قبل التعرض لمدارسة موضوع “القرآن والحياة الطيبة” أود أن أطرح بعض المحددات الأساسية ليكون القارئ الكريم على وعي بما نسعى إلى تقديمه، وهذه المحددات هي:
1 – أننا هنا لسنا بصدد تفسيرا للقرآن، فهذا ما لا نستطيعه، فضلا على أننا لا نملك أدواته.
2 – أننا لسنا بصدد طرح مفهوم نهائي لهذا الموضوع أو مطلق، بل هو بالأساس تحرير لمصطلحي الحياة الطيبة في القرآن ومن القرآن.
3 – تحرير مصطلح “الحياة الطيبة” يحتاج منا الرجوع إلى بعض أنواع التفاسير وكتب المعاجم القرآنية واللغوية، ولكن يظل القرآن هو الحاكم بظاهر نصه على هذا المفهوم وليس محكومًا عليه من قِبل هذه المصادر.
4 – طرحُنا سيستخدم منهج “التحليل” و”التركيب” بغرض البحث وتحرير المصطلح المذكور.
5 – للقارئ الكريم أن يضيف ما يراه مناسبا..ويا حبذا ..لو ألزم نفسه بمتابعة هذا المفهوم معنا من خلال مدارسة القرآن ودرس وتدبر هذا المفهوم (الحياة الطيبة).
لماذا البحث في الحياة الطيبة؟ الحياة القائمة: الآلام المستمرة وغياب المعنى لغياب “حضور الله” فيها يعاني الإنسان المعاصر من آلام الحيرة النفسية، والضلال الوجداني، والتمزق الروحي رغم ما وصل إليه من ابتكار وسائل للمتعة المادية وإشباعات الجسد، والذي تمركزت حوله غايات الإنسان المعاصر، وليس ذلك خاصا بالحضارة الغربية المادية فقط، بل امتد إلى المجتمع المسلم -أيضًا- والذي أصبح نسخة متطابقة من الإنسان الغربي في تلك الغاية وربما تفوق عليه في بعض الحالات والبلدان..
ازدادت نسبة الجريمة مع تطور التكنولوجيا…وازدادت المصحات النفسية مع تعدد المتع وسبل الرفاهية..وازدادت حالات الانتحار مع زيادة الدخل ..وازدادت الحروب مع تزايد تأسيس المؤسسات الدولية وإبرام اتفاقات السلام..وزاد القلق والتوتر النفسي على المستوى الفردي والجماعي مع زيادة وسائل الرفاهية ..
إن الحياة المعاصرة يمكن وصفها بالمفهوم القرآني “الضنك” وهو مفهوم جامع لما تعانيه البشرية في نسختها المعاصرة، و”الضنك” -في المعنى القرآني- هو: الكئيب، ضيق الصدر، القلق، والشقاء، والضيق الشديد، والضيق من كل شيء وفي كل شيء. فهو ضيق بذاته وبنفسه وباحتياجاته وضيق في أسرته وفي مجتمعه، وكئيب في نظرته لداخله وفي نظرته لخارجه، وهو -أيضًا- اليائس من معيشته وعالمه ومفردات حياته وتفاصيلها، وهذا “الضنك” وصف الحياة القائمة لا يرتبط بفقر أو بغنى -كما تقدم- ولا بوضاعة ولا بوجاهة ولا بشمال ولا جنوب، ولا بذكر ولا بأنثى، ولكنه يرتبط كما خط الوحي ورسم معالم تلك الحياة (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا) [طه 124].
ترتبط حياة “الضنك” والآلام والضيق والاكتئاب وفقدان المعنى ..بتغييب الله عن الحضور في تلك الحياة ..وإعراض الإنسان عن “حضور الله” في حياته، وزهده أو جهله بهذا الحضور وأصالته، فتعمد الإنسان المعاصر “تغييب” الله عن “الحضور” في حياته، واستبدله بآلهة أخرى قد تكون الآلة، وقد تكون المادة، أو الطبيعة، أو عبادة إنسان مثله، أو عبادة الحاجة، أو عبادة الحياة القائمة ذاتها..فانصرف الإنسان عن الله، وصرف اللهَ عن حياته لهذه المعبودات أو غيرها فكانت النتيجة التي أُكدت حتميتها من القانون القرآني (مَعِيشَةً ضَنْكًا).
وبما أن القرآن يتسم بتعادليته في الطرح والنهج فهو كما وصف الداء فإنه أيضا وصف الدواء.. والدواء الذي يعالج المعيشة الضنك هو “الحياة الطيبة”..لذلك جاء ذلك البحث …ويتبع بإذن الله
في معنى الحياة في القرآن وأنواعها
جاءت “الحياة” في القرآن مقابلة لـ” الموت” (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) [ الملك: 2] والحياة بذلك ابتلاء واختبار من الله للإنسان تتطلب القيام بمهام وواجبات تجعل الإنسان قادر على تجاوز هذا الاختبار الإلهي، والله تعالى لم يترك الإنسان وحيدًا بلا دليل في هذا الاختبار بل أرسل إليه -من لطفه- ما يعينه على التجاوز الحق لهذا الاختبار: الرسل والأنبياء والكتب السماوية، وجعل فيها الدليل والمرشد والهداية للإنسان من أجل تحقيق النجاة (وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ) [غافر: 41] والفوز والفلاح (أولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [البقرة:5].
و”الحياة” نفسها ليست واحدة في القرآن، فقد جاءت على أربعة أنواع هي:
النوع الأول: (الحياة الخالدة) ، كما في قوله تعالى (إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ) [العنكبوت:64] و (يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي) [الفجر:24] فالمقصود هنا بالحياة: الحياة الآخرة المستقرة الأبدية للإنسان، والحياة التي لا يعقبها موت أو فناء. وهذا النوع ذكر في القرآن من باب التحسر لمن لم يقدم لتلك الحياة من العمل الصالح حتى يحصل على مكاسبها الأبدية كما في قوله (يا ليتني) أو باب تصحيح المفاهيم لمن ظن خطأ أن الحياة الأولى التي يعيشها هي الحياة الأبدية فكان قوله تعالى (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) [العنكبوت:64].
النوع الثاني: (الحياة الدنيا) وهي أكثر ما ذكرت في القرآن الكريم [وسوف نأتي لذكر شبكة قيمها المذكورة لاحقًا] حيث ذكرت في ما يزيد على (60) موضوعًا جلها في موضوع الذم والاتهام.
النوع الثالث: (الحياة الطيبة) وهي موضوع هذا البحث وذكرت مرة واحدة (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) [النحل:97] مرتبطة بالعمل الصالح للذكر والأنثى. ويقصد بها كما سنقدم حياتين: الحياة الأولى والحياة الآخرة. ومن ثم فهي حياة أشمل من الحياتين السابقتين (الخالدة والدنيا).
القرآن والحياة الطيبة
مفهوم “الحياة الطيبة”: جاءت الحياة في القرآن مقابلة للموت، وذلك على وجهين: الأول بالمعنى الفسيولوجي وهو انعدام القوة الحية والقوة الحساسة في الكائن الحي بعد أن كانت فيه. (إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَىٰ) [ فصلت: 39].
والوجه الثاني بالمعني القيمي وهو المقابلة بين الإيمان والكفر كما في قوله تعالى (وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ) [فاطر:22] فالحي هنا هو المسلم والميت هو الكافر، قال الزجاج: الأحياء المؤمنون والأموات الكافرون، وكذلك قوله (لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا) [يس:70] أي من كان مؤمنًا وكان يعقل ما يخاطب به، فإن الكافر كالميت لا يعقل شيئًا.
وقوله تعالى ( أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا) [الأنعام:122] فجعل المهتدي (حيًا) وأنه حين كان على الضلالة كان (مَيْتًا)
وطيبة من طيب: وتضمن عدد من المعاني –كما جاء في المعاجم اللغوية – منها:
– طيَّبَ يطيِّب ، تطييبًا ، فهو مُطيِّب ، والمفعول مُطيَّب
طيَّبَ الكلامَ: حسَّنه، جعله طيِّبًا أو طاهرًا عفيفًا
طيَّب اللهُ روحَه: سكَّنها وأمَّنها طيَّب اللهُ نفسَه على ما ابتلاه به
نَفْسٌ طَيِّبَةٌ: رَاضِيَةٌ
طَيِّبُ الْخُلُقِ: حَسَنُ الطَّبْعِ
امرأَةٌ طَيِّبةٌ: حَصَانٌ عفيفة
ونَفْسٌ طييةٌ: راضيةٌ بما قُدِّر لها
وكلمةٌ طيبة: حسنةٌ جيِّدة لا كراهةَ فيها
وبلدةٌ طيبة: كثيرةُ الخير آمنةٌ أَو مأْمونةٌ من الآفات
ومساكنُ طيبة: طاهرة
طيِّب السّريرة : طيب القلب، صافي النِّيَّة
طيِّب القلب: لا يحقد، مسامح
طيِّب النّفس: كريم، سَمْح
إن مفهوم الطيب: يحمل إجمالا كل معاني الخير التي ترتبط بهذا الوصف سواء وصف به الإنسان أو الجماد والأموال والطعام والعمل والفكر أو غير ذلك.. فـ “الطيب” جماع للخير كله وهو نقيض الخبيث (قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) [ المائدة: 122] وجاء: الطيب هو المؤمنون والخبيث هو المشركون. و”الطيب” بما تقدم هو معيار التفاضل عند الله تعالى وليس الكثرة أو القلة.