعليها.

وهذا الفكر السنني يدرك أن الكون، بِأَنْفُسِه وآفاقِهِ، ينتظم وفق قانون، ولا يسير خبط عشواء؛ فكل شيء خلقه الله تعالى بِقَدَر، كما أن عِبَر التاريخ تتكرر، وتجارب الإنسان فردًا أو مجموعًا تتشابه.

فالسنن الإلهية قانون ناظم لما خلق الله تعالى من كون وكائنات؛ ونحن مأمورون بالسير في الأرض لملاحظة هذه السنن واستنباطها وتدبرها؛ ومن ثم، العمل بمقتضاها: من التجاوب مع الكون تسخيرًا وإبداعًا وتعميرًا، ومن استقامة النفس وحَمْلِها على ما شرع الله تعالى لعباده من منهج، وما سنَّ لهم من طريق؛ حتى نكون على درب الصالحين سائرين، وبالنجاة متحققين، في الدنيا والآخرة.

قال تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} (آل عمران: 137). فهذا أمر بالسير في الأرض للتعرف على السنن الإلهية فيما يخص الأقوام السابقين؛ للتعرف على عاقبة المكذبين منهم كيف هلكوا، وعاقبة المؤمنين منهم كيف نجوا.

كما جاء الأمر بالسير في الأرض للتعرف على وجه آخر من وجوه السنن الإلهية، وهو ما يتصل بالكون وآفاقه، وما فيه من دلائل باهرة على وحدانية الله تعالى وقدرته وعظمته: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ۚ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (العنكبوت: 20).

جاء في تفسير الطبري: “قَوْلُهُ: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ، لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلْمُنْكِرِينَ لِلْبَعْثِ بَعْدَ الْمَمَاتِ، الْجَاحِدِينَ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ: {سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ} اللَّهُ الْأَشْيَاءَ وَكَيْفَ أَنْشَأَهَا وَأَحْدَثَهَا؛ وَكَمَا أَوْجَدَهَا وَأَحْدَثَهَا ابْتِدَاءً- فَلَمْ يَتَعَذَّرْ عَلَيْهِ إِحْدَاثُهَا مُبْدِئًا- فَكَذَلِكَ لَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ إِنْشَاؤُهَا مُعِيدًا. {ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ} يَقُولُ: ثُمَّ اللَّهُ يُبْدِئُ تِلْكَ الْبَدْأَةَ الْآخِرَةَ بَعْدَ الْفَنَاءِ” (تفسير الطبري، 18/ 377).

إذن، نحن مأمورون بالسير في الأرض لاستجلاء حقائق الكون والحياة، وللتعرف على أسرار الآفاق والأنفس، ولمطالعة “الكتاب المنظور”/ الكون، و”الكتاب المتحرك”/ الإنسان.. بجانب قراءتنا وتدبرنا في “الكتاب المسطور”/ القرآن الكريم.

وهذا الفكر الذي يتشكل نتيجةً لتدبر الكتاب العزيز، والسير في الأرض، وما يوجبه ذلك من انضباط والتزام، واستقامة على الطاعة وابتعاد عن المعصية؛ هو فكر سُنَنيّ يأخذ بيد الإنسان إلى النجاة في الدنيا والآخرة، ويحقق الهداية على مستوى الفرد والمجتمع، ويكفل لنا الفاعلية في الحياة والتفاعل معها، ويحفظنا من الانحراف عن المنهج أو الزيغ عن الطريق أو التردي في مهاوي الشهوات والمعاصي..

مرتكزات الفكر السنني

هذا عن مفهوم الفكر السنني وحقيقته وكيف يتشكل.. وأما مرتكزات هذا الفكر السنني، فنشير إلى أهمها فيما يلي:

دور الإنسان

الفكر السنني يرتكز على تأكيد دور الإنسان.. الإنسان الذي استخلفه الله في الأرض، وجعله أمينًا على الخَلْق والمنهج، وسخَّر له ما في السماوات والأرض، وأوكل إليها العمران والتعمير؛ قال تعالى على لسان نبيه صالح عليه السلام: {وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا ۚ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ۚ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ} (هود: 61).

وبالتالي، ينطلق الفكر السنني من دور الإنسان ولا يهمِّشه، ويسعى لتفعيله لا لتجاوزه.. ولذا، فهو لا يستسلم لجدالات عقيمة عن حرية الإنسان أو مسئوليته، ولا يفتعل مشكلة أو تضادًا مع مفهوم القضاء والقدر.. فلو لم يكن الإنسان حرًّا، ما كان مكلَّفًا ولا مسئولاً ولا محاسَبًا..

و”إذا تحرك الإنسان تحرك المجتمع والتاريخ، وإذا سكن سكن المجتمع والتاريخ”، كما يقول مالك بن نبي (حديث في البناء الجديد، ص: 50).

احترام الأسباب

الفكر السنني يحترم الأسباب ولا يهملها أو يهوِّن من قيمتها؛ إدراكًا منه بأن الله تعالى خلق الكون على نظام وقانون، ولا يمكن التعرف على هذا النظام والقانون، ولا الإفادة مما هو مودَعٌ في الكون من كنوز وخيرات، إلا باتباع الأسباب وإعمالها؛ قال تعالى عن ذي القرنين: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا * فَأَتْبَعَ سَبَبًا} (الكهف: 84، 85). وفي الحديث الشريف: “اعقِلْها وتوكَّلْ” (صحيح ابن حبان).

أما القفز فوق الأسباب أو تعطيلها، بزعم انتظار المدد والعون من السماء، أو بدعوى أن الأسباب لا قيمة لها؛ فهذا مما أصاب العقلَ المسلم بالتراجع، وقعد به عن السعي في الأرض واتباع السنن والتزام موجباتها.

إن توفيق الله تعالى لا يلحق بالقاعدين.. والكون لا يعطي ثمراته للعاطلين.

النظر في العواقب والمآلات

يرتكز الفكر السنني أيضًا على النظر في العواقب والأمور؛ لأنه فكر قانوني منضبط، يضع نصب عينيه الشرطَ والجزاء، الفعلَ وعاقبته، الأمر ونتيجته.. لا ينتظر من الأرض قمحًا بعد أن زرعها شعيرًا.. ولا يُقْدِم على عمل إلا وهو متفكر في عاقبته؛ فيفعل ما يؤدي للخير أو ما يغلب على الظن أنه يؤدي للخير؛ ويجتنب ما يؤدي للشر أو ما يغلب على الظن أنه يؤدي للشر..

ونحن إذا كنا لا نضمن المستقبل، فهو من الغيب، وعلمه عند الله تعالى، فإننا نعي ما بأيدينا من أسباب، ويمكن أن ندرك بالخبرة وتراكم التجارب عواقب ما سنفعله.. ثم يكون التوكل على الله وحسن الظن به، من قبلُ ومن بعدُ، مع عدم التقصير فيما نملك من أسباب.

الاعتبار بالتاريخ والسابقين

كما أشرنا، فنحن مأمورون بالسير في الأرض للتعرف على التاريخ كيف كان، وعلى أحوال السابقين كيف مضت؛ فإن كتاب التاريخ كتاب واسع الصفحات كثير الدروس والفوائد.

والتاريخ- مع الاجتماع- هو المجال الطبيعي للسنن، وهو ميدان عملها وفعلها؛ فالسنن تجري على الناس في ضوء حركتهم بالطاعة أو بالمعصية؛ ومن ثم، تكون عاقبتهم بالفلاح أو الخسران. وحتى نعلم ذلك لا بد من تقليب صفحات التاريخ والاعتبار بها، ومن معرفة أحوال السابقين والاتعاظ بمصائرهم؛ فمن لم يعتبر بالتاريخ صار من عِبَرِه!!

رؤية الكون والتاريخ ضمن قانون وانتظام

فالكون منضبط في حركته ومساره: {لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ۚ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (يس: 40).

والتاريخ الإنساني لا يسير خبط عشواء؛ وإلا لما جاء الأمر بتدبره واستيعاب دروسه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ۖ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ ۚ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} (النحل: 36).

والفكر السنني يعتمد هذه الرؤية القانونية وهذا المسار الانتظامي للكون والتاريخ؛ وبالتالي يتعلم في مدرسة الكون والتاريخ، ويتمثل دروسهما في الحاضر القائم والمستقبل الآتي. وكما قال ابن خلدون: “الماضي أشبه بالآتي من الماء بالماء” (المقدمة، 1/ 12).

السنن الإلهية هي قوانين الله في الكون والخَلق.. والتاريخ والاجتماع هما ميدانها.. والإنسان هو المخاطَب بها، المَعْنيّ بشروطها، المطالَب بتفعيلها.. والفكر السنني هو ذلك الفكر القائم على تلك السنن، المستوعب دروسها، المتمثِّل عِبَرها.. ونحن في أمسِّ الحاجة لهذا الفكر؛ إصلاحًا لحاضرنا، واستشرافًا لمستقبلنا..