بدأت استعمالات المنهج اليساري في الفكر العربي المعاصر خلال الستينيات بعد رواجه في أوروبا عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، حيث تسللت الأفكار اليسارية إلى مراكز البحث والجامعات العربية واجتذبت إليها شباب الدارسين والمثقفين، ومعها بدأت موجة غير معهودة من التصنيف العربي ذات صبغة يسارية حاولت مقاربة مسائل النهضة والتراث وتأويل النص الديني، وضمن هذا السياق يبرز الدكتور حسن حنفي[1] بحسبانه من الأوائل الذين قدموا قراءة حداثية يسارية للنص القرآني ودعوا لإلغاء التفاسير الموروثة وذهب إلى حد وضع منهج تفسيري جديد عوضا عن المناهج التفسيرية القائمة.
ماهية الوحي وخصائصه
ينطلق حسن حنفي في مقاربته القرآنية من محاولة إعادة بناء مفهوم الوحي؛ وله في ذلك تعريفات كثيرة مبثوثة في مصنفاته وهي حول مادية الوحي وزمانيته، ومن هذه التعريفات إنه: “علم مستقل بذاته يستنبطه الإنسان ويضع قواعده وأصوله لا هو بعلوم الدين ولا هو بعلوم الدنيا. هو علم المبادئ الأولى التي تقوم عليها العلوم جميعًا”، وقريب منه تعريفه أنه ” المبادئ العامة في المعرفة الإنسانية”، ومهمة الوحي عنده ليست هداية البشر لكنها “مهمة تربوية محضة، والغاية منه تربية الإنسانية وليس إعطاء عقائد أو إقامة شعائر أو تشييد مؤسسات، فالوحي وسيلة لا غاية، إذا تحققت الغاية أدت الوسيلة المطلوب منها”. وجوهر الوحي مادي لا ديني ولا روحي وأساسه علماني وحول هذا المعنى يقول “العلمانية إذن هي أساس الوحي، فالوحي علماني في جوهره والدينية طارئة عليه من صنع التاريخ تظهر في لحظات تخلف المجتمعات وتوقفها عن التطور.
واستنادا إلى هذه التعريفات ثمة خصائص تميز الوحي وهي: أولا، أن الوحي ظاهرة اجتماعية تاريخية كأي ظاهرة أخرى، و”النصوص الدينية ذاتها نصوص تاريخية، نشأت في ظروف اجتماعية خاصة عُرفت باسم “أسباب النزول” وتطورت طبقًا للزمان وتجدد حاجات المجتمع، وتنوع قدرات البشرية من حيث هي مصادر للشرع عُرفت باسم “الناسخ والمنسوخ”. وثانيا، أنه ليس إلا علم إنساني إذ بمجرد نزوله لم يعد تنزيلا إلهيا ولكنه صار علما إنسانيا. وثالثا، أنه مجرد صدى للواقع واستجابة له فلا وجود موضوعي مستقل للوحي بعيدا عن الواقع. ورابعا، أنه ظني لا يثبت شيئا ولا ينفيه وفي هذا يقول “إن النص لا يثبت شيئًا بل هو في حاجة إلى إثبات، في حين لا يقف شيء غامض أمام العقل، فالعقل قادر على إثبات كل شيء أمامه أو نفيه”. وأخيرا أنه ليس ثابتا ولكنه يتطور في الزمان والمكان حسب احتياجات البشر وطبقا لاختلاف الزمان والمكان[2].
هل لدينا نظرية في التفسير
وهو سؤال عنون به الدكتور حسن حنفي إحدى مقالاته وأجاب عنه بالنفي، وفي تعليله لهذا الغياب يقرر أن تفسيرنا “لم يتعد مرحلة الشرح والتفصيل والتكرار وبيان ما لا يُحتاج إليه في كثير أو قليل في حياة الناس.. فيدور النص على نفسه مستمدا معانيه من الإسهاب في المعنى الأولي للآية” وبهذه الكيفية لا يمكن نعته بالتفسير لأن غاية التفسير وصل الوحي والواقع، والتفاسير التراثية ومناهجها لا تقيم هذه الصلة[3]. وليس هذا مأخذه الوحيد على مناهج التفسير بل هناك “عيوب” عديدة يرصدها الدكتور حسن حنفي في الآتي:
- أن التفسير الموروث ما زال نظرية في وجود الله أكثر من كونه نظرية في وجود الإنسان، أي أنه تفسير إلهي عقائدي كلامي مع أن التفسير المطلوب حاليا بعد ثبوت وجود الله وخلق العالم هو إقامة نظرية في وجود الإنسان الفردي والاجتماعي محاولا وصفه في مواقفه مع العالم والآخرين.
- أن التفسير الموروث مازال مرتبطا بظروف البيئة الإسلامية الأولى التي نشأ فيها الإسلام مرتبطا بها من النواحي الاجتماعية والاقتصادية، فهو تفسير يؤمن بالتفاوت بين الطبقات، وبالقيم الروحية ويتخذ منها وسيلة لتسكين الناس[4].
- أن التفسير الموروث لا يبدأ بالنقد والدعوة إلى الإصلاح والتغيير الجذري للأوضاع المنافية للشرع بل يكرسها ويمنحها المشروعية.
- أن التفسير الموروث يغلب عليه التفسير اللغوي وهو يفترض غموض المعنى وخفاءه وأنه بحاجة إلى جهد زائد لفهمه، دون استخدام الحدس المباشر للنص لفهم المعنى على ضوء الخبرة الحية للمفسر التي هي الوجه الآخر للنص.
أسباب النزول: تأويل ماركسي
وبينما يحمل حسن حنفي على التفسير الموروث وطرائقه وعلومه المساعدة إلا أنه يستبقي من المنظومة التراثية عنصر وحيد هو أسباب النزول ويجعل منه مدار تفسير النص وفهمه، ولكن ماذا تعني أسباب النزول لديه وكيف يوظفها أيديولوجيا.
يقارب حسن حنفي علم أسباب النزول مقاربة ماركسية ممثلة في المنهج الصاعد والمنهج النازل، فيدعي أن الوحي تشكل في الواقع من خلال أسباب النزول، وصعد منه ولم ينزل إليه، وحسب تأويله الماركسي فالوحي صاعد من الواقع وليس متنزلا كما ينص القرآن بعبارات قاطعة، وهو أيضا موضوع لأن الفكر ليس إلا إنعكاس للمادة.
وتعني أسباب النزول لدى حسن حنفي أشياء ثلاثة، هي:
- أسبقية الواقع على النص: وتعني أن الوحي لم يفرض على الواقع ابتداء بل كان استجابة لنداء الواقع ذاته، فالإسلام دين واقعي من الأساس كما يقول ولا تتجلى واقعيته من خلال التشريعات الفقهية بل واقعيته مستمدة من النص الذي هو استجابة لنداء الواقع.
- المصلحة مقصد للوحي: وتعني أن المصلحة -وليس الهداية- هي المقصد الرئيس للوحي، وهذه المصلحة يمكن إدراكها بالفطرة بعيدا عن النص كما ذهب عمر بن الخطاب الذي نزل الوحي مؤيدا لبعض آراءه، فبنظرنا في الواقع وبالتحامنا معه يمكن صياغة حلول لمشاكلنا دون التقيد بالنص “فالواقع هو الذي يفرض نفسه وهو أبلغ من كل نص”.
- الانتقائية: وتعني أن نختار من الوحي في كل مناسبة ما نجد فيه حلا لمشاكلنا، ذلك أن كل محاولة كلية لتفسير الوحي تعارض كيفية نزول الوحي الذي نزل منجما، فالواجب ألا يؤخذ منه إلا ما ساعد على حل مشاكل الناس[5].
وبالنظر في هذه الخصائص نجد أنها تستبطن فكرتين أساسيتين؛ أولهما تحول النص المطلق من كونه مركزا إلى كونه هامشا أو بالأحرى تابعا للواقع النسبي يدور في فلكه ويصطبغ بذاتيه. وثانيهما تقزيم النص وتقليصه عبر عملية إقصاء نهائية للنصوص التي لا تمس الواقع مسا مباشرا كالآيات التي تتحدث عن الخلق ومصير الإنسان الأخروي، وهكذا يصبح لدينا نصا مبتورا لا يحيل لأي معنى غيبي متجاوز.
نحو بناء نظرية مادية في التفسير
لم يكن نقد الدكتور حسن حنفي للتفسير التقليدي لم يكن سوى مقدمة ضرورية لطرح معالم منهجه التفسيري المنشود، ويتصف هذا المنهج ببضع خصائص هي:
- الجزئية، وتتمثل في تفسير أجزاء معينة من القرآن ذات أولوية نابعة من احتياجات الواقع ومطالبه، فالمطلوب تفسير حاجات المسلمين وليس تفسير القرآن كاملا حسب تعبيره.
- الموضوعية، وتعني تناول موضوعات بعينها ودراستها ضمن أنساق كلية عوضا عن “تفسير القرآن جزءا بعد جزء، حزبا بعد حزب، سورة بعد سورة.. نفسر ما نعرفه وما لا نعرفه، ما نحتاجه وما لا نحتاجه، تفسير لا في زمان ولا في مكان”.
- الزمانية، ويقصد بها أنه يبتغي تقديم صورة صورة للقرآن لجيل بعينه وليس لكل الأجيال، وفي عصر بعينه وليس لكل العصور، والتفسير على هذا النحو له غاية عملية وليست نظرية وهي تغيير أحوال المسلمين، وهو مرتبط بالمسلمين في التاريخ ولا يبحث عن الإسلام كحقيقة أبدية خارج التاريخ.
- الواقعية، أي أنه يبدأ من واقع الناس ومشكلاتهم وأحزانهم ولا يبدأ من فراغ أو من فكرة نظرية مجردة.
- المقاصدية، ويقصد بها كونه تفسيرا بالمعنى والمقصد وليس تفسيرا بالحرف واللفظ، فالوحي مقاصد كما يقول الأصوليون، والشرع يدور حول المقاصد الخمس والمصلحة أساس الشرع.
- التجريبية، وتعني دمج التجارب الحية التي يعيشها المفسر ولا يستبعدها من التفسير لأن التفسير جزء من الحياة.
- الجماعية، وهذا التفسير لا ينهض به المفسر وإنما يتعاون معه علماء الاجتماع والسياسة والاقتصاد، لأنها العلوم التي تقوم بإحصاء الواقع ورصده وتحليل بياناته[6].
وفي التحليل الأخير فإن ما يدعو إليه حسن حنفي ليس تفسيرا كما يزعم، إذ التفسير لابد أن ينطلق من النص متوسلا بأدوات ومناهج وثيقة الصلة به، أما الانطلاق من الواقع والدوران حوله فلا ينتج إلا “تفسيرا” للواقع ليس له تعلق بالنص في قليل أو كثير.
[1] الدكتور حسن حنفي مفكر وفيلسوف مصري، ولد بالقاهرة عام 1935 وتخرج من كلية الآداب قسم الفلسفة، ثم سافر إلى باريس وحصل على درجة الدكتوراه عن “ظاهريات التأويل”، وعمل أستاذا للفلسفة في عدة جامعات عربية وعالمية.
[2] فهد القرشي، موقف حسن حنفي من القرآن الكريم https://cutt.us/ublSc
[3] حسن حنفي، قضايا معاصرة في فكرنا المعاصر، ص 176-177.
[4] نفس المرجع السابق، ص 177.
[5] حسن حنفي، الدين والثورة، ج7، ص 71-74.
[6] نفس المرجع السابق، ص 101-110.