القرآن يعطيك بمقدار ما تعطيه، وفي واقعنا المعاصر لم يأخذ القرآن حقه من الدرس والتبليغ، فحجم الإصدارات التي تناولته بالتفسير والبحث في مكنوناته وابتكار المناهج لفهمه مازالت دون القدر المطلوب، فمن النادر أن تجد مجلة أو دورية تتناول القرآن وتسعى لبث تدبره بين الجماهير الواسعة من المسلمين، ناهيك عن تبليغه للناس أجمعين، ومع هذا لا يدرك الكثير من القائمين على شان الدعوة الإسلامية أن هناك من يشوه صورة القرآن ويشغب على رسالته، ويضلل الناس عن سماعه، وهو منهج قديم تحدث عنه القرآن في قوله تعالى:”وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَٰذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ”[1]، واللغو كان قديما بالصفير والصياح المزعج، أما اللغو في ظل الاستشراق المعاصر فتغير شكله وبقيت حقيقته، فأصبح اللغو بإصدار الكتب والدوريات، وعقد الندوات والمؤتمرات، وإنشاء المعاهد التعليمية، من أجل صرف الناس عن الاستماع للقرآن، ووضع صمامات علي آذان الناس وفي قلوبهم.
وفي هذا الإطار يأتي صدور دورية “القرآن والاستشراق المعاصر” التي تُعني برصد حركة الاستشراق المعاصر للقرآن الكريم، من مؤتمرات وندوات وإصدارات وأفكار ومستشرقين ومدراس استشراقية تعاملت مع القرآن، والتي صدر منها عددان في شتاء وربيع عام 2019 عن المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية ببيروت، في (122) و (106) صفحة.
والحقيقة أن الموقف الاستشراقي من القرآن قديم، فقد ظهر الجدل ضد القرآن مبكرا، منذ يوحنا الدمشقي[2]، وموسى بن ميمون[3]، وتوما الإكويني[4]، وبطرس المبجل[5] الذي كان أول من شجع مشروع ترجمة القرآن إلى لغة غربية، فظهرت أول ترجمة للقرآن الكريم إلى اللغة اللاتينية على يد البريطاني “روبرت كيتون”[6] في الفترة ما بين (1136-1157م) ثم تتابعت الترجمات، وتوسع المستشرقون في دراسة علوم القرآن، وبرزت المدارس الاستشراقية.
وقد وقع الاستشراق في أخطاء جسيمة في تعامله مع القرآن الكريم بعضها عن قلة الدراية والآخر عن سوء القصد، وتكفل العلماء المسلمون في القرنين الماضيين بالرد على كثير مما طرحه المستشرقون، لكن أخذت حركة الاهتمام بما ينتجه الاستشراق تضعف وتتراجع لأسباب متنوعة، منها: أن جزءا من أفكار المدرسة الاستشراقية تجاه القرآن أصبح يتصدر له جامعات وباحثين وأكاديميين داخل العالم الإسلامي نفسه، وهو ما صرف الجهود للرد عليها، كذلك أخذ الاستشراق المعاصر يعتصم بالأكاديميا في إنتاجه الفكري، إذ لم يعد همه الأكبر تشكيك المسلمين في القرآن، ولكن أصبح يهدف إلى بناء حائط منيع بين القرآن والعقل والمجتمع الغربي، وهو ما جعل الكثير من الباحثين المسلمين غير مطلعين عما يدور في أروقة الجامعات ومراكز الأبحاث الغربية.
ويبدو من حجم وكثافة المادة التي تعرضها دورية “القرآن والاستشراق المعاصر” أن القرآن قادر على إثارة الجدل، فقوة القرآن تكمن في ذاته وليس في واقع المسلمين ومستوى ما وصلوا إليه من قوة وحضارة، إذ يظل القرآن قادرا على التأثير فهو كلمة الله الأخيرة للإنسانية.
ندوات لا تتوقف حول القرآن
استعرض العددان الكثير من الندوات التي عقدها الاستشراق المعاصر حول القرآن، مثل الندوة التي عقدتها المؤسسة اليهودية الفرنسية في يناير 2019 بعنوان”اليهود واليهودية في القرآن الكريم” وجاءت للتعليق على كتاب “اليهود في القرآن” للكاتب “مائير بار أشير”، أستاذ اللغة العربية وآدابها في الجامعة العبرية بالقدس، كذلك مؤتمر “القرآن وإثيوبيا[7]: المضمون والتلاقي” في أبريل من ذات العام، والذي عقدته الجامعة الكاثوليكية الأمريكية في واشنطن، وندوة “القرآن كتاب يُتلى ويُكتب ويُفسر” والتي عقدها كرسي تاريخ القرآن في الكوليج دي فرانس[8]، في يونيو، والندوة التي عقدها المعهد الأوروبي لدراسات الأديان في باريس (IESR) في أبريل من ذات العام، لمناقشة كتاب الباحثة اللبنانية نايلة طبارة “الرحلة الروحية في تعليق الصوفية على القرآن” والذي درست فيه تفسير سورة الكهف باعتبارها السورة الوحيدة في القرآن التي تتحدث عن المنهج الصوفي بأكمله، حسب رؤية الكاتبة.
وقد عقد المركز الثقافي العربي في مدينة لييج البلجيكية ندوة في 8/5/2019 تحدثت فيها الدكتورة “جاكلين شابي”[9] عن كتابها “أركان الإسلام الثلاثة: قراءة أنثربولوجية للقرآن“[10]، وندوة معهد العلوم ولاهوت الأديان بفرنسا في فبراير من نفس العام، بعنوان “مريم في الكتاب المقدس القرآن:مقاربات نصية“، وفي بروكسل عقدت ندوة في 29مارس من ذات العام بعنوان “المنطق اليومي وأساليب التعليم والتحديات السياسية..نظرة مقارنة للمدارس القرآن” تناولت المدارس القرآنية في صعيد مصر، وإصلاح المدارس القرآنية في السنغال، أما في المغرب فعقدت عدة مؤسسات منها جامعة لوفان البلجيكية المؤتمر الدولي الخامس في ترجمة معاني القرآن بعنوان “المرجعيات اليهودية والمسيحية في ترجمات معاني القرآن الكريم” يومي 20و21 فبراير 2018، استعرض (22) دراسة، تناولت تاريخ ترجمة معاني القرآن، وفي ذات العام نظمت الكوليدج دي فرانس لمدة يومين ندوة “القرآن في التاريخ الثقافي والفكري في الفسطاط بين القرنين السابع والعاشر“، وفي ألمانيا عقد لأول مرة في نوفمبر من ذات العام مؤتمر دولي يشيد بالقرآن الكريم باعتباره يقدم أنموذجا للتعامل مع المرأة والآخر، المؤتمر نظمته جامعة “مونستر” الألمانية، المؤتمر كان بعنوان “المائدة المستديرة للدراسات القرآنية:حوار المقاربات التقليدية والمعاصرة للقرآن الكريم“، وفي بلجيكا نظمت الجامعة الكاثوليكية دورة تدريبية بعنوان “التأويل القرآني: التفسيرات الكلاسيكية والمعاصرة“.
إصدارات متنوعة عن القرآن
رصدت الدورية الكثير من الإصدارات الاستشراقية حول القرآن الكريم منها: “إصلاح القرآن لليهودية والمسيحية: العودة إلى الأصل” الصادر عام 2019 في (358) صفحة، باللغة الإنجليزية وشارك فيه 12 باحثا متخصصا في القرآن وعلومه، ويذهب الكتاب إلى أن القرآن سعى لإصلاح الأديان وقت نزوله، كما صدر كتاب “القرآن بين الإمبرطورية العثمانية والجمهورية التركية” للأكاديمية الأمريكية سوزان غونستي Susan Gunasti تناولت فيه أعمال المفسر التركي حمدي يازر الشهير بـ”ألماليلى” المتوفى (1942م)، كما صدرت مجلة “دراسات قرآنية” عن كلية الدراسات الشرقية وافريقية بجامعة لندن، والتي يرأس تحرير الدكتور محمد عبد الحليم، والتي تصدر منذ 21 عاما، كما نوقشت عام 2019 رسالة دكتوراة للباحثة “إيمانويل ستيانيديس” في جامعة السربون الفرنسية بعنوان “من النص إلى التاريخ: مسألة التسلسل الزمني في القرآن“، حللت فيه الباحثة تسعة كتب ترجع إلى القرن الثالث والخامس الهجري في التفسير، وعرضت في رسالتها عدة تفسيرات تاريخية للنص القرآني أعدها كبار المستشرقين.
وقد تناولت الدورية كتاب “القرآن وانعكاساته التوراتية: تحقيقات في نشأة الدين” للكاهن الاسترالي مارك دوري، الصادر عام 2018، وكتاب “القرآن: تاريخ متعدد:بحث في تشكل النص القرآني” للكاتب الفرنسي “فرانسو ديروش” والصادر2019 في ثلاثمائة صفحة، حيث يعيد الكتاب إنتاج مقولات ومغالطات المستشرقين حول القرآن، كما صدر في نفس العام كتاب “القرآن وأواخر العصور القديمة: تراث مشترك” للمستشرقة الألمانية “أنجليكا نويفرت”، في (552) صفحة، وكتاب “عيسى في القرآن” للكاتب كارلوس أندريس سيغوفيا 2018 في (294) صفحة، و”موسوعة القرآن” الشهيرة بـ”دائرة معارف ليدن للقرآن”، وهي دائرة معارف قرآنية صادرة عن جامعة ليدن الهولندية شارك فيها عشرات الباحثين الغربيين والمسلمين على مدار الفترة من 1993 حتى 2006، وتحوي (694) مدخلا موزعة على ستة أجزاء، وتناولت الدورية خبر إصدار أكبر ترجمة لمعاني القرآن باللغة “الأشانتية[11]” في غانا، والتي قام بها الشيخ “هارون أغيكوم” والتي استغرق إعدادها أربعين عاما.
تناولت الدورية مدارس الاستشراق في التعامل مع القرآن الكريم، ومنها مدرسة الاستشراق الألمانية وعرضت أشهر المشترقين الألمان، وأشهر ترجماتهم للقرآن، وأشهر بحوثهم القرآنية، ودورهم في طباعة المصحف، كما عرضت مدرسة الاستشراق الفرنسي وآثارها في الدراسات القرآنية.
[1] سورة فصلت: 26
[2] عاش في الدولة الأموية، وتوفي عام (749م) ويعتبر يوحنا الدمشقي آخر آباء الكنيسة الشرقية، وشكلت مؤلفاته مرجعًا مهمًا لجميع لاهوتي القرون الوسطى
[3] طبيب وفيلسوف يهودي أندلسي عاش في القاهرة توفي 1204م
[4] توما الإكويني قسيس وقديس كاثوليكي إيطالي توفي 1274م
[5] بطرس المبجل: راهب ولاهوتي فرنسي، رئيس دير كلوني في جنوب فرنسا توفي 1156م
[6] روبرت كيتون: راهب ومستشرق إنجليزي عاش في القرن الثاني عشر الميلادي
[7] المعروف أن إثيوبيا ثلث سكانها من المسلمين، وهي من أوائل المناطق التي دخلها الإسلام مع هجرة المسلمين للحبشة بدءا من العام الخامس من البعثة النبوية
[8] الكوليج دي فرانس مؤسسة فرنسية تختص بالبحث العلمي والتعليم العالي على مستوى الباحثين والدراسات العليا
[9] جاكلين شابي مؤرخة فرنسية وأاستاذة للدراسات العربية ومتخصصة في تاريخ صدر الإسلام
[10] الكتاب صدر عام 2016 في (372) صفحة
[11] اللغة الأشانتية يتحدث بها قرابة ثلاثة ملايين شخص في غانا وساحل العاج