يعد يحيى حقي رائد فن القصة القصيرة العربية لإسهاماته الكبيرة في الأدب القصصي، فهو أحد الرواد الأوائل وخرج من تحت عباءته كثير من الكتاب والمبدعين في العصر الحديث. وكانت له بصمات واضحة على الأدب القصصي تاركا ثروة أدبية ضخمة. أنتج يحيى حقي للمكتبة العربية 28 كتابا بين القصة والرواية والنقد والسيرة الذاتية والمقالات الأدبية والموسيقى الكلاسيكية والسينما والمسرح، ويعتبر في مقدمة مؤسسي القصة العربية المعاصرة بل إن بعض النقاد يعتبرونه أعظم من كتب القصة القصيرة في الوطن العربي. وكان واحدا من تلك المجموعة الصغيرة التي أرست أسس النهضة الأدبية للأدب العربي منتصف القرن العشرين.
في هذه المقالة نلقي الضوء على الفن القصصي لدى الأديب المصري يحيى حقي بالإضافة إلى دراسة تحليلية وجيزة لأعماله.
يحفل تاريخ الأدب العربي القصصي بالقصص المختلفة والمتنوعة ونرى منذ عصر الجاهلية أن القصص موجودة في الأدب العربي القديم. وبعد الجاهلية استمرت رواية القصة إلى العصر العباسي ولكن كانت تخلو من الفن القصصي مثل قصص ألف ليلة وليلة. ثم ازدهر الفن القصصي في العصر العباسي وظهرت في أشكال مختلفة مثل المقامات لموجده بديع الزمان الهمداني.
في عصر النهضة ازدهرت الآداب والفنون العربية الحديثة ومن بينها الفن القصصي الذى اطلع على الأدب القصصي في بداية القرن العشرين وشهدت القصة والرواية نشاطا كبيرا ثمرة لجهود كثير من الأدباء ممن كتبوا كتابات تمهيدية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين تعليمية كانت أو وعظية ، كما تدين لجهود المتقدمين ممن قاموا بالتعريب والترجمة.
كان من بين هؤلاء الأدباء الأديب محمد تيمور الذى أصدر قصة “في القطار” التي تعد أوّل قصة عربية فنية، وبعد ذلك التفت جل الأدباء إلى كتابة القصص الفنية ومن بينهم طائفة من الشباب الذين ساهموا مساهمة كبيرة في تطوير الفن القصصي وشكلوا تيارا جديدا كان يحيى حقي هو نجمها المتأنق.
بدأ يحيى حقي كتابة القصة القصيرة في سن مبكرة بسبب وعيه بأصول كتابة القصة القصيرة. اطلاع يحيى حقي في بداية حياته على الآداب الأوروبية مما جعله يستوعب مفهوم الفن القصصي، فقرأ يحيى حقي لعمالقة الأدباء الغربيين وتأثر بهم تأثيرا بالغا كما يقول د. يوسف نوفل “قرأ يحيى حقي لأعلام الفن القصصي ومنهم تولستوىي ودستويفسكي وتورجنيف وتشيخوف وديكنز من الإنجليز وغيرهم كما قرأ من الأدب الفرنسي لبلزاك وبول فاليري وفلوبير وجي دي موباسان وتأثر بالروسي كثيرا”[1].
اتجه يحيى حقي في أسلوب كتابته منهجا مقاربا للأدب الغربي. كان للإبداع الأدبي لديه قيمة فنية وفكرة جمالية أثبت قدرته على استشراف آفاق المستقبل الأدبي وفي نفس الوقت استلهم تراث أمته وتاريخها، وهو ما أضفى على أدبه سحرا فريدا.
جمع يحيى حقي بين جمال الصياغة وروعة الفكرة والإحساس المرهف فخرجت كتاباته القصصية في لغة متميزة في إيقاعها وتراكيبها متوهجة بالمشاعر، متدفقة بالحركة، نابضة بالحياة، فائقة على الإيحاء والتجسيد والتأثير في الملتقى.
يقول الأستاذ أحمد نصير ” تأثير يحيى حقي على القصة العربية كان واضحا ليس فقط في مصر وحدها، وإنما في الأدب العربي عامة، ودوره في إرساء تقاليد هذا الفن الأدبي وانضاجه مهم وكبير بالرغم من قلة أعماله، وذلك لا يعني ضيق عالمه أو محدوديته، وإنما على العكس فقد كان حقي مدرسة لكثير من الأدباء وعالما رحبا حلق فيه العديد من الأدباء ينهلون من فنه وأدبه”[2].
وبسبب ذلك استحق حقي الريادة العالم القصصي كما يقول الكاتب والباحث المصري محمود الفقي ” حقي هو أفضل من كتب القصة القصيرة في الأدب العربي على الإطلاق، وحقي تفرد برشاقة اللفظ و صدق المعاني في هذا الجانب بالذات وهو القصة القصيرة وهو ما يؤكده حقي حينما يكشف عن حبه الشديد لكتابة القصة القصيرة دون غيرها من فنون الأدب”[3].
ويرجع تميز كتابات حقي القصصية عن الكتابات القصصية القديمة بسبب تكامل العناصر الفنية، وإذا درسنا مانشر قبل مجيئه سنجد خلوها من أدوات الفن القصصي. كانت تجري على أنماط القصص التقليدية، وفي هذه الفترة لم يتطور الفن القصصي وكان الأدباء ينظرون إليها كما ينظرون إلى الأخبار التاريخية ويتناقلونها من كتاب إلى كتاب دون تغيير جوهري يمس بنيتها الفنية. ثم ظهر ضد هذا التقليد مدرسة حديثة ساهمت مساهمة كبيرة في تطوير وتجديد الفن القصصي. ورفض جميع أعضاء هذه التيار الجديد التقليد الموروث في الأدب.
كان لواء هذا التجديد بين أيدى يحيى حقي الذى رفض جميع هذه العناصر القديمة لكتابة القصص القصيرة وكان يدعو إلى التجديد في الفن القصصي من ناحية الموضوع والأسلوب كما دعت هذه المدرسة مع يحيى حقي إلى فن القصة بمفهومها الحديث. وبجهود يحيى حقي تميزت القصة من حيث الموضوع والفن. وهو من أجل ذلك كله قدم تراثا مضبوطا وموثقا من ناحية ومن ناحية أخرى قدم دراسات متخصصة حول هذا التراث تؤسس لحركة نقدية جديدة، تكشف قوانين أصلية نابعة من تاريخ الفن القصصي عند العرب تساعد على تطوره من مرحلة إلى مرحلة.
مرت القصة القصيرة خلال مراحل تطورها بمراحل هامة، عكس الدور الهام الذى لعبه يحيى حقي بالتمكين للأجيال اللاحقة بالقبض على تقنيات الكتابة القصصية واكتشاف العناصر الجمالية المواكبة لمعطيات الواقع المتجدد.
دعا يحيى حقي إلى تخليص الأدب من الزخارف وجميع العيوب الأخرى لتتضح معالم الطريق الذى بدأه بنفسه في ” البوسطجي” و” قنديل أم هاشم” و” دماء وطين ” و”أم العواجز” وغيرها من الأعمال المتميزة التي عكست رؤى ومنهجية الكاتب في الفن. ودعا أيضا إلى تخليص الأدب من القيود التي كبلت حرية المبدع في إطلاق موهبته، وأفلح حقي في تخليص فن القصة من لغة المقامة كما في حديث عيسى بن هشام للمويلحي ، ومن الاتجاهات الوعظية كما في النظرات والعبرات للمنفلوطي ، ومن الإيغار في المحلية الذي يختلف في لغته وأحداثه وشخصياته عن الأعمال التي نقل عنها كما في ما جدولين والشاعر وغيرها. وحرص على اللغة البسيطة السهلة المطعمة أحيانا ببعض المفردات أو التعبيرات العامية أو بالحوار العامي كما كان هدفه خلق أدب محلي صادق في تعبيره.
نرى في قصص حقي تصوير البيئة المصرية وخاصة حياة الطبقة الوسطى والفلاحين وهو في بعض الأحيان يقارن بين الحياة الريفية والحياة المدنية كما هو ينعكس في قصصه عادات وتقاليد الطبقة الوسطى، ولذلك كان يلقب بأديب الطبقة الوسطى، وجميع هذه الموضوعات الجديدة جعلته يلمع في فن القصة القصيرة كما يقول ابراهيم العريس “وفي يقيني أن يحيى حقي كان الوحيد بين المبدعين العرب الذين كانت الكتابة وسيلتهم إلى التواصل مع الناس الذى اهتم بكل هذه الفنون من دون أيه تفرقه في ما بينها، وكتب عنها بحب ومحاولة لإثارة العدوى وفي لغة نقدية غير مبهرة، وغالبا في أسلوب شخصي يشعر القاري معه وكأن الكاتب متورط في هذا الفن أو ذاك حتى في أعماقه”[4].
وجدير بالذكر أن يتميز فنه القصصي أيضا بالتطرق لموضوعات المرأة حيث ولم يلتفت إليها قبله إلا قليلا، فسعى إلى عرض مشكلاتها المعيشية والزوجية والنفسية، واقتراح حلول لجميع هذه المشاكل المختلفة كما يقول د. شريف شمس الدين “أن المرأة قد استحوذت مكانة بارزة في فن حقي القصصي، فقد ربط بينها وبين المجتمع وما طرأ عليه من تحولات حضارية أثرت فيه المرأة تأثيرا واضحا فتحدث مثلا عن المرأة في الأوساط الشعبية وغير الشعبية وربط كل ذلك بالمكان والزمان في كل البيئات التي تحدث عنها في قصصه”[5].
ومن بعض أخرى خصائص فنه اختيار الكلمة والعبارة بما يناسب المقام والميل إلى التصوير والتجسيد والحرص على التحليل النفسي اعتمادا على قراءاته العديد في هذا المجال واللجوء إلى الفكاهة والسخرية في خفة ظل واضحة وحسن استخدام الرمز والجمل الاعتراضية. ومن أبرز خصائص أسلوبه ظاهرة التشبيه والميل إلى البساطة في التعبير، والحرص على توظيف اللغة والأداء والتنبه إلى ما تضمنته من فصاحة أصيلة وإن جعله ذلك يستعين ببعض ألفاظ اللهجة الدارجة، محاولا التقريب بين الفصحى والعامية. كما تميز أسلوبه القصصي بفيض من المشاعر والخلجات وتلمسها من خلال التجارب البسيطة التي استوقفت نظره ، فخلع عليها من تأمله وفهمه وذوقه ومنحها أبعادا وأعماقا ذات دلالات اجتماعية وفنية.
ومع ذلك كان يحيى حقي يميل إلى الواقعية خلال كتابته القصصية وهو يصور أحداث قصصه كما حصلت في الحياة الواقعية وهذا الاتجاه الواقعي ميزه بين أقرانه.
كشفت أعماله عن تحليل واع لطبيعة الغرائز في الإنسان وكون الجنس عاملا إيجابيا يدفع الإنسان في الحياة كما يقول د. يوسف نوفل “وفي إنتاجه القصصي تلح عليه أفكار هي الاعداء من شأن الإرادة والاهتمام بالتحليل النفسي اعتمادا على قراءاته الواسعة في هذا المجال، والإشارة إلى مفارقات الحياة والاهتمام بوصف الحيوان وتصوير الجنس وهى أمور لا يكتمل استضاحها إلا باستيعاب انتاجه القصصي الطويل والصغير”[6].
ونجد في كتابات يحيى حقي القصصية فن متكامل بمعايير عالية المستوى من ناحية الأسلوب والموضوع. وبجهوده في الدعوة للتجديد اكتمل الفن القصصي في الأدب العربي ، ومازال الأدباء ينهلون من فنه لأنه كان واعيا بأصول الكتابة منذ وقت مبكر كما يقول فتحي سلامة ” إنني أذكر قولته المشهورة في إحدى الندوات عندما قال أستاذنا يحيى حقي منذ تناولت القلم في سن باكرة، وأنا ممتلئ ثورة على الأساليب الزخرفية، متحمس أشد التحمس لاصطناع أسلوب جديد أسميه الأسلوب العلمي الذى يهيم أشد الهيام بالدقة والعمق. وقد أرضى أن تغفل جميع قصصي، ولكن سيحزنني أشد الحزن ألا يلتفت لهذه الدعوة”[7].
وهكذا كان يحيى حقي دائما يجاهد في سبيل تجديد الفن القصصي وأسلوبه ونجح في جهده هذا إلى حد كبير وتوسّع أفق الفن القصصي توسعا عميقا وأخرجه من خمول التقليد إلى قمة التجديد والتطور. وأضحى يحيى حقي أكثر أدباء جيله تأثيرا على الأجيال اللاحقة من الكتاب بعد أن كرَّس حياته في إرساء القيم الأدبية والفكرية والأخلاقية، واستمر في بث تلك المبادئ والقيم عبر تلاميذه ومن خلال إبداعاته حتى آخر لحظة في حياته.
سجلت كتابات حقي نبض الحياة وعكست أنماطها والتقاليد الإجتماعية ، كما حرص على نقد الواقع الاجتماعي ، واستطاع كذلك أن يرسي أسس الدرس النقدي منذ وقت مبكر، فكان كتابه “فجر القصة المصرية” على صغر حجمه تأصيلا مبكرا للأسس الفنية للنقد الأدبي لفن القصة.
للإبداع الأدبي لدى يحيى حقي قيمة فنية وفكرية وجمالية، وقدرة عجيبة على استشراف آفاق المستقبل الأدبي، واستطاع توظيف أدواته اللغوية ومعرفته بتراث أمته وتاريخها خير توظيف مما أضفى على أدبه سحرا فريدا. لقد جمع بين جمال الصياغة وروعة الفكرة والإحساس المرهف، مع الاهتمام بالقيم الدينية والأخلاق السامية وإعلاء المثل العلي فأنتج لغة قصصية متميزة في إيقاعها وتراكيبها، متوهجة بالمشاعر والأحاسيس، متدفقة بالحركة، نابضة بالحياة، ذات قدرة فائقة على الإيحاء والتجسيد والتأثير .
الهوامش والمصادر :
[1] د. يوسف نوفل : الفن القصصي بين جيلي طه حسين و نجيب محفوظ، الهيئة المصرية العامة للكتابـ، ص 78.
[2] مجلة الرأي : أحمد نصير ، يحيى حقي أديب بدرجة ديبلوماسي، 6 سبتمبر 2009م.
[3] المرجع السابق.
[4] منتديات ستار تايمز : يحيى حقي يضئ قنديله مجددا في مؤيته القاهرية، 17 مايو 2008م.
[5] المرجع السابق .
[6] د. يوسف نوفل : ص 78.
[7] أخبار الخليج : جيل المبدعين في القصة القصيرة ، العدد 11950، 11 ديسمبر 2011م.